تنقلنا الموسيقى إلى عالم آخر، وتحملنا بعيدًا عن همومنا ومشكلاتنا، ويمكن لموسيقانا المفضلة أن تفرحنا وتبكينا، أو أن توقظ فينا مشاعر الشوق والحنين. ترافقنا الموسيقى في الاحتفالات والأعياد والمناسبات والتراتيل الدينية، ووجودها قديم قدم الحضارات، فقد تفردت كل حضارة بموسيقاها، وكل عصر بموسيقيّيه. فكيف تمكنت الموسيقى من التأثير في الأفراد والجماعات على مر العصور؟ تطلبت الإجابة عن هذا السؤال دراسة عميقة لألغاز العقل البشري، وكانت النتيجة فهمًا للدور الذي قد تؤديه الموسيقى في نمو الدماغ والتعلم وتحسين المزاج، وحتى الصحة.

لا تقتصر التأثيرات المفيدة للموسيقى في الدماغ على نوع واحد من الموسيقى، فيمكن لكل نوع منها، سواءً أكانت موسيقى الجاز أو الروك أو حتى الميتال، أن يعطي النتائج ذاتها، ما دام يتماشى مع تفضيلاتنا.

ربما كان لنمط الموسيقى دور في حالات أخرى، إذ يساهم كل نوع على حِدة في حل مشكلة معينة، وفقًا للخبراء. يمكن للموسيقى المبهجة، متضمنةً الأغاني ذات الكلمات الإيجابية مثلًا، أن تزيد من طاقتنا وتحفز عقلنا على التعلم، في حين تساعدنا الموسيقى الهادئة على التركيز عندما نحتاج إلى قراءة مواد معينة أو كتابتها أو دراستها مثلًا. وقد يتجه بعض الأشخاص إلى استخدام موسيقاهم المفضلة، سواءً أكانت هادئة أم صاخبة، في مساعدتهم على إنجاز المهام.  

كيف يستجيب الدماغ للموسيقى؟

عام 2006، درس أستاذان من جامعة سنترال فلوريدا، عالم الأعصاب كيمينوبو سوغايا وعازفة الكمان المشهورة أياكو يونيتاني، كيفية تأثير الموسيقى في وظائف المخ والسلوك البشري، متضمنًا تقليل التوتر والألم وأعراض الاكتئاب، إضافةً إلى تحسين المهارات المعرفية والحركية والتعلم المكاني والزماني وتكوين الخلايا العصبية، أي قدرة الدماغ على إنتاج الخلايا العصبية. يدرس كل منهما استجابة الأشخاص المصابين بأمراض التنكس العصبي -مثل ألزهايمر وباركنسون- إيجابيًا للموسيقى.

أثر الموسيقى في كل جزء من أجزاء الدماغ، وفقًا لدراسة سوغايا ويونيتاني:

الفص الجبهي: نستخدم الفص الجبهي أو الأمامي في التفكير والتخطيط واتخاذ القرار. وفقًا للدراسة آنفة الذكر: «الفص الجبهي هو الأهم للإنسان، الذي يمتلك فصًا جبهيًا كبيرًا مقارنةً بالحيوانات الأخرى، وتساعد الموسيقى على تحسين وظائفه».

الفص الصدغي: يفسر الفص الصدغي ما نسمعه من أصوات، ووفقًا ليوناتيني فإننا «نستخدم مركز اللغة لتقدير الموسيقى، والذي يمتد على جانبي الدماغ، إذ تجري ترجمة اللغة والكلمات في النصف المخي الأيسر، في حين تُفسر الموسيقى والأصوات في النصف الأيمن».

باحة بروكا: المسؤولة عن قدرتنا على الكلام. ووفقًا ليونيتاني فإننا «نستخدم هذا الجزء من الدماغ للتعبير عن الموسيقى، وقد يحسّن العزف على آلة موسيقية من قدرتنا على التواصل».

باحة فيرنيكه: المسؤولة عن فهم اللغة المكتوبة والمنطوقة. تقول يوناتيني إننا «نستخدم هذا الجزء من الدماغ لتحليل الموسيقى والاستمتاع بها».

الفص القفوي/القذالي: يفسّر ما نراه، ويقول سوغايا إن «الموسيقيين المحترفين يستخدمون القشرة القذالية -القشرة البصرية- عندما يستمعون إلى الموسيقى، في حين يستخدم الأشخاص العاديون الفص الصدغي، وهو مركز السمع واللغة. يشير ذلك إلى أن الموسيقيين ربما يتخيلون تسجيلًا موسيقيًا عندما يستمعون إلى الموسيقى».

المخيخ: ينسق الحركة ويخزن الذاكرة، ويذكر سوغايا أن مريض ألزهايمر «قد لا يتمكن من التعرف على زوجته، في حين أنه قد يتمكن من العزف على البيانو إذا تعلم ذلك عندما كان صغيرًا، لأن العزف أصبح ذاكرةً عضلية، وتلك الذكريات لا تتلاشى أبدًا».

النواة المتكئة: تسعى لإكسابنا المتعة والمكافأة، ولها دور كبير في الإدمان، إذ تفرز الناقل العصبي الدوبامين. يقول سوغايا: «قد تصبح الموسيقى مخدرًا شديد الإدمان، لأنها تؤثر أيضًا في الجزء ذاته من الدماغ المتعلق بآلية تأثير المخدرات غير المشروعة، إذ تزيد الموسيقى من الدوبامين في النواة المتكئة، على غرار الكوكايين».

اللوزة: تعالج المشاعر وتثيرها، وتذكر يونيتاني أنه: «قد تتحكم الموسيقى في خوفنا، وتجعلنا على استعداد للقتال وقد تزيد المتعة».

الحُصين: ينتج الذكريات ويستعيدها، وينظم الاستجابات العاطفية ويساعدنا على التنقل. يُعد وحدة المعالجة المركزية للدماغ، وهو من أكثر مناطق الدماغ تأثرًا بمرض ألزهايمر. تقول يونيتاني: «قد تزيد الموسيقى من تكوين الخلايا العصبية في الحُصين، ما يسمح بإنتاج خلايا عصبية جديدة، وتحسين الذاكرة».

الوطاء: يحافظ على الوضع المستقر للجسد، ويربط بين الغدد الصماء والجهاز العصبي، وينتج ويطلق الهرمونات والمواد الكيميائية الأساسية التي تنظم العطش والشهية والنوم والمزاج ومعدل ضربات القلب ودرجة حرارة الجسم والتمثيل الغذائي والنمو والدافع الجنسي. يقول سوغايا: «ينخفض معدل ضربات القلب وضغط الدم عند عزف الموسيقى».

الجسم الجاسئ المخي: يمكّن نصفي الكرة المخية الأيمن والأيسر من التواصل، ما يسمح بحركة الجسم المنسقة، إضافةً إلى معالجته الأفكار المعقدة التي تتطلب المنطق (الجانب الأيسر) والحدس (الجانب الأيمن). يقول سوغايا: «لو كنتَ موسيقيًا، على دماغك أن ينسق بين نصفيه الأيمن والأيسر ليتواصلا معًا» إذ يسمح ذلك لعازفي البيانو مثلًا بترجمة النوطة المكتوبة على ورق إلى ضغطات مفاتيح.

البطامة: الجزء المسؤول عن تنظيم حركة الجسم. تقول يونيتاني: «بوسع الموسيقى أن تزيد الدوبامين في هذه المنطقة، ومن استجابتنا للإيقاع». بذلك توقف الموسيقى من أعراض مرض باركنسون مؤقتًا، إذ استُخدمت الموسيقى الإيقاعية لمساعدة مرضى باركنسون على أداء مهامهم اليومية، مثل النهوض والنزول، وحتى المشي، لأن مرضى باركنسون يحتاجون إلى المساعدة في الحركة، وبوسع الموسيقى أن تساعدهم على ذلك.

كيف تحسن الموسيقى المزاج وتقلل من التوتر؟

يقلل الاستماع إلى الموسيقى من التوتر المزمن، بخفض مستويات هرمون الإجهاد –الكورتيزول- فتُشعرنا الموسيقى بمزيد من الأمل والقوة والتحكم. قد يساهم الاستماع إلى الموسيقى أيضًا في زيادة إفراز الإندورفين، ومن ثم مساعدتنا في التغلب على الألم. وبالتحكم في هذه الهرمونات في أجسادنا، قد نتمكن من التحكم في مزاجنا اليومي إلى حد ما.

للاستماع إلى الموسيقى الحزينة فوائد أيضًا، إذ قد يكون له ذات تأثير المسكنات، ويساعدنا على التواصل مع مشاعرنا من أجل التعافي.

تعزز الموسيقى كيمياويات الدماغ، إذ يزيد الاستماع إلى الموسيقى من إفراز الناقل العصبي الدوبامين، وهو جزء لا يتجزأ من نظام المتعة والمكافأة في أجسادنا. فعندما تظهر إحدى الأغاني المفضلة لديك ظهورًا غير متوقع، تزداد نسبة الدوبامين في جسدك، أما تشغيل الموسيقى مع الآخرين، أو الاستمتاع بالموسيقى في العروض المباشرة فيؤدي إلى تحفيز هرمون الأوكسيتوسين في الدماغ. يُطلق على الأوكسيتوسين اسم «جزيء الثقة» إذ يساعدنا على الارتباط بالآخرين وتطوير مشاعر الثقة تجاههم.

كيف تجعلنا الموسيقى أكثر إنتاجية وإبداعًا؟

تدعم أدلة كثيرة فعالية الاستماع إلى الموسيقى في زيادة السعادة والإنتاجية، خاصةً إذا أُتيح للشخص اختيار موسيقاه المفضلة. إذ ثبت أن السماح للعاملين في المكاتب بالاستماع إلى موسيقاهم المفضلة، يساعدهم على إكمال المهام بسرعة أكبر، والتوصل إلى أفكار أفضل مقارنةً بمن لا يتحكمون في موسيقاهم. تعمل موسيقى الخلفية على تحسين الأداء في المهام المعرفية وتحسين الدقة، وتمكّن إكمال المهام المتكررة بصورة أكفأ.

بدراسة تأثير الموسيقى في الإنتاجية في بعض المهن المحددة، وجد أن مطوري البرمجيات كانوا أسعد وأنتجوا عملًا أفضل بكفاءة أكبر عند الاستماع إلى الموسيقى. وعندما استمع الجراحون إلى الموسيقى في أثناء الجراحة، كانوا أقل إجهادًا وعملوا عملًا أسرع وأدق، خاصةً إذا سُمح لهم باختيار الموسيقى.

تحافظ الموسيقى على قوة شبكات الدماغ، لأن بإمكانها تنشيط جميع مناطق الدماغ وشبكاته تقريبًا، وبذلك تساهم في الحفاظ على صحة عدد لا يُحصى من مسارات الدماغ وشبكاته، متضمنةً تلك الشبكات التي تشارك في الرفاهية والتعلم والوظيفة المعرفية ونوعية الحياة والسعادة.

كيف يمكن للموسيقى أن تجعل منّا أناسًا أفضل؟

تتمتع الموسيقى بقدرتها على تحسين حالتنا النفسية وتواصلنا، ومن ثم جعلنا أناسًا أفضل. وقد أُجريت بعض الدراسات المثيرة للاهتمام حول أثر الموسيقى في السلوكيات الاجتماعية الإيجابية، وهي سلوكيات تطوعية تهدف إلى إفادة الآخرين، مثل التعاطف واللطف والكرم والمساعدة والتعاون، إذ يجعل الاستماع إلى الموسيقى الناس أكثر ميلًا لبذل الوقت والجهد في مساعدة الآخرين، ويكون ذلك واضحًا خصوصًا عند تشغيل الموسيقى في مجموعات، مثل مجموعات الرقص أو حفلات العزف على الآلات. وقد لوحظ هذا التأثير الاجتماعي الإيجابي للموسيقى عند كل من الأطفال والبالغين.

لطالما كانت الموسيقى جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، استخدمها كبار الأطباء القدامى لغايات علاجية، واتخذت شكلًا أهم عندما برز العلاج بالموسيقى في القرن العشرين، فوجودها لم يقتصر على الرفاهية والتسلية، بل تعدى ذلك إلى تخفيف الآلام البدنية وتحسين الحالات النفسية. لذا ينبغي للمرء أن يخصص جزءًا من أوقاته لسماع الموسيقى، لأثرها الكبير في تخفيف الضغط اليومي والهموم، وتحسين مستوى الذكاء التفاعلي، ومن ثم جعلنا أشخاصًا أفضل مع أنفسنا ومع الآخرين.

المصادر:

المصدر الاول 

المصدر الثاني 

المصدر الثالث 

المصدر الرابع 

المصدر الخامس 

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا