ما الملكية الدستورية؟

حتى من دون دستور مكتوب، تتبع بريطانيا القوانين والأعراف الموثقة بحرص، التي يلتزم بها الملك.

من الموضوعات التي كانت في لُب خطاب الملك تشارلز الثالث أمام البرلمان البريطاني، وفي تصريحاته وتصرفاته العلنية كلها تقريبًا منذ وفاة الملكة إليزابيث كما يقول العديد من الخبراء: صَون نظام الملكية الدستورية البريطاني.

وأنهى خطابه بتذكر وعد والدته «بالحفاظ على المبادئ الثمينة للحكومة الدستورية الراسخة في صميم أمتنا»، والتعهد بأن يحذو حذوها.

أثار ذلك سؤالًا عند بعض المشاهدين الأجانب: كيف يمكن قيام ملكية دستورية من دون دستور مكتوب؟

لا تمتلك بريطانيا وثيقةً دستورية واحدة كالتي أقرتها الولايات المتحدة عام 1788، أو كالتي رفضها الناخبون التشيليون في سبتمبر 2022، لكنها تتبع رغم ذلك القوانين والأعراف الموثقة بعناية، التي تشكل معًا دستورًا يلتزم به الملك.

تراكمت هذه القوانين عبر قرون من التشريعات وكتلة من الأعراف المحيطة بها، إذ يبدأ شرح الملكية الدستورية البريطانية الذي تقدمه مكتبة مجلس اللوردات بالوثيقة العظمى عام 1215، والقيود الأولية على السلطة الملكية، ويستمر عبر مجموعة من التواريخ القانونية إلى عام 1701، عندما تدخل البرلمان في الخلافة الملكية.

ومعًا يجعلان الملك حاكمًا دستوريًا: تجسيدًا للسلطة والدولة من دون أي دور شخصي عام في السياسة، وبقيود مشددة حتى على النفوذ الشخصي.

اعترف تشارلز بهذه الأعراف للمشرعين، بالبدء بالثناء على «التقاليد البرلمانية الأساسية» رابطًا إياها بالسقف الخشبي القروسطي المقبب في قاعة وستمنستر، المبنى البرلماني الذي كان يتحدث فيه.

تعرضت التقاليد الدستورية لبعض الضغوط في البرلمان في السنوات الأخيرة، عندما سعى رئيس الوزراء بوريس جونسون إلى تمرير تشريعه بشأن مغادرة الاتحاد الأوروبي، وقد استجلب أحد استخدامات السلطة التنفيذية، وهو تعليق عمل البرلمان مدة أسابيع، تقريعًا من المحكمة العليا البريطانية.

قالت الأستاذة ميغ راسل، مديرة الوحدة الدستورية بكلية لندن الجامعية، للتايمز عام 2019: «يعتمد دستورنا أساسًا على المشاعر البريطانية المتعلقة باللياقة والمعاملة العادلة، ويفترض أن الذين سيصلون إلى مناصب عليا سيحترمون الأعراف والسوابق والقواعد غير المكتوبة».

بالمقابل، حافظت الملكة على شعبية النظام الملكي جزئيًا، بفضل ما وصفه ابنها للمشرعين في خطابه أنه «تفانٍ غير مسبوق» في سبيل تقاليد منضبطة.

صلاحيات عاهل المملكة المتحدة:

يتمتع العاهل الدستوري المعاصر للمملكة المتحدة، حاليًا الملك تشارلز الثالث، بالمسؤولية القانونية المطلقة عن مجموعة من الوظائف الأساسية في عمل النظام السياسي، من بينها:

  • تعيين الوزراء ورئيس الوزراء وعزلهم.
  • حل البرلمان وإجراء انتخابات عامة.
  • «تعطيل» البرلمان، أي حلّه فترةً محددة من الوقت.
  • إقرار أهم القوانين -التشريعات الأولية- بمنحها ما يُعرف بالموافقة الملكية.
  • تعيين أعضاء مجلس اللوردات.
  • إدارة الدبلوماسية والموافقة على المعاهدات.
  • تولي مهام قائد القوات المسلحة، ويكون بذلك مسؤولًا عن نشرها داخل المملكة المتحدة وخارجها، يشمل ذلك الأعمال العدائية المحتملة أو الفعلية.
  • تولي مهام رئيس كنيسة إنجلترا، الديانة الرسمية في إنجلترا.
  • منح الأوسمة.

ما الملكية المطلقة؟

الملكية المطلقة شكل من أشكال الحكومة حيث يتمتع شخص واحد -ملك أو ملكة عادةً- بالسلطة المطلقة الفردية. في الملكية المطلقة، يكون تعاقب السلطة وراثيًا عمومًا، وينتقل العرش بين أفراد العائلة الحاكمة.

ظهرت الملكية المطلقة في القرون الوسطى وسادت معظم أوروبا الغربية بحلول القرن السادس عشر. إلى جانب فرنسا، مُمَثلة بالملك لويس الرابع عشر، حكم الملوك المطلقون دولًا أوروبية أخرى، منضمنةً إنجلترا وإسبانيا وبروسيا والنمسا. ثم تراجع انتشار الملكيات المطلقة بشدة بعد الثورة الفرنسية، ما فتح الطريق لظهور مبدأ السيادة الشعبية، أو حكومة الشعب.

من الدول المعاصرة التي يتمتع حكامها بالسلطة المطلقة: اتحاد بروناي، ومملكة إسواتيني، وسلطنة عمان، والمملكة العربية السعودية، ومدينة الفاتيكان، والإمارات العربية المتحدة.

تعريف الملكية المطلقة: «أنا الدولة»

في الملكية المطلقة، كما في الدكتاتورية، قد لا تكون سلطة الحاكم المطلق وتصرفاته معرضة للتشكيك أو التقييد بموجب أي قانون مكتوب أو هيئة تشريعية أو محكمة أو عقوبة اقتصادية أو دين أو عرف أو عملية انتخابية. وربما أفضل وصف للسلطة الحكومية التي يتمتع بها حاكم مطلق يُنسب إلى ملك فرنسا لويس الرابع عشر، «ملك الشمس»، الذي أوردت تقارير أنه صرح قائلًا: «أنا الدولة».

في الإدلاء بهذا التصريح الجريء، استمد لويس الرابع عشر الإلهام من النظرية القديمة للملكية المطلقة، المعروفة باسم «الحق إلإلهي للملوك»، التي تؤكد أن سلطة الملوك هبة منحهم إياها الله. وهكذا لا يستجيب الملك لرعاياه ولا للأرستقراطيين أو الكنيسة. تاريخيًا، ادعى الملوك المطلقون الطغاة أنهم بتنفيذ الأعمال الوحشية كانوا يطبقون عقوبة الله المحتّمة على «خطايا» الشعب، وأي محاولة حقيقية أو متخيلة للإطاحة بالملك أو تقييد سلطته كانت تُرى إهانة لمشيئة الله.

من الأمثلة الكلاسيكية على السلطة التامة للملوك المطلقين حكم ملك إنجلترا هنري الثامن، الذي أمر بقطع رؤوس عدد من أبناء عمومته واثنتين من زوجاته الست. عام 1520، طلب هنري من البابا إبطال زواجه بزوجته كاثرين الأراغونية لأنها لم تنجب له صبيًا، وعندما رفض البابا، استخدم هنري حقه الإلهي ليبعد البلاد عن الكنيسة الكاثوليكية وينشئ الكنيسة الأنجليكانية الإنجليزية.

في الملكية المطلقة، يُحرم عامة الناس من حقوقهم الطبيعية، ويتمتعون بميزات قليلة محدودة فقط يمنحهم إياها الملك، ويجري التعامل مع ممارسة  أي دين لا يقره الملك بأنه جريمة خطرة. لا رأي للشعب البتة في الحكومة أو إدارة البلاد، وكل القوانين يصدرها الحكام وغالبًا ما تكون في خدمة مصالحهم فقط. وتُعد الشكوى أو الاحتجاج على الملك خيانة عقابها التعذيب والموت.

ما الفرق بين الملكية المطلقة والملكية الدستورية؟

في الملكية الدستورية، يتشارك الملك السلطة مع حكومة مُحددة دستوريًا، فبدلًا من أن يتمتع الحكام الدستوريون بسلطة غير محدودة كما في الملكية المطلقة، يجب عليهم استخدام سلطتهم وفقًا للحدود والعمليات التي يحددها دستور مكتوب أو غير مكتوب.

ينص الدستور عادة على فصل السلطات والواجبات بين الملك والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، وعلى عكس الملكيات المطلقة، تمنح الملكيات الدستورية إجمالًا الشعب صوتًا في حكومته من خلال عمليات انتخابية محدودة.

في بعض الملكيات الدستورية، كالمغرب والأردن والكويت والبحرين، يمنح الدستور سلطات تقديرية كبيرة للملك، وفي الملكيات الدستورية الأخرى، كالمملكة المتحدة وإسبانيا والسويد واليابان، لا يشارك الملك إلا قليلًا في الحكومة، ويشغل بدلًا من ذلك أدوارًا مراسمية وملهمة بصورة أساسية.

المصادر:

المصدر الاول

المصدر الثاني

المصدر الثالث

دخلت المأكولات المُعدَّلة وراثيًا أسواق الاستهلاك منذ تسعينيات القرن الماضي، وما زال يُثار الجدل بشأن سلامتها حتى يومنا، فما حقيقة الأضرار المزعومة التي يسببها التحوير الوراثي للأغذية؟

ما الأغذية المعدلة وراثيًا؟ وكيف تُطور؟

الأغذية المعدلة وراثيًا، وتُسمى أحيانًا الأطعمة المحورة وراثيًا أو المأكولات المعدلة جينيًا، هي محاصيل زراعية خضعت للتعديل الجيني بهدف تحسين صفاتها أو مكوناتها. تُنتج هذه التعديلات بواسطة تقنيات الهندسة الوراثية، التي تسمح بإجراء تغييرات دقيقة في بنية الجينات. وقد طُبقت التحسينات الوراثية على محاصيل متنوعة، مثل البطاطا والفليفلة والذرة والحبوب. 

هل الأغذية المعدلة وراثيًا ضارة؟ 

رغم الخوف من الآثار الجانبية للأطعمة المعدلة وراثيًا، بات واضحًا أنها آمنة تمامًا كالمأكولات التقليدية. لقد توصل الباحثون إلى ذلك بعد إجراء أكثر من مئة دراسة قارنت بين تأثيرات الأطعمة التقليدية وتأثيرات المأكولات التي خضعت للتغيير الوراثي. 

خلُصت الهيئات الأمريكية المعنية بمراقبة المواد الغذائية وتنظيمها -وهي إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، ووكالة الحماية البيئية، ووزارة الزراعة- إلى أن الأغذية المُعدلة وراثيًا آمنة تمامًا. في الحقيقة، كثيرًا ما تكون هذه الأغذية أكثر فائدة!

المأكولات المعدلة وراثيًا وصحة الأعضاء:

من أبرز الاتهامات الموجهة إلى الأطعمة المعدلة وراثيًا أنها تسبب تخريب أعضاء الجسم. للتحقق من ذلك، أجرى العلماء اختبارات على القوارض، قارنوا فيها بين مجموعات القوارض التي تناولت أطعمة معدلة وراثيًا لفترات محددة، ومجموعات لم تتناولها. فُحصت أعضاء هذه الحيوانات وأنسجتها تحت المجهر بعد موتها، بواسطة الفحص النسيجي المرضي «الباثولوجي»، وهو الفحص ذاته الذي يُستخدم لكشف السرطان لدى البشر. أظهرت النتائج أن أنسجة القوارض التي تناولت الأطعمة المعدلة وراثيًا لا تختلف عن تلك التي تناولت غذاءً تقليديًا. 

هل تؤثر الأغذية المعدلة وراثيًا في الإنجاب؟ 

يخشى البعض تأثير الأطعمة المعدلة وراثيًا في الأجيال اللاحقة، وتحديدًا في القدرة الإنجابية والنساء الحوامل والأجنة. للإجابة عن ذلك، أُجريت دراسة تتبعت أربعة أجيال من القوارض تناولت أطعمة معدلة وراثيًا طوال حياتها. لم تتأثر القدرة الإنجابية، ولم تظهر أي تأثيرات سلبية على الإناث الحوامل أو الأجنة النامية. تسمح لنا هذه الدراسات بتقييم سلامة الأغذية المعدلة جينيًا لدى الإنسان على نحو كبير.

هل تنتقل الجينات المعدلة إلى البشر؟ وهل تسبب السرطان؟ 

اقترح البعض أن الجينات المعدلة في النباتات المستهلكة غذائيًا غير مستقرة بنيويًا، لذا فإنها قد تسهم في حدوث طفرات لدى من يتناولها. من المعروف أن الطفرات الوراثية قد تترافق بالسرطانات. قيست معدلات حدوث الطفرات لدى الحيوانات التي استهلكت أصنافًا من الأطعمة المعدلة جينيًا، فتبين من خلال أبحاث متكررة أنها مماثلة للمعدلات الطبيعية. أي أن التعديل الجيني في هذه النباتات لا يزيد احتمال حدوث الطفرات لدى المستهلكين.

ظهرت أيضًا مخاوف من انتقال المورثات المُعدَّلة إلى الإنسان. هذه المخاوف لا تستند إلى أي أساس علمي، فالإنسان يستهلك يوميًا المادة الوراثية الموجودة في الأطعمة النباتية والحيوانية، دون أن تنتقل الجينات إلى الخلايا البشرية. ومع ذلك، جرى التحقق من ذلك عمليًا من خلال التجارب، وتبين أن المادة الوراثية المعدلة الموجودة في الأطعمة لا تندمج في المورثات البشرية ولا تؤثر فيها. 

المأكولات المعدلة وراثيًا وخطر التحسس:

يحدث التحسس لدى البعض عندما يتعرضون لمادة غريبة قادرة على تفعيل رد الفعل التحسسي لديهم. تسبب مكونات موجودة في بعض المأكولات حساسية غذائية لدى البشر، أهمها الفستق والحليب والبيض والسمك والقمح. فإذا ظهرت الحساسية لدى شخص ما بعد تناول الفستق العادي، فمن المتوقع أن يتحسس أيضًا من سلالات الفستق المعدلة وراثيًا. أما إذا لم يتحسس من السلالات التقليدية، فلن يتحسس من السلالة المعدلة. السبب أن المادة المسببة لحساسية الفستق موجودة في كل من السلالات المعدلة وراثيًا وغير المعدلة. بمعنى آخر، لا يسبب التعديل الوراثي بحد ذاته التحسس الغذائي. 

هل يخفض التعديل الجيني القيمة الغذائية للأطعمة؟ 

على العكس! كثيرًا ما تتفوق المأكولات المعدلة وراثيًا على الأطعمة العادية. فمثلًا، يمكن بواسطة التعديل الوراثي إنتاج نمط من فول الصويا ينتج زيوتًا أكثر فائدة للجسم مقارنةً بالزيوت المهدرجة. في مثال آخر، جرى تطوير محاصيل طماطم تحتوي كميات كبيرة من مضادات الأكسدة. بعد أن تناولت مجموعة من الأفراد هذه الطماطم فترةً من الزمن، انخفضت نسبة الإصابة بالسرطان لديهم. في الواقع، التعديل الوراثي أداة رائعة لتحسين فوائد الأطعمة التي نتناولها، إذ تستطيع الهندسة الوراثية انتقاء السمات المُحبذة وتعزيزها.

كيف نتحقق من سلامة المأكولات المعدلة وراثيًا؟

تخضع الأطعمة المعدلة وراثيًا لاختبارات صارمة ومراحل محكمة قبل تقديمها للمستهلك، وتشترط إدارة الغذاء والدواء الأمريكية التحقق من أن الأطعمة المعدلة وراثيًا مماثلة للأطعمة الأخرى من ناحية السلامة، قبل طرحها. 

لا بد من الحذر من المعلومات المضللة المنتشرة على الإنترنت، والتحقق من موثوقية المصادر التي نأخذ التوصيات منها. للتحقق من المعلومات المتعلقة بالأغذية المحورة وراثيًا، يوفر مركز تقييم الخطر البيئي الأمريكي قاعدة بيانات مفتوحة للعامة للاطلاع على تاريخ تطوير المحاصيل الزراعية المعدلة وراثيًا، ونمط التعديل المستخدم فيها، والقوانين التي تنظم ذلك في دول العالم.

ترجمة: سارة حسن الدنيا

المصادر: 

1- المصدر الاول 

2- المصدر الثاني

3- المصدر الثالث

تنقلنا الموسيقى إلى عالم آخر، وتحملنا بعيدًا عن همومنا ومشكلاتنا، ويمكن لموسيقانا المفضلة أن تفرحنا وتبكينا، أو أن توقظ فينا مشاعر الشوق والحنين. ترافقنا الموسيقى في الاحتفالات والأعياد والمناسبات والتراتيل الدينية، ووجودها قديم قدم الحضارات، فقد تفردت كل حضارة بموسيقاها، وكل عصر بموسيقيّيه. فكيف تمكنت الموسيقى من التأثير في الأفراد والجماعات على مر العصور؟ تطلبت الإجابة عن هذا السؤال دراسة عميقة لألغاز العقل البشري، وكانت النتيجة فهمًا للدور الذي قد تؤديه الموسيقى في نمو الدماغ والتعلم وتحسين المزاج، وحتى الصحة.

لا تقتصر التأثيرات المفيدة للموسيقى في الدماغ على نوع واحد من الموسيقى، فيمكن لكل نوع منها، سواءً أكانت موسيقى الجاز أو الروك أو حتى الميتال، أن يعطي النتائج ذاتها، ما دام يتماشى مع تفضيلاتنا.

ربما كان لنمط الموسيقى دور في حالات أخرى، إذ يساهم كل نوع على حِدة في حل مشكلة معينة، وفقًا للخبراء. يمكن للموسيقى المبهجة، متضمنةً الأغاني ذات الكلمات الإيجابية مثلًا، أن تزيد من طاقتنا وتحفز عقلنا على التعلم، في حين تساعدنا الموسيقى الهادئة على التركيز عندما نحتاج إلى قراءة مواد معينة أو كتابتها أو دراستها مثلًا. وقد يتجه بعض الأشخاص إلى استخدام موسيقاهم المفضلة، سواءً أكانت هادئة أم صاخبة، في مساعدتهم على إنجاز المهام.  

كيف يستجيب الدماغ للموسيقى؟

عام 2006، درس أستاذان من جامعة سنترال فلوريدا، عالم الأعصاب كيمينوبو سوغايا وعازفة الكمان المشهورة أياكو يونيتاني، كيفية تأثير الموسيقى في وظائف المخ والسلوك البشري، متضمنًا تقليل التوتر والألم وأعراض الاكتئاب، إضافةً إلى تحسين المهارات المعرفية والحركية والتعلم المكاني والزماني وتكوين الخلايا العصبية، أي قدرة الدماغ على إنتاج الخلايا العصبية. يدرس كل منهما استجابة الأشخاص المصابين بأمراض التنكس العصبي -مثل ألزهايمر وباركنسون- إيجابيًا للموسيقى.

أثر الموسيقى في كل جزء من أجزاء الدماغ، وفقًا لدراسة سوغايا ويونيتاني:

الفص الجبهي: نستخدم الفص الجبهي أو الأمامي في التفكير والتخطيط واتخاذ القرار. وفقًا للدراسة آنفة الذكر: «الفص الجبهي هو الأهم للإنسان، الذي يمتلك فصًا جبهيًا كبيرًا مقارنةً بالحيوانات الأخرى، وتساعد الموسيقى على تحسين وظائفه».

الفص الصدغي: يفسر الفص الصدغي ما نسمعه من أصوات، ووفقًا ليوناتيني فإننا «نستخدم مركز اللغة لتقدير الموسيقى، والذي يمتد على جانبي الدماغ، إذ تجري ترجمة اللغة والكلمات في النصف المخي الأيسر، في حين تُفسر الموسيقى والأصوات في النصف الأيمن».

باحة بروكا: المسؤولة عن قدرتنا على الكلام. ووفقًا ليونيتاني فإننا «نستخدم هذا الجزء من الدماغ للتعبير عن الموسيقى، وقد يحسّن العزف على آلة موسيقية من قدرتنا على التواصل».

باحة فيرنيكه: المسؤولة عن فهم اللغة المكتوبة والمنطوقة. تقول يوناتيني إننا «نستخدم هذا الجزء من الدماغ لتحليل الموسيقى والاستمتاع بها».

الفص القفوي/القذالي: يفسّر ما نراه، ويقول سوغايا إن «الموسيقيين المحترفين يستخدمون القشرة القذالية -القشرة البصرية- عندما يستمعون إلى الموسيقى، في حين يستخدم الأشخاص العاديون الفص الصدغي، وهو مركز السمع واللغة. يشير ذلك إلى أن الموسيقيين ربما يتخيلون تسجيلًا موسيقيًا عندما يستمعون إلى الموسيقى».

المخيخ: ينسق الحركة ويخزن الذاكرة، ويذكر سوغايا أن مريض ألزهايمر «قد لا يتمكن من التعرف على زوجته، في حين أنه قد يتمكن من العزف على البيانو إذا تعلم ذلك عندما كان صغيرًا، لأن العزف أصبح ذاكرةً عضلية، وتلك الذكريات لا تتلاشى أبدًا».

النواة المتكئة: تسعى لإكسابنا المتعة والمكافأة، ولها دور كبير في الإدمان، إذ تفرز الناقل العصبي الدوبامين. يقول سوغايا: «قد تصبح الموسيقى مخدرًا شديد الإدمان، لأنها تؤثر أيضًا في الجزء ذاته من الدماغ المتعلق بآلية تأثير المخدرات غير المشروعة، إذ تزيد الموسيقى من الدوبامين في النواة المتكئة، على غرار الكوكايين».

اللوزة: تعالج المشاعر وتثيرها، وتذكر يونيتاني أنه: «قد تتحكم الموسيقى في خوفنا، وتجعلنا على استعداد للقتال وقد تزيد المتعة».

الحُصين: ينتج الذكريات ويستعيدها، وينظم الاستجابات العاطفية ويساعدنا على التنقل. يُعد وحدة المعالجة المركزية للدماغ، وهو من أكثر مناطق الدماغ تأثرًا بمرض ألزهايمر. تقول يونيتاني: «قد تزيد الموسيقى من تكوين الخلايا العصبية في الحُصين، ما يسمح بإنتاج خلايا عصبية جديدة، وتحسين الذاكرة».

الوطاء: يحافظ على الوضع المستقر للجسد، ويربط بين الغدد الصماء والجهاز العصبي، وينتج ويطلق الهرمونات والمواد الكيميائية الأساسية التي تنظم العطش والشهية والنوم والمزاج ومعدل ضربات القلب ودرجة حرارة الجسم والتمثيل الغذائي والنمو والدافع الجنسي. يقول سوغايا: «ينخفض معدل ضربات القلب وضغط الدم عند عزف الموسيقى».

الجسم الجاسئ المخي: يمكّن نصفي الكرة المخية الأيمن والأيسر من التواصل، ما يسمح بحركة الجسم المنسقة، إضافةً إلى معالجته الأفكار المعقدة التي تتطلب المنطق (الجانب الأيسر) والحدس (الجانب الأيمن). يقول سوغايا: «لو كنتَ موسيقيًا، على دماغك أن ينسق بين نصفيه الأيمن والأيسر ليتواصلا معًا» إذ يسمح ذلك لعازفي البيانو مثلًا بترجمة النوطة المكتوبة على ورق إلى ضغطات مفاتيح.

البطامة: الجزء المسؤول عن تنظيم حركة الجسم. تقول يونيتاني: «بوسع الموسيقى أن تزيد الدوبامين في هذه المنطقة، ومن استجابتنا للإيقاع». بذلك توقف الموسيقى من أعراض مرض باركنسون مؤقتًا، إذ استُخدمت الموسيقى الإيقاعية لمساعدة مرضى باركنسون على أداء مهامهم اليومية، مثل النهوض والنزول، وحتى المشي، لأن مرضى باركنسون يحتاجون إلى المساعدة في الحركة، وبوسع الموسيقى أن تساعدهم على ذلك.

كيف تحسن الموسيقى المزاج وتقلل من التوتر؟

يقلل الاستماع إلى الموسيقى من التوتر المزمن، بخفض مستويات هرمون الإجهاد –الكورتيزول- فتُشعرنا الموسيقى بمزيد من الأمل والقوة والتحكم. قد يساهم الاستماع إلى الموسيقى أيضًا في زيادة إفراز الإندورفين، ومن ثم مساعدتنا في التغلب على الألم. وبالتحكم في هذه الهرمونات في أجسادنا، قد نتمكن من التحكم في مزاجنا اليومي إلى حد ما.

للاستماع إلى الموسيقى الحزينة فوائد أيضًا، إذ قد يكون له ذات تأثير المسكنات، ويساعدنا على التواصل مع مشاعرنا من أجل التعافي.

تعزز الموسيقى كيمياويات الدماغ، إذ يزيد الاستماع إلى الموسيقى من إفراز الناقل العصبي الدوبامين، وهو جزء لا يتجزأ من نظام المتعة والمكافأة في أجسادنا. فعندما تظهر إحدى الأغاني المفضلة لديك ظهورًا غير متوقع، تزداد نسبة الدوبامين في جسدك، أما تشغيل الموسيقى مع الآخرين، أو الاستمتاع بالموسيقى في العروض المباشرة فيؤدي إلى تحفيز هرمون الأوكسيتوسين في الدماغ. يُطلق على الأوكسيتوسين اسم «جزيء الثقة» إذ يساعدنا على الارتباط بالآخرين وتطوير مشاعر الثقة تجاههم.

كيف تجعلنا الموسيقى أكثر إنتاجية وإبداعًا؟

تدعم أدلة كثيرة فعالية الاستماع إلى الموسيقى في زيادة السعادة والإنتاجية، خاصةً إذا أُتيح للشخص اختيار موسيقاه المفضلة. إذ ثبت أن السماح للعاملين في المكاتب بالاستماع إلى موسيقاهم المفضلة، يساعدهم على إكمال المهام بسرعة أكبر، والتوصل إلى أفكار أفضل مقارنةً بمن لا يتحكمون في موسيقاهم. تعمل موسيقى الخلفية على تحسين الأداء في المهام المعرفية وتحسين الدقة، وتمكّن إكمال المهام المتكررة بصورة أكفأ.

بدراسة تأثير الموسيقى في الإنتاجية في بعض المهن المحددة، وجد أن مطوري البرمجيات كانوا أسعد وأنتجوا عملًا أفضل بكفاءة أكبر عند الاستماع إلى الموسيقى. وعندما استمع الجراحون إلى الموسيقى في أثناء الجراحة، كانوا أقل إجهادًا وعملوا عملًا أسرع وأدق، خاصةً إذا سُمح لهم باختيار الموسيقى.

تحافظ الموسيقى على قوة شبكات الدماغ، لأن بإمكانها تنشيط جميع مناطق الدماغ وشبكاته تقريبًا، وبذلك تساهم في الحفاظ على صحة عدد لا يُحصى من مسارات الدماغ وشبكاته، متضمنةً تلك الشبكات التي تشارك في الرفاهية والتعلم والوظيفة المعرفية ونوعية الحياة والسعادة.

كيف يمكن للموسيقى أن تجعل منّا أناسًا أفضل؟

تتمتع الموسيقى بقدرتها على تحسين حالتنا النفسية وتواصلنا، ومن ثم جعلنا أناسًا أفضل. وقد أُجريت بعض الدراسات المثيرة للاهتمام حول أثر الموسيقى في السلوكيات الاجتماعية الإيجابية، وهي سلوكيات تطوعية تهدف إلى إفادة الآخرين، مثل التعاطف واللطف والكرم والمساعدة والتعاون، إذ يجعل الاستماع إلى الموسيقى الناس أكثر ميلًا لبذل الوقت والجهد في مساعدة الآخرين، ويكون ذلك واضحًا خصوصًا عند تشغيل الموسيقى في مجموعات، مثل مجموعات الرقص أو حفلات العزف على الآلات. وقد لوحظ هذا التأثير الاجتماعي الإيجابي للموسيقى عند كل من الأطفال والبالغين.

لطالما كانت الموسيقى جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، استخدمها كبار الأطباء القدامى لغايات علاجية، واتخذت شكلًا أهم عندما برز العلاج بالموسيقى في القرن العشرين، فوجودها لم يقتصر على الرفاهية والتسلية، بل تعدى ذلك إلى تخفيف الآلام البدنية وتحسين الحالات النفسية. لذا ينبغي للمرء أن يخصص جزءًا من أوقاته لسماع الموسيقى، لأثرها الكبير في تخفيف الضغط اليومي والهموم، وتحسين مستوى الذكاء التفاعلي، ومن ثم جعلنا أشخاصًا أفضل مع أنفسنا ومع الآخرين.

المصادر:

المصدر الاول 

المصدر الثاني 

المصدر الثالث 

المصدر الرابع 

المصدر الخامس 

معضلة العربة هي تجربة فكرية في علم الأخلاق مُعترَف بها على نطاق واسع في مجال الفلسفة الأخلاقية، طُرحت لأول مرة في أوائل القرن العشرين، تفترض المعضلة وجود عربة ترام تسير تجاه خمسة أشخاص مقيّدين مُمَدّدين على السكة، وأنك -أو المتحكم- تقف بالقرب من العَتَلَة التي تتحكم في محولة السكة الحديدية. إذا سحبت العتلة، ستتابع العربة سيرها في المسار الثانوي الآخر وستنقذ خمسة أشخاص على المسار الرئيسي. لكن يوجد شخص واحد مُمَدّد على المسار الثانوي. لذا فأنت أمام خيارين، قتل خمسة أشخاص أو شخص واحد، أيهما أكثر أخلاقية؟

تثير معضلة العربة في شكلها الأصلي سؤالين رئيسيين هما: كيف سيتفاعل المتفرج على المستوى العاطفي المندفع؟ وكيف يجب أن يتفاعل على مستوى منطقي أخلاقيًا؟

يمكننا إسقاط هذه المعضلة على العديد من المواقف المشابهة، مثل أن تتعرض لموقف وأنت تقود السيارة، ويضعك القدر أمام خيارين: دهس طفل في منتصف الطريق أو مسنّ على جانب الطريق. هنا الخيار أمامك، ولديك كامل الإرادة لاتخاذ القرار. لكن السؤال: ماذا لو استبدلنا بك مركبةً ذاتية القيادة؟ كيف ستتصرف؟ وعلى أي أساس؟

تعتمد السيارات ذاتية القيادة -المعروفة أيضًا بالسيارات الآلية- على الأتمتة، وهي مركبات قادرة على استشعار البيئة المحيطة بها والملاحة دون تدخل بشري. تجمع السيارات ذاتية القيادة بين مجموعة متنوعة من أجهزة الاستشعار لإدراك ما يحيط بها، مثل الكاميرات الحرارية والرادار والليدار والسونار ونظام تحديد المواقع العالمي وقياس المسافات ووحدات القياس بالقصور الذاتي. قد تستخدم المركبات ذاتية القيادة طرق التحكم القائمة على الذكاء الاصطناعي لدعم مهام القيادة الذاتية المختلفة.

تنتقص المشكلة التي تطرحها معضلة العربة من فهم كيفية عمل السيارات ذاتية القيادة، وكيف «تفكر»، ومدى تأثير البشر في عمليات صنع القرار، والقضايا الأخلاقية الحقيقية التي تواجه من يدافعون عن تطوير السيارات ذاتية القيادة ونشرها في أنحاء العالم. 

يتمتع فريق المصممين والمبرمجين وعلماء الأخلاق والمهندسين الذين يصممون السيارة ذاتية القيادة برفاهية تحديد الحسابات المثلى في كل موقف محتمل قد يواجه السيارة، وذلك قبل فترة طويلة من تصنيعها، على عكس القرار المفاجئ المطلوب من الإنسان الواقع في معضلة العربة. وبذلك يكون فريق البرمجة بموقف المتفرج في معضلة العربة، إذ يحددون مسبقًا بفعالية متى يجب «سحب العتلة»، بترميزها في خوارزميات السيارة. لكن يبقى السؤال: من الذي يجب أن تنقذه السيارة عندما تواجه موقفًا أخلاقيًا مشابهًا فجأة؟

فور أن تكون السيارة على الطريق في وضع القيادة الذاتية، يكون «سحب العتلة» قد تحدد مسبقًا من قبل مبرمج عمل بوصفه متفرجًا مستقبليًا لمثل هذه الحالات، في حين تصبح السيارة ذاتية القيادة هي العربة. ومع أن معضلة العربة ترتبط بنتيجتين متعلقتين بالمسار، فإن المركبات ذاتية القيادة تفتح مجموعة لا نهائية تقريبًا من النتائج أمام العوامل غير المتوقعة، حيث لا مسارات ولا أحد مقيد، بل الآلاف من العربات الأخرى على الطريق، ومن بين الضحايا المحتملين سائقي السيارات الأخرى وركابها. يجب على فريق التصميم في هذه المواقف، التفكير في أفضل السبل لتقييم النتائج غير المميتة. أيضًا فإن التعقيد الأساسي مصحوب بوقت للتفكير والتأمل والبرمجة والتجربة قبل انطلاق المركبات.

قد يصمم المبرمج السيارة لتدمر نفسها إذا لزم الأمر، بدلًا من إلحاق الضرر بأحد، مثل حالة وجود طفل في الطريق لإنقاذه. قد تكون التضحيات الأخرى مفيدة، إذ يمكن لمحافظ السرعة أن يحد من الوفيات والأضرار المحتملة، لكنه يقلل من الأداء والإثارة عند زيادة السرعة. ربما يُنظر دائمًا إلى الحيوانات أنها منخفضة القيمة مقارنةً بالبشر، لكن ذلك يعني أن الكلاب في الطريق ستُدهس روتينيًا من أجل منع الحوادث الناجمة عن الانحراف لتجنبها.

هيذر إم روف، وهي زميلة غير مقيمة في برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكينغز، وتشمل اهتماماتها البحثية القانون والسياسة وأخلاقيات التقنيات العسكرية الناشئة مثل الأسلحة المستقلة والذكاء الاصطناعي والروبوتات والأمن السيبراني، تطرح في ورقتها البحثية المتعلقة بأخلاقيات المركبات ذاتية القيادة ثلاثة أفكار:

تعتمد الفكرة الأولى على ما يُسمى قرارات عملية ماركوف(*)، التي تصف عمومًا عملية اتخاذ القرار في بيئة قابلة للملاحظة، وتستخدم نموذجًا رياضيًا مفيدًا لحل العديد من مشكلات التحكم والتخطيط في الهندسة والحوسبة، مثل ألعاب الشطرنج مثلًا، وهي النموذج الرياضي المحتمل استخدامه في حالة المركبات ذاتية القيادة، لكن تصبح هذه العمليات مرصودة جزئيًا في حالة المركبات الذاتية، إذ لا يتعرف النظام بالكامل على بيئته، رغم وجود العديد من أجهزة الاستشعار. ويتخذ الروبوت في هذه الحالة القرار باستخدام الملاحظات الحالية، إضافةً إلى تاريخ الإجراءات والملاحظات السابقة. لذا فتفعيل هذه الخاصية يكون في بيئة لا يمتلك فيها النظام معرفة كاملة أو يقينًا، فيعمل بنظام الاحتمالات. ومن الطرق المحتملة لتعرُّف النظام على الإجراء الذي يجب اتخاذه: «التعلم المعزز»، بتلقي السيارة الذاتية إشارات تعزيز، وتوجيهها نحو الإجراءات التي يجب متابعتها أو تجنبها، إلا أن هذه الإشارات تستند إلى التوزيعات الاحتمالية، التي ستؤدي إلى مزيد من إشارات التعزيز، ومن ثم مزيد من التعلم المعزز في الحالات المستقبلية. تتطلب قرارات عملية ماركوف المرصودة جزئيًا أن يختار المرء- أو المركبة- القرار الأكثر مثالية في ظل ظروف تشبه معضلة العربة، ومن ثم تُقصى القرارات غير المناسبة من حالات التعزيز المستقبلية.

تناقش الفكرة الثانية عثرات معضلات العربة، إذ يدافع باتريك لين (2017) عن استخدام معضلة العربة بوصفها «مضخة حدسية» لجعلنا نفكر في أنواع المبادئ التي يجب أن نبرمجها في المركبات ذاتية القيادة. ويشير إلى امتلاك مبرمجي السيارات المؤتمتة ومصمميها الوقت الكافي لفهمها فهمًا صحيحًا، لذا فهم يتحملون مسؤولية إضافية عن النتائج السيئة التي قد تسببها البرمجيات التي تعمل بها المركبات. في حين تتفق هيذر مع لين بأن العديد من الحالات الفلسفية ليست مصممة لسيناريوهات العالم الحقيقي.

تقترح هيذر تصميم مشكلات تشبه معضلة العربة في مجموعة متنوعة من المواقف، وتدريب الآليات على التصرف المناسب لتعليم النظام ما يجب عليه فعله في كل موقف.

تتناول الفكرة الثالثة القيم الوظيفية، أي قيمة تحليل هذه المعضلة وفوائدها في حياتنا، فإذا اتفقنا أن معضلة العربة تقدم ولو القليل من الإرشادات حول القضايا الاجتماعية والفلسفة الأخلاقية، لا سيما قيمة التغييرات في سياق المجتمع والبحث العلمي، فيمكننا عندئذ بدء البحث في المشكلات واسعة النطاق التي سيواجهها المجتمع مع السيارات ذاتية القيادة. كما أوضح كيت كروفورد وريان كالو (2016): «تعمل الأنظمة المستقلة على تغيير أماكن العمل والشوارع والمدارس. ونحن بحاجة إلى التحقق من أن هذه التغييرات مفيدة، قبل أن تُدمج بشكل أكبر في أسس الحياة اليومية». نحتاج ببساطة إلى تحديد القيم التي نريد تحقيقها بهندسة التقنيات وتصميمها ونشرها، مثل السيارات ذاتية القيادة.

خاتمة:

تمثل السيارات ذاتية القيادة عددًا من المعضلات الأخلاقية التي يجب مراعاتها بعناية مع استمرار تقدم التكنولوجيا. من ناحية أخرى، تتمتع المركبات ذاتية القيادة بإمكانية الحد بشكل كبير من عدد حوادث المرور والوفيات، فضلًا عن تحسين التنقل للأشخاص غير القادرين على القيادة بسبب العمر أو الإعاقة. من ناحية أخرى، تثير عمليات صنع القرار في السيارات ذاتية القيادة، لا سيما في المواقف التي يجب فيها إجراء مقايضات بين سلامة الركاب والمشاة، أسئلة أخلاقية معقدة.

ختامًا، تجب موازنة الاعتبارات الأخلاقية للسيارات ذاتية القيادة مع الفوائد المحتملة التي تقدمها التكنولوجيا. قد يتضمن ذلك وضع مبادئ توجيهية ولوائح لضمان تطوير المركبات المستقلة ونشرها بطريقة مسؤولة وشفافة. من المهم لجميع الأطراف المعنية بموضوع أخلاقيات المركبات ذاتية القيادة، متضمنةً الوكالات الحكومية والمصنعين وفلاسفة الأخلاق، المشاركة في حوار حول الآثار الأخلاقية للسيارات ذاتية القيادة، والعمل على إيجاد حلول تعطي الأولوية لرفاهية جميع الأفراد المتأثرين بهذه التكنولوجيا.

(*) صناعة قرارات ماركوف هي طريقة لتحليل السلوك الحالي لمتغير معين وذلك لأغراض التنبؤ بالسلوك المستقبلي لهذا المتغير، وتُنسب سلاسل ماركوف إلى اسم مكتشفها أندريا ماركوف، العالم الروسي الذي ولد عام 1856 وتوفي عام 1922، وتُعد سلاسل ماركوف أحد أدوات البرمجة الديناميكية التى تُعد أحد أساليب بحوث العمليات. ويهتم أسلوب ماركوف بدراسة عملية اتخاذ القرارات، إذ يتعامل مع احتمالات حدوث حدث معين في المستقبل مستندًا إلى تحليل بعض الاحتمالات، ما يعني أنه أسلوب علمي لدراسة ظاهرة حالية وتحليلها، من أجل التنبؤ بسلوكها في المستقبل.

المصادر

المصدر الاول 

المصدر الثاني 

المصدر الثالث

المصدر الرابع 

المصدر الخامس 

يحتاج المرء في عصرنا الحالي للكثير من المتطلبات ليكون على دراية بمستجدات العصر وليندمج جيدًا مع الآخرين، ومن المثير للاهتمام أن المعرفة بالميمز أصبحت واحدة من هذه المتطلبات. حتى أن الجيل (z) قد أطلقوا مجموعة من المصطلحات على الأشخاص الذين يجدون صعوبة في فهم لغة الميمز، مثل مصطلح «نورمي» (Normie)، وقد تتعرض هذه الفئة للإقصاء من قبل الأقران أو لنوع ضمني من التمييز لمجرد جهلهم بالميمز. فلماذا الميمز بهذه الأهمية؟ ومن أين أتى هذا المصطلح؟ وما علاقته بالجينات؟ 

بدايةً ما معنى ميم؟

ظهر مصطلح ميمز أو ميم (meme) لأول مرة، على يد عالم البيولوجيا التطورية والفيلسوف ريتشارد دوكينز عام 1976، إذ أورد كلمة ميم (meme) في كتابه الجين الأناني، والكلمة ذاتها مشتقة من الكلمة الإغريقية (Mimene)، التي تُترجم إلى أشياء مقلدة أو متبعة، مضافًا إليها كلمة جين.

فالميمز حسب تعريف دوكينز فكرة يتداولها بتوسع مجموعة من الأشخاص وتحمل قيمة عندهم، سواءً أكانت صورة أو قولًا أو نشاطًا ما. شبّه دوكينز الميمز بالجينات الثقافية، فالهدف الأساسي الذي يسعى الجين لتحقيقه هو نسخ نفسه مرارًا وتكرارًا، والانتقال من جيل إلى آخر. رأى دوكينز في هذا السلوك الذي تسلكه الجينات تشابهًا مع سلوك الميمز بوصفها وحدات ثقافية تنتقل من فرد إلى آخر ومن جيل إلى آخر، وكما تحمل الجينات صفات البشر وملامحهم ومميزاتهم، تحمل الميمز المنتجات الثقافية لكل فترة زمنية وتحتفظ بها، ويمكن تشبيهها بالكبسولات الزمنية التي ستدل مَنْ في المستقبل على طبيعة الحياة في زمن ظهور الميم.

أما الميمز الحالية التي تُعد جزءًا مهم من ثقافة الإنترنت، فهي صور ورسومات وكتابات ذات جودة منخفضة، وغالبًا ما تحمل طابعًا ساخرًا هزليًا، انتشرت بكثرة على موقع (4chan)، وريديت وإنستغرام وفيسبوك. 

لكن لمَ الحديث عن الميمز؟

يمكن اعتبار الميمز ظاهرة ثقافية مجتمعية، تعبر عن طابع خاص بفترة زمنية معينة، وهي -بشكل غير مباشر- عامل يشير إلى التغيرات والديناميات التي تحدث باستمرار. من المرجح أن تصبح الميمز كبسولات زمن يعود إليها الخبراء ليحللوا متغيرات مجتمع في فترة ما، فالميمز في فترة بداية الألفية الثانية تختلف عن الميمز في فترة ما بعد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، التي بدورها ستختلف عما سيتبعها من السنوات. توصف الميمز بأنها لغة الانترنت، فكما تشكل اللغة وسيلة تواصل وانتشار للأخبار والمعلومات، تشكل الميمز وسيلة لانتقال المعلومات والأخبار السريعة الشائعة، أو التريندات.

لكن الميمز سلاح ذو حدين، فكونها صور رديئة الجودة ومتاحة للجميع قد تسهم في جعل نظرتنا أكثر سطحية للأشياء، فمشاهدتنا المكثفة لميمز حول قضية ما، مثل سرد قصة معينة عن قاتل متسلسل للنساء أو عن مجرم ما بطريقة ساخرة، يجعلنا عرضة لأن نقلل من وقع هذه المشكلات وأهميتها. بالمقابل قد تكون الميمز وسيلة فعالة لمحاربة ظاهرة اجتماعية ما، مثل ما جاء في مقال في (vox media) عن (the karen meme) إذ حاول كتاب المقال محاربة ظاهرة «كارين» أو المرأة العنصرية المشبعة بإحساس بفرط الاستحقاق، وجملتها الشهيرة «أحضر لي مديرك أو سأطلب الشرطة». فالميم في هذه الحالة كان تجسيدًا لمحاولات المجتمع لرفض وإنكار هذا النوع من السلوكيات العنصرية.

تتمتع الميمز بدينامية ومرونة مجتمعية، فمع بداية جائحة كورونا أخذ (karen meme) معنى جديدًا أهم، وهو وصف الأشخاص المناهضين للتلقيح أو التطعيم والغير مؤمنين بوجود الوباء، فأصبحت بذلك وسيلة للتعريف بقضية اجتماعية جديدة، إذ صيغت الكثير من المميز للسخرية أو التنديد بفعل الأشخاص الذين ينكرون الوباء أو يقللون من أهميته، وسيلةً مجتمعية للدفاع عن قضية التلقيح والتنبيه بخطورتها، مع أن البعض قد يرى أن هذه الطريقة مهينة أو حتى منافية لفكرة حرية الاختيار والحرية الشخصية.

كيف يتحول شيء ما أو شخص ما إلى ميم:

لا يوجد عمليًا أي قيود أو معايير محددة لعملية كهذه، فأي شخص يستطيع أن يقتطع صورة ما تعجبه ويمررها إلى أشخاص آخرين، وإذا حظيت هذه الصورة بالإعجاب والتقبل، تحولت إلى ميم، وأصبحت ملكية عامة للإنترنت للأبد. وتكون هذه الصورة مضحكة أو غريبة غالبًا. 

أجرت منصة (Buzzfeed) مقابلات عديدة مع أشخاص تحولوا إلى ميمز بالصدفة أو بتحريض من شخص ما لهذه العملية. ومن أشهر هؤلاء الأشخاص (Andras arato)، صاحب الميم الشهير (Hide The Pain Harold). تحدث أراتو كيف أصبح مشهورًا بعد أن عرض عليه مصور أعجب بشكله التقاط صور له، وسرعان ما جذبت صورة التعبير الغريب على وجه هذا الرجل الاهتمام وأصبح من أشهر ميمات الإنترنت. يقول أراتو أنه صُدم عندما تحولت صورته إلى ميم وقد أزعجه الأمر قليلًا، لأنه كان يُستخدم لغايات سيئة بعض الأحيان، لكن الأمر سرعان ما تغير عندما أصبحت شهرة وجهه محل جذب لشركات كبرى مثل كوكاكولا، التي طلبت منه أن يصور إعلانًا لأجلها، الأمر الذي جلب فوائد مالية للرجل. لذا قد يكون يوم سعدك لو صحوت لتجد نفسك ميمًا.

آثار أخرى للميمز: 

الميمز سلاحًا في الحروب الثقافية: 

في حوار مع موقع (Wired)، قالت «إيميلي دريفوس»، المحررة في مركز هارفرد شورنشتاين للميديا، إن ميم «رجل بخاخ الفلفل» هو من أوائل الميمز التي استُخدمت للتوعية بشأن قضية اجتماعية ولإحداث تغيير سياسي، فهذا الميم يُظهِر صورة رجل شرطة التُقطت وهو يرش المتظاهرين في أحداث «وول ستريت» بالفلفل، تحولت إثر ذلك صورته لعلامة معبرة عن رفض الشعب للسلطة القمعية والعنف من قبل رجال الشرطة، وللمناداة بحرية التعبير.

This Photo by Unknown Author is licensed under CC BY-SA-NC

أكدت إيميلي أن كثيرًا من الميمز أسهمت في حدوث اجتياح البيت الأبيض عام 2019، مثل ميم (stop the steal)، حين انتشر ميم ينص على أن دونالد ترامب لن يفوز بالانتخابات ضد بايدن لأن حقه في الرئاسة سُرق منه بسبب خداع وتزوير في الانتخابات، هذا الميم الذي يقول «أوقفوا السرقة» أصبح شعارًا لمؤيدي ترامب وأصحاب نظرية المؤامرة.

وإذا غضضنا الطرف عن الميمز والقضايا السياسية الكبرى، فإن كثيرًا من الشبان اليوم يحصلون على قدر لا بأس به من المعلومات والأخبار عن طريق الميمز، ما قد يقودهم للوقوع في مغالطات وفي فخ المعلومات الكاذبة أو غير الدقيقة. 

إذن فالميم سلاح ذو حدين، قد يُستخدم لغايات توعوية، أو لغايات تسويقية وتجارية، وأداةً في الحروب الثقافية، أو حتى أداةً تمييزية وإقصائية. المؤكد أن الميم أصبح اليوم إحدى العلامات المميزة لحضارتنا البشرية، ومن الدلائل المثيرة للاهتمام على تطور ثقافتنا ووعينا واهتماماتنا بتطور الزمن، فهو كبسولة زمنية للعصر الحالي، وهو الجين الثقافي الذي يورث من جيل إلى آخر.

المصادر:

المصدر الاول 

المصدر الثاني 

المصدر الثالث

المصدر الرابع

تُعد دراسة الطبيعة البشرية من الدراسات المعقدة التي تتضمن فهم أسباب مشاعرنا وأفكارنا وتصرفاتنا التي تتشعب كثيرًا، وتجمع بين علم النفس وعلم الأعصاب والبيولوجيا والفيزيولوجيا، فيمكن فهم الكثير من أفعالنا وتصرفاتنا أو تحليلها في سياق عضوي وبيولوجي، لذلك يوجد فرع دراسي كامل يُعرف بعلم البيولوجيا السلوكية، يدرس أفعالنا وسلوكياتنا من منظور بيولوجي وعضوي. 

عندما برزت نظرية التطور عام 1859 على يد تشارلز داروين، تغير كل شيء، إذ كانت -وما زالت- نظرية ثورية غيرت من وجهة نظر العلم تجاه سلوكيات البشر والحيوانات. ومن أهم الأفكار التطورية التي يعتمد عليها داروين في تفسير الكثير من الظواهر فكرة التطور بالاصطفاء الطبيعي. 

الفكرة المحورية في الانتقاء الطبيعي هي «البقاء للأصلح». تُقاس الصلاحية بقدرة الكائن الحي على البقاء والتكاثر، ما يُحدد حجم مساهمته في توريث الجينات للأجيال اللاحقة. لكن لا يُعبَّر عن صلاحية الكائن بعدد النسل الذي ينجبه، بل بنسبة الأفراد الحاملين لجيناته في الأجيال اللاحقة. أي أن الأنواع الحيوانية –متضمنةً البشر- تسعى لنشر جيناتها بأكبر قدر ممكن من خلال التكاثر تحديدًا، والجينات الأكثر ملاءمة وقدرة على البقاء هي التي تسود.  

الجين الأناني:

في كتابه «الجين الأناني»، يناقش ريتشارد دوكينز أن سلوكياتنا البشرية/الحيوانية، مثل الإيثار والرغبة الجنسية، بدأت بالجزيئات القادرة على نسخ نفسها، أي الجينات، التي يصفها بكونها أنانية، وهو بالتأكيد لا يقصد أنها واعية وتتصرف بأنانية، بل أن سلوكياتها الجزيئية تولد مظاهر هدفها الأساسي نقل الجينات وتعزيزها، وإن كان ذلك على حساب حياة الكائن ذاته. مثلًا، سلوك التزاوج الغريزي لدى ذكور العناكب، الذي يسمح لها بالتكاثر وحفظ النوع، لكنه يعرضها للقتل على يد الإناث بعد التزاوج. هكذا يفسر دوكينز بقاء الحمض النووي غير المرغوب فيه بأنه لا يخضع للاختيار والإرادة، بل يعبر عن تنوع الحمض النووي الذي ينتقل من الآباء إلى الأبناء، مع أنه لا يقدم أي فائدة للبقاء على قيد الحياة. 

على هذا، فحتى الرغبة الجنسية قد تطورت لضمان التكاثر واستمرار سيادة الجينات الأنانية.

الاصطفاء الجنسي: 

هو مصطلح مشتق من الاصطفاء الطبيعي، قدمه تشارلز داروين في أصل الأنواع، ويعني أن التكيفات التي تقوم بها الأنواع تساهم في تطور الكائنات التي كانت صفاتها مهدِّدة لبقاء أفراد النوع. للتبسيط، فالاصطفاء الطبيعي يخلق صفات في الأفراد تسهم في تعزيز فرصهم في ممارسة التكاثر الجنسي، ومن ثم تعزيز انتشار الجينات. مثلًا، ريش الطاووس المبهرج الذي يهدف لاجتذاب النساء. قد يدفع الانتخاب الجنسي الذكور لأن يعرضوا مدى لياقتهم العالية حتى تختارهم الأنثى، أيضًا يظهر مفهوم الاصطفاء الجنسي في ملاحظة أن تطوير الكثير من الحيوانات لملامح وظيفتها الأساسية هي لمساعدتها على زيادة النجاح الإنجابي وليس مساعدة الأفراد على النجاة. كل هذا يُظهِر الأهمية البالغة لأي نشاط جنسي للجينات التي تحرص على انتقالها من جيل إلى آخر.  

يبقى السؤال: إذا كانت الغريزة الجنسية وتطور الاصطفاء الجنسي وسيلة كافية لانتقال الجينات، فكيف يمكن تفسير مشاعر الحب والعطف والاهتمام تطوريًّا؟ وكيف تخدم تلك المشاعر انتقال الجينات وأنانيتها؟ 

تطور شعور الحب:

يقترح فريق من الباحثين أن الحب جزء لا يتجزأ من طبيعتنا البشرية، وأن قدرة البشر على الحب تطورت مع الزمن، إذ فضّلت الطبيعة أن نهتم ببعضنا على أن نعادي بعضنا، خصوصًا في ظل المجتمعات البدائية التي تميزت بالهمجية والخطورة، فيرى البعض أن غريزة الاهتمام بالآخر تطورت لتحمي الجماعات وتضمن بقاء الأنواع.

في الواقع، يُعد شكل العلاقات الرومانسية أو طويلة الأمد الذي يتطلب التزامًا كبيرًا غير مألوف لدى البشر والثدييات عمومًا. أيضًا فإن بعض التصرفات التي قد تنم عن المفهوم المعقد المُسمى «الحب»، قد تكون غريبة ولا تتناسب مع فكرة استمرار الجماعة أو الأفراد وبقائهم. إذ تتضمن بعض السلوكيات الإيثار والتضحية بالنفس في سبيل شخص آخر، الأمر الذي يعاكس مفهوم الأنانية. 

لكن في هذا السياق، يجب ذكر أن صفة الأنانية في الجينات وتفضيلها لنسخ نفسها على حساب الرغبات الأخرى كافةً، لا يعني تعميم ذلك على سلوك الكائن، ففي مثال العناكب، تضحي هذه الكائنات بحياتها من أجل التكاثر، وقد تضحي الكثير من الكائنات الأخرى بطعامها أو بنفسها في سبيل بقاء أطفالها واستمرارهم. يجادل الباحثون بأن الحب الأمومي هو الشكل الأول والأساسي من الحب، الذي تطورت عنه سائر أشكال الحب. أيضًا فإن الطبيعة، بتعزيزها صفات الحب والتعاون، مهدت الطريق لتكوين مجتمعات حضارية وأكثر سلامًا، فالأمهات كان عليهنّ أن يتطورن ليروا أطفالهنّ كائنات تحتاج إلى الحماية، وليسوا فرائس أو طعام مثل غيرهم من الكائنات، لاستمرار الحياة وانتقال الجينات. 

قد يُفسَّر السلوك الودود أو الذي يظهر خصائص إيثارية نتيجة ما يُسمى «اصطفاء القرابة». 

اصطفاء القرابة: 

اصطفاء الأقارب هو آلية تطورية تحابي السلوك الإيثاري للكائن الحي تجاه أقاربه، لكون الأقارب عادةً يحملون نسبة كبيرة من الألائل المشتركة. الأليل الذي يؤدي بالكائن الحي لأن يساعد أقاربه على النجاة والتكاثر، يحتمل أن يحمله أيضًا أقرباء هذا الكائن. وبكون هذا الأليل إيثاريًا، فإنه يسهم في زيادة تواتره وانتشاره في التجمع، لمّا كان يحمل الفرد على مساعدة أقاربه في زيادة فرص بقائهم وإنتاجهم للنسل، وإن كان ذلك على حساب فرص البقاء والنجاح التناسلي للفرد ذاته.

بمعنى آخر، يهدف سلوك الاهتمام والإعجاب أو الحب لزيادة انتشار الجينات التي يحملها المتشابهون أو الأقرباء. تفسر هذه النظرية تحديدًا حبنا وانجذابنا لمن يشبهوننا، وتقترح أنه من المحتمل أن ينجذب البشر لمن يشبهونهم، مثل الأفراد الذين ينتمون للعرق نفسه أو للمنطقة الجغرافية ذاتها. لكن هذا لا يفسر الانجذاب أو علاقات الحب المعاصرة التي تتخطى في كثير من الأحيان حاجز العرق أو اللون أو الجغرافيا. من المحتمل أن تكون علاقات الحب المعاصرة -التي قد تبدو صعبة التفسير تطوريًّا- نتاج متغيرات اجتماعية وبيئية كثيرة وغير مرتبطة مباشرةً بالجينات. 

في النهاية، فإن الدراسات التطورية ما زالت تحتاج إلى الكثير من التطوير لفهم طبيعة سلوكياتنا البشرية، أيضًا فإن الحب مفهوم معقد لم يُتفق على تعريف واضح ودقيق له، لكن الذي نعرفه، أنه ضروري في مجتمعاتنا الإنسانية ومهم لقيام الحضارة وتجنب الصراعات، وأن الانجذاب الجنسي والرغبات الجسدية ليست كافية لبناء أي مجتمع حضري مستقر، إذ قد تقود إلى فوضى ونزاعات بين البشر. من المهم دراسة التطور وفهمه، لمعرفة سبب ما نحن عليه، وكيف يمكن أن نصبح في المستقبل. 

المصادر:

المصدر الاول 

المصدر الثاني 

المصدر الثالث 

المصدر الرابع 

لا شك أن كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية في العالم، ويوميًا يتابع ملايين الأشخاص حول العالم مباريات كرة القدم في المدرجات وعلى الشاشات، فمشاهدة الألعاب الرياضية كانت منذ القدم من أكثر الأنشطة الترفيهية شيوعًا، وانتقلت عبر الأجيال حتى يومنا هذا.

تجلب لنا متابعة المباريات متعة حصرية وجرعات متتالية من الأدرينالين والحماس، وحتى شعور الإحباط الذي نشعر به عند خسارة الفريق الذي نشجعه هو شعور نتوقعه وربما نحتاج إليه في حياتنا، إضافةً إلى فرحتنا العارمة بالفوز، وسنتحدث في مقالنا بالتفصيل عن أسباب عشق بعض الأشخاص لكرة القدم وشغفهم الكبير بمتابعة آخر مستجداتها.

كرة القدم رياضة تنافسية للغاية:

يمكننا ملاحظة أن جميع الرياضات ذات تنافسية عالية، لكن كرة القدم هي لعبة القتال المستميت والأكثر تنافسية.

انخراط الجمهور بالمباراة:

تتيح لنا مواقع البث المباشر المشاركة في كل لحظة من المباراة، فاللعبة تُبث مباشرةً، ولا نستطيع التنبؤ بما سيحدث، فكل ما علينا فعله هو الشعور بالتوتر أو السعادة أو الحماس أو القلق لأننا لا نعرف النتائج بعد، وهو ما يُبقي الناس متفاعلين. أيضًا فإن مشاركة مشاعرنا مع المشجعين من حولنا وحول العالم سبب آخر لحماسنا بشأن هذا النشاط.

لا يتعلق الأمر فقط باللعبة التي نشاهدها مباشرةً، بل أيضًا بمتابعة تقدم الفريق على مدار الموسم أو البطولة، إذ يحب الناس الانخراط في المباريات الرياضية قدر الإمكان، ويحب بعضهم التنبؤ بالنتائج. يُعد الترفيه أحد الأسباب الرئيسية التي تدفعنا لمشاهدة الألعاب، في حين قد تصبح أيامنا مملة بعض الأحيان. أيضًا فإن متابعة المباريات طريقة رائعة لتمضية الوقت، والاستمتاع ببعض العناصر المسلية بشأن الرياضيين المحترفين في صراعهم للاحتفاظ بالكرة مدة تسعين دقيقة أو أكثر. وحتى من لا يهوى كرة القدم فقد يستمتع بمشاهدة المباريات مع العائلة والأصدقاء في جو يسوده الحماس والإثارة.

قواعد لعب كرة القدم بسيطة للغاية وسهلة الفهم:

بالنسبة إلى عديد من الأشخاص الذين لا يتابعون كرة القدم، سيكون من السهل الدخول في الأجواء وفهم القواعد العامة لهذه اللعبة، فهي لعبة لا تتطلب معدات معقدة، يكفي فريقان وكرة من الجلد أو القماش للّعب، فَكُرة القدم ليست بالأمر الصعب، يمكن لأي شخص الانضمام للمشاهدة والاستمتاع. لذا تحظى كرة القدم بشعبية كبيرة لدرجة قد تثير التعجب.

تحسين العلاقات مع الأصدقاء والأقارب:

لكل منّا حياته ومشاغله الخاصة، وليس من السهل دائمًا قضاء الوقت مع الأحبّاء. تمثل مشاهدة كرة القدم فرصة مناسبة لاجتماع الأصدقاء أو الأقارب في الغرفة ذاتها. يمكنكم مشاركة لحظات المباراة معًا، خصوصًا عندما تشجعون الفريق ذاته. إنه وقت مثالي لبناء العلاقات وتحسينها مع أصدقائك أو أقاربك أو أفراد أسرتك.

قد تكون مشاهدة مباراة كرة القدم فرصة مناسبة لمشاركة بعض الأنشطة واللحظات مع الشريك الحميم، إذا كنتم من هواة متابعة كرة القدم. قد يكون ذلك موعدًا مثاليًا للّقاء والاحتفاء بمشاهدة المباراة.

كرة القدم ملائمة للمشاهدة في معظم الأوقات والظروف:

يمكنكم الآن، مع مجرد هاتف ذكي أو جهاز لوحي أو كمبيوتر، عدم تفويت اللعبة. يمكن الجلوس على الأريكة المريحة في المنزل ومشاهدة اللعبة مع الآخرين. وتمكن مشاهدة اللعبة دون أن يفوتكم منها شيء إذا كنتم في طريق العودة إلى المنزل من العمل، فتمضية الوقت في الحافلة بمشاهدة المباراة أكثر متعة من تأمل الآخرين، ثم يمكن إكمال المباراة عند الوصول إلى المنزل. لن تفوتكم أي دقيقة من المباراة مع مواقع البث المباشر لكرة القدم.

المراهنة والمقامرة:

تُعد المقامرة من الأسباب الرئيسية التي تدفع العديد من المشجعين لمتابعة مباريات كرة القدم. إذ أثّرت الرياضات المختلفة -ومنها كرة القدم- في صناعة القمار. أصبح من الممكن الآن المراهنة على فرق كرة القدم المختلفة عبر الإنترنت. أكد الكثيرون أن المراهنة في أثناء مشاهدة مباراة كرة قدم تجعل التجربة أكثر إثارة ولا تُنسى.

من المهم التعرف على الرياضة لزيادة فرص الفوز عند المراهنة في مباريات كرة القدم. يمكنكم الحصول على المعرفة التي تحتاجون إليها بمشاهدة مباريات كرة القدم. تسمح العديد من مواقع المقامرة بمشاهدة مباريات كرة القدم والمراهنة عبر منصة واحدة. حقيقة أن شركات المقامرة ترعى أندية كرة قدم معروفة تُظهِر أن للمقامرة دور مهم في كرة القدم هذه الأيام.

أما الآن فلنتعرف على سيكولوجية مشاهدة الرياضات، متضمنةً كرة القدم. ما الذي يجنيه المشجعون من متابعة هذه المباريات؟ وفقًا لما كتبته إلين دايموند الحاصلة على شهادة في علم النفس من جامعة هيرتفوردشاير:

الهروب من الواقع:

الهروب من الحياة اليومية، التي قد تكون مليئة بالتوتر والقلق، سبب لقيام المشجعين بمشاهدة رياضتهم المفضلة. قد يؤثر ذلك إيجابًا أو سلبًا في الأشخاص، فبالنسبة إلى البعض قد لا يكون الهروب هو الطريقة المُثلى للتعامل مع المشكلات العميقة التي يواجهونها في الحياة الواقعية. مع ذلك فإذا استخدمناها للهروب من المشكلات اليومية البسيطة، فقد تكون كرة القدم دافعًا إيجابيًا في حياة الأشخاص.

هوية الجماعة:

من الأشياء المهمة التي تدفع الكثير من الناس لتشجيع كرة القدم الشعور بالانتماء إلى مجموعة. وهو أمر أساسي ومهم في حياة الإنسان، وقد يجلب لنا الشعور بالسعادة والفرح والدعم، إضافةً إلى مشاعر الأمان والإلهام. فعندما يفوز فريقكم، تتشاركون نشوة الفرح معًا، وعندما يخسر تتشاركون الحزن. قد يكون الانتماء إلى أي مجموعة، متضمنةً ناديًا لتشجيع لكرة القدم، مفيدًا حقًا للأشخاص الوحيدين.

التوتر:

قد تؤدي مشاهدة كرة القدم في الواقع إلى مزيد من التوتر بدلًا من تخفيفه، اعتمادًا على شخصية الفرد. فإذا كان الشخص غير صبور وعرضة للغضب، لكنه في الوقت ذاته شغوف بمتابعة فريقه، فقد تصبح متابعة المباريات مرهقة. قد يغضب العديد من المشجعين بسبب خطأ بسيط أو خسارة مباراة واحدة. بالنسبة إلى هذه الشخصيات، قد لا تكون مشاهدة كرة القدم هي التسلية الأكثر إيجابية.

القلق:

قد يصبح المشجعون عرضة للقلق تمامًا مثل اللاعبين، عند مشاهدة مباريات كبيرة ومهمة خصوصًا. قد يشعرون بأوقات عصيبة خلال اللحظات الأخطر في المباراة. إذا كانت هذه التفاعلات الكيميائية تحدث على أساس منتظم، فإن التأثير العام الذي قد يُحدثه ذلك في جسم الشخص وعقله يكون سلبيًا للغاية.

قد تجلب مشاهدة كرة القدم الكثير من المشاعر الإيجابية للمشاهد. بوسع المشجعين تجربة الشعور بالفخر والشعور بالانتماء، وهي فرصة للهروب والترفيه واختبار أي من المشاعر الممتعة الأخرى. من ناحية أخرى، إذا كنتم من المعجبين الذين قد يُصابون بالقليل من التوتر والقلق، فإن مشاهدة كرة القدم بانتظام قد يكون لها بعض الآثار السلبية في صحتكم العامة.

المصادر:

المصدر الاول 

المصدر الثاني 

المصدر الثالث 

المصدر الرابع 

المصدر الخامس

لقد غير العلم العالم من حولنا، بعد اعتماد البشر لآلاف السنوات على الأساطير والماورائيات لتفسير الظواهر، والتعامل مع الصعوبات والتحديات التي واجهوها. جاءت الأداة التي اعتمدت الاختبار والتجريب والإثبات والملاحظة، لتجزم في بعض الأمور وتقدم حلولًا لأمور أخرى. كانت الطريقة العلمية حتى الآن هي الطريقة الأكثر موثوقية التي اكتشفها البشر على الإطلاق لاكتساب المعرفة وحل النزاعات حول الحقائق. 

لكن مع كل هذه الموثوقية التي يمتلكها العلم، هل يمكننا القول إن باستطاعته الإجابة عن جميع تساؤلاتنا؟ إذا كان الأمر كذلك، فمن المؤكد أننا سنكسب كل المعرفة في الكون بطريقة موثوقة، وإن لم يكن الأمر كذلك، فالأجدر أن نتساءل كيف يمكننا معرفة أي شيء لا تمكن معرفته بالطريقة العلمية؟

افترضت الوضعانية المنطقية سابقًا أن الميتافيزيقية، أو القيمية، فارغة من أي معنى إدراكي، وعلى هذا، لا تعدو كونها تعبيرًا عن مشاعر أو رغبات، ولذا تعتبر أن المقولات الرياضية والمنطقية والطبيعية هي التي تمتلك معنى محددًا. لكن المشكلة في وجهة النظر هذه أنه لا يمكن إثباتها علميًا، لذا فالفرضية تهزم نفسها من وجهة النظر ذاتها.

لنناقش بعض الأفكار التي يمكننا من خلالها الإجابة عن هذا السؤال الكبير، أو ربما الاقتراب من الإجابة:

إذا كان كل شيء يحدث لسبب، فالعلم يستكشف هذه الأسباب:

إذا افترضنا أن كل شيء في الكون يحدث لسبب، وأن العلم أداة الإنسان لتفسير هذه الأشياء، فعلينا الأخذ في الحسبان أن العلم يقوم على الحقائق. وغالبية النظريات العلمية مثبتة أو يمكن إثباتها، وإذا تعذر إثباتها فإنها تقدم دلائل على الأقل. مثل نظرية «الانفجار العظيم» التي لا تمكّننا الجزم من طريقة نشوء الكون، لكنها تقدم أدلةً، مثل وفرة الهيدروجين وإشعاع الخلفية الكونية الميكروي. ذلك يعني أن العلم بإمكانه أخذ التخمينات العلمية المكتسبة، ويقدم الدلائل فيما يتعلق ببعض الأشياء.

إذا جادلنا أن العلم لا يمكنه «شرح» الأشياء إلا من خلال إثباتها، مثل إثبات أن العنصر الأوفر في الغلاف الجوي هو النتروجين، فلن يتمكن العلم من معرفة كل شيء، فالكثير من الأشياء لا يمكن البتّ فيها بشكل قاطع، مثل حالة بدء الكون، لذا لا يمكن للعلم إلا تقديم «تخمينات علمية».

 إذا افترضنا إمكانية الحصول على معرفة كاملة بطريقة ما، فبوسع صاحب هذه المعرفة تفسير الكون وما فيه. لكن ألا يشبه ذلك طرحنا لسؤال «هل يمكن لتفسير كل شيء أن يفسر كل شيء؟» لذا سيكون الجواب بوضوح هو نعم. ومن ثم علينا أن نتساءل هل بإمكاننا الحصول على مثل هذه المعرفة؟ وسيكون الجواب لا.

أثبت العلم حتى اللحظة قدرته على شرح كل شيء، لكننا لسنا في المرحلة التي تمكننا من القيام بذلك لعدة عوامل، منها نقص المعدات التكنولوجية، وعدم مقدرتنا على اختبار ما وراء عوالم نظامنا الشمسي، وما شابه.

لا نحتاج عمومًا إلى مراقب في كل الأوقات لمشاهدة حدث ما من أجل معرفة كيف ومتى ولماذا حدث. إذ قد يكون المراقب متحيزًا، كما هو الحال مع التاريخ مثلًا، فنحن لا نعيد افتعال الأحداث، بل نجمع معلومات الأحجية معًا من أجل إعطاء تفسيرنا الخاص للأحداث، ومن ثم يمكننا التساؤل إذا ما كان العلم قادرًا على شرح كل شيء بموضوعية، أو إذا ما كان بإمكانه شرح الأشياء فقط بوجود مراقب.

يمكننا التطرق لتأثير دوبلر مثلًا، الذي هو فعليًا تغير ظاهري للتردد عندما يرصده مراقب متحرك بالنسبة إلى المصدر الموجي. يُفترض ثبات المشاهد حتى يستطيع رصد التغير في الطول الموجي للموجات القادمة إليه من المصدر -صوتي أو ضوئي- وعلى أساسها يستطيع تحديد هل الجسم مقترب أم مبتعد. وهنا يمكننا طرح سؤال «ما تردد الموجة الصوتية؟» هل هو تردد الموجات الأصلية التي نرغب في معرفتها؟ أم أنها القيمة التي ندركها عند وصولها؟ وفي هذه الحالة يمكن للعلم أن يشرح لنا كل شيء بطريقة يمكن فهمها.

التفسير دون معايير ليس تفسيرًا:

لا تتشابه التفسيرات جميعها، لأن التفسير العلمي يعطينا قدرة أكبر على التنبؤ بالمستقبل، ومن ثم القدرة على أخذ قرارات مستنيرة. لا شك في حقيقة أن لا أحد كان في الحياة الآخرة ومن ثم عاد ليخبرنا، لذا لا يمكن الكشف عن هذا الموضوع بوضوح، وهو الفرق بين العلوم الشعبية والعلم الحقيقي.

قد لا نمتلك تفسيرات قاطعة حول كيفية نشوء العالم، لكن استخدام الميتافيزيقيا لا يقربنا من الفهم. ولعل الأجدر بنا أن نعترف بجهلنا حتى نستمر بالتساؤل. فالتفسير دون معايير ليس تفسيرًا.

من أين جاءت المادة الأصلية؟

يخبرنا العلم أن التطور جاء من مادة لا نعرفها، فإذا كان العلم لا يعلم ماهية المادة بالضبط، فكيف له أن يعرف كل شيء؟ إذن يمكننا القول إن العلم يشرح معظم الأشياء وليس جميعها.

يقترح باحث الدكتوراه تيم أندرسن من جامعة جورجيا، أن العلم لا يتحكم في التجريدات، وإذا نظرنا في موضوع السبب والنتيجة، يمكننا التطرق إلى موضوع وجود الإله، لكن التجارب في ميكانيكا الكم أظهرت أنه يمكن تبديل السبب والنتيجة. ومع ذلك، هل يعد ذلك مثالًا على دحض البديهية الفلسفية، التي يُفترض أنها برهان علمي؟ أم أنها حقًا مسألة مصطلحات غير محددة؟

تمكن إعادة التجارب الكمومية التي تصعب فيها معرفة فيها إذا ما كان التأثير يتبع السبب أو العكس، ومع ذلك، ليس من الممكن خلق أي نوع من التناقض بهذه الطريقة، مثل مفارقة المسافر عبر الزمن، إذ يكون لدينا بالتأكيد انتهاك للسببية. يبدو أن تعريفنا للسبب والنتيجة من حيث صلتهما بميكانيكا الكم مقابل الكلاسيكية قد يكون واسعًا جدًا، ويجب أن نحصر السبب والنتيجة في نقل المعلومات القابلة للقياس. مع أن الطريقة العلمية تفترض بديهية السببية -وبالتأكيد فإن السببية هي فرضية علمية قابلة للدحض، رغم ضعف احتمالية خطأها- فإنها لا تستطيع أبدًا إثبات صحتها. وفي الواقع، لا يمكن للعلم إثبات صحة أي شيء بالطريقة نفسها التي يمكن أن يثبت بها المنطق في الرياضيات. فالنظريات العلمية، بعيدًا عن كونها صحيحة أو خاطئة، هي ببساطة أفضل أو أسوأ.

في البحث عن قدرة العلم على الإجابة عن الأسئلة الكبرى، يصنف بيتر أتكينز -زميل كلية لينكولن بجامعة أكسفورد، ومؤلف نحو 70 كتابًا للطلاب والقراء- هذه الأسئلة إلى فئتين:

الأولى: أسئلة مخترعة تستند إلى استقراء غير مبرر للتجربة البشرية، مثل الأسئلة الوجودية: لماذا نحن هنا؟ وما صفات الروح؟ وهي في اعتقاده أسئلة غير حقيقية لأنها لا تستند إلى أدلة، ومن ثم لا فائدة من إضاعة الوقت في محاولة الإجابة عنها.

الثانية: أسئلة تتعلق بسمات الكون التي توجد عليها أدلة أخرى سوى التكهنات التي تحقق الرغبات بما توفره دراسة النصوص المقدسة. وهي تشمل تحقيقات في أصل الكون، وتحديدًا كيف يوجد شيء ما بدلًا من لا شيء، وتفاصيل بنية الكون -لا سيما القوة النسبية للقوى الأساسية، ووجود الجسيمات الأساسية- وطبيعة الوعي. هذه كلها أسئلة كبيرة وحقيقية، وهي برأيه أسئلة مفتوحة للتوضيح العلمي.

باعتقاد أتكينز أن الأسئلة الكبرى الحقيقية هي التي تمكن الإجابة عنها علميًا، لذا يمكن للعلم فقط –مبدئيًا- توضيحها، وأنه علينا ترك الأسئلة المخترعة بوصفها أسئلة فكرية.

بالنظر إلى ما سبق، يمكن القول إن الآراء تتعدد بشأن قدرة العلم على الإجابة عن كل الأسئلة، لكنه بالتأكيد يحاول مساعدتنا على فهم الأشياء، والأهم أنه يساعدنا على حل مشكلاتنا وتطوير حياتنا، ورفاه جنسنا البشري.

المصادر:

المصدر الاول 

المصدر الثاني 

المصدر الثالث

المصدر الرابع

المصدر الخامس

جنيفر دودنا هي عالمة كيمياء حيوية أمريكية اشتهرت باكتشافها مع عالمة الأحياء الدقيقة الفرنسية إيمانويل شاربنتييه، لأداة جزيئية تُعرف باسم التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد (كريسبر). وقد وفر اكتشاف كريسبر الذي تم في عام 2012، الأساس لتحرير الجينات، ما مكن الباحثين من إجراء تغييرات محددة على تسلسل الحمض النووي بطريقة أكثر كفاءة وأبسط من الناحية الفنية من الطرق السابقة. وباستخدام تقنية كريسبر، تمكن العلماء من تعديل الحمض النووي لتصحيح العيوب الجينية في الحيوانات وتعديل تسلسل الحمض النووي في الخلايا الجذعية الجنينية، وهو تقدم فتح الطريق لتعديل جينوم الحيوانات المنوية والبويضات لدى البشر. تقاسم دودنا وشاربنتييه جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2020 لاكتشافهما وتطوير تقنيات تحرير الجينات.

أمضت دودنا معظم شبابها في هيلو، هاواي. بعد حصولها على شهادة في الكيمياء عام 1985 من كلية بومونا في كاليفورنيا، التحقت بجامعة هارفارد. عملت هناك في مختبر عالم الكيمياء الحيوية وعالم الوراثة الأمريكي المولود في إنجلترا جاك دبليو زوستاك (الذي فاز بجائزة نوبل لعام 2009 في الفيزيولوجيا) وفي عام 1989 حصلت على درجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية. في عام 1994، بعد دراسات ما بعد الدكتوراه في جامعة كولورادو تحت إشراف عالم الكيمياء الحيوية والأحياء الجزيئية الأمريكي توماس ر. تشيك (الذي حصل على حصة من جائزة نوبل للكيمياء عام 1989)، انضمت إلى هيئة التدريس في جامعة ييل. وفي عام 2002 انتقلت إلى جامعة كاليفورنيا، بيركلي، حيث عملت كأستاذة للكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية.

في وقت مبكر من حياتها المهنية، عملت دودنا على استنتاج الهياكل ثلاثية الأبعاد لجزيئات الحمض النووي الريبي (RNA)، والتي قدمت نظرة ثاقبة على النشاط التحفيزي للحمض النووي الريبي (RNA). قامت لاحقًا بالتحقق من التحكم في المعلومات الجينية بواسطة بعض أنواع الحمض النووي الريبي (RNA) الصغيرة وأصبحت مهتمة بتقنية كريسبر. كريسبر هو جزء من الجهاز المناعي البكتيري. ينشأ بتسلسل الحمض النووي الريبي (RNA) من الفيروسات الغازية التي تُدمج في الجينومات البكتيرية. توجد التسلسلات الفيروسية على شكل DNA في الفواصل بين الكتل القصيرة المتكررة لتسلسلات الحمض النووي البكتيري. في المرة التالية التي يغزو فيها الفيروس الخلية البكتيرية، يتم تحويل الحمض النووي المباعد إلى RNA. يرتبط تقنية كريسبر وجزيء RNA الثاني بالـ RNA المشفر حديثًا، والذي يبحث بعد ذلك عن خيوط مطابقة من الحمض النووي الفيروسي. عند مواجهته، تقطع تقنية كريسبر الحمض النووي الفيروسي، مما يمنع تكاثر الفيروس. وجد دودنا وشاربنتييه أن تسلسل الحمض النووي الريبوزي الدليلي يمكن تغييره لتوجيه تقنية كريسبر إلى تسلسل الحمض النووي الدقيق. وسرعان ما أدى اكتشافهم إلى تحويل مشهد هندسة الجينوم، مما خلق فرصًا جديدة لعلاج الأمراض التي تصيب الإنسان.

كانت هندسة الجينوم لدى البشر نتيجة حتمية للتقدم السريع في تقنيات الهندسة الوراثية. ومع ذلك، لم يكن معروفًا سوى القليل عن سلامته، وقد أدى استخدامه لتحرير الحمض النووي البشري إلى تجديد المخاوف الأخلاقية، وخاصة حول ما إذا كان ينبغي استخدام تقنيات الهندسة الوراثية لتعديل السمات غير المرضية، مثل الذكاء. في أوائل عام 2015، نظمت دودنا جهدًا دعا إلى وقف تحرير الجينوم البشري، وفي إبريل من ذلك العام، وضعت هي وزملاؤها إطارًا لاتخاذ إجراءات فورية لحماية جينومات الأجنة البشرية من التعديل. على الرغم من الجهود الاحترازية، أعلن علماء صينيون في أبريل 2015 عن قيامهم بتغيير جينومات الأجنة البشرية عبر تقنية كريسبر-كاس9.

بالإضافة إلى حصولها على جائزة نوبل، حصلت دودنا على العديد من الأوسمة والجوائز لأبحاثها، بما في ذلك جائزة جروبر في علم الوراثة (2015) وجائزة كندا جيردنر الدولية (2016)، وكلاهما تقاسمته مع شاربنتييه. كانت دودنا عضوًا منتخبًا في أكاديميات متعددة ومحققًا في معهد هوارد هيوز الطبي (منذ عام 1997).

النشأة وجائزة نوبل

كانت الدكتورة دودنا في السابعة من عمرها عندما انتقلت إلى هيلو، حيث قام والدها بتدريس الأدب في حرم جامعة هاواي هناك، وكانت والدتها تحاضر في التاريخ في كلية المجتمع. كانت ابنتهما تحب استكشاف الغابات المطيرة وكانت مفتونة بكيفية سير الأمور. وجدت هدفها في المدرسة الثانوية بعد أن استمعت إلى محاضرة ألقاها أحد العلماء حول بحثها حول كيفية تحول الخلايا الطبيعية إلى سرطانية.

بعد دراسة الكيمياء الحيوية في كلية بومونا في كاليفورنيا، ذهبت إلى جامعة هارفارد لإكمال الدراسات العليا. وهناك كان مستشارها، الحائز على جائزة نوبل جاك زوستاك، يجري أبحاثًا حول الحمض النووي الريبوزي (RNA). يعتقد بعض العلماء أن الحمض النووي الريبوزي (RNA)، وليس الحمض النووي (DNA)، هو أساس الحياة المبكرة، حيث يمكن للجزيء تخزين المعلومات الجينية وتحفيز التفاعلات الكيميائية.

حصلت الدكتورة دودنا على درجة الدكتوراه عن طريق هندسة الحمض النووي الريبوزي التحفيزي الذي يمكنه التكاثر الذاتي، مما يضيف دليلاً على هذه النظرية. لكن عدم قدرتها على تصور هذا الحمض النووي الريبي التحفيزي أعاق عملها.

لذا، باعتبارها باحثة ما بعد الدكتوراه في كولورادو، قررت أن تحاول تحديد البنية الذرية ثلاثية الأبعاد للحمض النووي الريبي (RNA) باستخدام حيود الأشعة السينية، ونجحت، على الرغم من أنها لم تحصل على تدريب رسمي على هذه التقنية. ومنذ ذلك الحين، كانت الدراسات البنيوية والكيميائية الحيوية للحمض النووي الريبوزي (RNA) قيد التنفيذ هي موطن قوتها.

وفي عام 2000، أثناء وجودها في هيئة التدريس بجامعة ييل، فازت بجائزة آلان تي ووترمان، التي تمنحها المؤسسة الوطنية للعلوم كل عام لعالم شاب استثنائي. انتقلت إلى بيركلي في عام 2002.

في عام 2005، اتصلت جيليان بانفيلد، وهي باحثة بيئية في بيركلي، بالدكتور دودنا، وكانت تقوم بتسلسل الحمض النووي لميكروبات غير عادية تعيش في منجم مهجور شديد الحموضة. في جينومات العديد من هذه الميكروبات كانت هناك تسلسلات متكررة غير عادية تسمى كريسبر.

لم يكن أحد متأكدًا تمامًا مما فعلوه، على الرغم من أن العلماء في أماكن أخرى أثبتوا خلال السنوات القليلة التالية أن هذه التسلسلات كانت جزءًا من جهاز المناعة البكتيري. وبين التسلسلات المتكررة كانت هناك امتدادات من الحمض النووي مأخوذة من فيروسات سبق أن أصابت البكتيريا، وهي ملصقات وراثية مطلوبة للغاية، إذا جاز التعبير.

حصلت دودنا على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2020

تطلق مجلة التجارة والأعمال البراقة فاست كومباني كل عام قائمة تضم ما تعتبره «أكثر 50 شركة ابتكارًا في العالم». والشركات التي تحتلها لا تخالف التوقعات. ففي عام 2012، كان المركز الأول من نصيب شركة أبل، تبعتها فيسبوك، ثم جوجل، ثم أمازون. ألاحظتم الطابع المشترك؟ من بين أول 10 شركات، ليس هناك سوى شركتين اثتنين غير رقميتين بالمقام الأول. إحداهما، لايف تكنولوجيز، التي تعمل في مجال الهندسة الوراثية. (والأخرى –حاولوا ألا تضحكوا– هي حركة «احتلوا». تصفهم فاست كومباني بأنهم «شفافون. متقنون للتكنولوجيا. متقنون للتصميم. محليون وعالميون. رشيقون»). ليس معظم هذه الشركات رقميًا وحسب، بل كلها أسماء لامعة وفريدة، وتكاد جميعًا تكون أسماء معروفة في كل بيت.

يمنح الجميع، من فوربس وحتى بزنس ويك، جوائز لأكثر الشركات ابتكارًا. وكلها متشابهة إلى حد بعيد ومتوقعة. ولكن لهذه القوائم أثرًا عكسيًا. فهي تلمح إلى أن النجاح العظيم للرأسمالية واقتصاد السوق يكمن في اختراع تكنولوجيا جديدة متطورة وأننا إن أردنا رؤية تقدم الرأسمالية، فعلينا أن نبحث عن التصاميم الأنيقة والموضة الرائجة. فالابتكار، حسب ما يخبرنا الإعلام، هو اختراع أدوية السرطان، والألواح الشمسية، وشبكات التواصل الاجتماعي.

ولكن العبقرية الحقيقية في اقتصاد السوق ليست في أنه ينتج بضائع معروفة، لها دعاية ضخمة تؤدي إلى طوابير على محلات البيع بالتجزئة، ولا الاختراقات الطبية التي تتصدر عناوين أخبار المساء. لا، بل إن عبقرية الرأسمالية تكمن في الأشياء الصغيرة – الأشياء التي لا يلاحظها أحد.

يتميز اقتصاد السوق بتتابع لانهائي من التغييرات والتعديلات التكرارية والتي بالكاد يمكن ملاحظتها. لطالما تحدث اقتصاديو السوق الحر عن الطبيعة غير المخططة وغير المنسقة للابتكار الرأسمالي. لقد أهملوا التأكيد على مدى كونه خفيًا. ومن الاستثناءات في ذلك العظيم آدم سميث.

في كتابه ثروة الأمم، كان المثال الذي استخدمه لشرح تقسيم العمل مصنع دبابيس. لقد وصف بعناية العملية المعقدة التي تتأتى عنها صناعة الدبوس. يتطلب إنتاج رأس الدبوس «من 2 إلى 3 عمليات مميزة». ذلك أن وضع الرأس على السلك «عملية عجيبة». بعد ذلك يجب تبييض الدبابيس. خلص سميث إلى أن إنتاج دبوس مهمة من 18 خطوة.

كان سميث يقيم الحجة لصالح التخصص، ولكن اختياره للمثال كان على نفس القدر من الأهمية. من الصعب التفكير بشيء أقل إثارةً للإعجاب، وأقل أثرًا من الدبوس. أراد سميث من معاصريه ألا يفكروا في الاقتصاد عبر مراقبته من قصور شاهقة أو من قاعات المحاضرات، بل من خلال رؤيته من أسفله إلى أعلاه – لإدراك كيف أن اقتصاد السوق مجموع ملايين المهمات الصغيرة. إنه درس لم يتعلمه كثيرون بعد. يجب علينا أن نقدر حذاقة ما هو تافه في ظاهره.

الرأسمالية تعني الكفاءة

إن رف بيلي للكتب في إيكيا قطعة أثاث يومية شائعة وفي المتناول، ما تزال تنتج باستمرار منذ 1979. احتفظ الرف بنفس شكله تمامًا منذ أكثر من ثلاثة عقود، ولكنه أرخص بكثير. يكلف التصميم التقليدي –أطول من ست أقدام– 59.99$. ومن وجهة نظر هندسية، فإن رف بيلي مختلف بشكل هائل عن أسلافه.

خلال هذه السنوات الثلاثين تغير منتج بيلي تغيرًا طفيفًا، لكنه مهم. تغيرت بنية الجدار الخلفي مرةً تلو الأخرى، إذ حاولت الشركة تخفيف وزن الظهر (فالوزن له ثمن) مع زيادة متانته. وحتى الأوتاد التي تمسك الرفوف المتحركة، قد خضعت لتغييرات دراماتيكية. كانت الأوتاد حتى وقت قريب أسطوانات معدنية بسيطة. أما الآن فهي ذات أشكال متطورة، تتناقص أبعادها تدريجيًا وصولًا إلى شكل كوب يحمل رفوف الكتب المتحركة على الطرف الذي يرتكز الرف عليه. إن الأقواس التي تحافظ على تماسك الإطار هي الأخرى قطع هندسية معقدة.

إن إيكيا شركة ضخمة. ومن ثم فإن التغييرات الصغيرة –حتى ولو على الأوتاد المعدنية للأرفف– تزداد حجمًا عند الإنتاج بالجملة. ليس هناك شك في وجود شخص ما، في مكان ما على سلم تصميم المنتجات في إيكيا، كان تركيزه الأوحد على تخفيف الوزن وزيادة المتانة لهذه الأوتاد. خلد هذا الشخص إلى النوم وهو يفكر بالأوتاد والمعادن والموازنة بين المتانة والوزن. يساعد عمله الذي يبدو بلا توابع إيكيا على المحافظة على انخفاض أسعارها وارتفاع أرباحها. ومع كل تغيير دقيق لشكل أوتاد أرفف بيلي المعدنية، تكسب الشركة أضعاف راتبه.

ولكن كون إيكيا شركة ضخمة، من جهة أخرى، يعطيها ميزةً على غيرها: فهي قادرة على تعيين مختصين، يقتصر عملهم على الهوس بأشياء بسيطة كأوتاد الأرفف. إن إيكيا معروفة بابتكاراتها الأبرز –كالتعبئة المسطحة، التي يمكن أن تختصر تكاليف الشحن حتى السدس– والانخفاض الشديد في عدد الموظفين في متاجر التجزئة لديها.

بالنسبة لتجار التجزئة الذين يستخدمون الصناديق الكبيرة، فإن الابتكار يتعلق بالكفاءة، لا الاختراع. قد لا تربح سلاسل التوريد شديدة المرونة جوائز ابتكار براقة، ولكنها مصدر الكثير من ازدهارنا المعاصر. لكن إيكيا كبيرة وشهيرة. لذا دعوني أقترح أيقونةً أخرى للابتكار والدينامية الرأسمالية: البيتزا.

الرأسمالية مذاقها أفضل، وأرخص

البيتزا أحد أطعمتنا العادية والبسيطة. وهي آخر ما قد يتطلع إليه معظم الناس للابتكار والهندسة. إنها، في أبسط صورها، خبز رقيق مغطى بالطماطم والجبن – طعام فقراء نابولي المصدّر، الذي لا حصر لأشكاله حول العالم.

يتناول 41% من الأميركيين البيتزا مرةً واحدةً على الأقل أسبوعيًا، سواء كانت مجمدة وأعادوا تسخينها في الفرن المنزلي، أو طلبوا توصيلها، أو أخذوها من المطعم، أو حضروها من الصفر في المنزل. وكل هذه الاختيارات أكثر تعقيدًا مما يبدو. فالحفاظ على البيتزا مقرمشةً لفترة طويلة خارج الفرن لضمان وصولها عند التوصيل، أو التأكد من أنها ستصبح مقرمشةً في فرن منزلي متغير الحرارة بعد تجميدها لأسابيع ليست بالأمور البسيطة.

الرطوبة هي العدو. بالنسبة للبيتزا المجمدة، إنها تعني وجوب طهي الطبقة العلوية مسبقًا بدقة لتجنب احتراق بعض المكونات، بينما ما تزال مكونات أخرى تسخن. تتعرض البيتزا المجمدة لانتهاكات كثيرة – إذ تذوب جزئيًا في كل مرة تنقل من المصِّنع إلى السوبر ماركت ثم إلى ثلاجة المنزل. لذلك يجب معالجة العجين بدقة لضبط محتوى الماء فيه.

يتجمد الجبن بصورة سيئة، ويتوقع المستهلكون أن يذوب بالتساوي على القاعدة، لذا يقلق الصانعون حول درجة حموضة الجبن ومحتوى الماء والملح فيه. وبالطبع تُتخذ كل هذه القرارات مع مراعاة ميزانية العميل وربحية الشركة المصنعة. عادةً، يضع مستهلكو البيتزا المجمدة العائلية السعر في مقدمة اهتماماتهم. إن فرص الابتكار في العمليات والمعدات والأتمتة والكيمياء تكاد لا تنتهي.

يزداد الأمر تعقيدًا عندما نأخذ في الاعتبار تغيّر أذواق المستهلكين. لا يريد مستهلكو البيتزا العصريون الجبن والطماطم والبيبروني وحسب. فمع ازدياد الخبرة بمذاق الطعام، يبحثون عن نكهات أكثر تعقيدًا، حتى في البيتزا المجمدة. إن إتقان كيفية ذوبان الشيدر أو الموزاريللا مسألة مختلفة تمامًا عن التعامل مع أنواع الجبن الأقوى طعمًا مثل البري أو الغودا المدخنة. ومثل خبير أوتاد الأرفف في إيكيا، ثمة المئات من المهووسين حول العالم بكيفية ذوبان الجبن المجمد في الفرن المنزلي. وتتكرر هذه التعقيدات في كل مكون من مكونات هذا المنتج البسيط. (كيف يمكن للمرء يهيأ موزع البيبروني الآلي لتوزيع جبنة الفيتا بدلًا منه؟).

يطلب المستهلكون أيضًا صفات جمالية. يجب أن تبدو المنتجات المجمدة أصليةً. يفضل العملاء أن تحتوي حواف البيتزا على علامات حرق خفيفة، حتى لو لم تنتجها أفران المنازل بشكل طبيعي. لذا يجرب المصنعون جميع أنواع تقنيات التسخين لمحاكاة النتيجة المرئية لفرن الحطب.

تبدو بيتزا المطاعم المأخوذة أسهل ولكنها تنطوي على نفس مقدار التعقيدات تقريبًا. تعمل بعض سلاسل البيتزا الكبرى ببطء على دمج نفس نوع موزعات الصلصة والإضافات العلوية التي يستخدمها مصنعو السلع المجمدة. لأن الجبن مكلف ويصعب توزيعه بالتساوي، تستخدم سلسلة مطاعم البيتزا دومينوز موزع «جبن أوتوماتيكي» خاص، يأخذ قطعًا موحدةً من الجبن وبضغطة زر واحدة يبشرها بالتساوي على القاعدة.

تعتبر مشاكل الرطوبة أكثر تفشيًا في البيتزا المأخوذة. يجب أن تظل البيتزا المخبوزة ساخنةً ومقرمشةً وسليمةً لبعض الوقت قبل استهلاكها. فإذا أغلقت العلبة، سيتخلل البخار الناتج عن البيتزا الساخنة الخبز، ويجعله طريًا وغير شهي. لكن فتح العلبة يفقد البيتزا حرارتها بسرعة كبيرة. لقد حقق المهندسون التوازن. إذ تساعد الفتحات الموجودة في العلبة والحوامل البلاستيكية الثلاثية في وسط البيتزا على تدفق الهواء. ويحمل عمال التوصيل البيتزا في أكياس معزولة كبيرة للحفاظ على الحرارة وكذلك الحد من خطر تلف البخار.

يمكننا تكرار هذا التحليل بسهولة لمعظم الأطعمة المحضرة أو المصنعة في السوبر ماركت النموذجي. ثم يمكننا التفكير في تعقيدات تقديم الطعام، ليس في مطبخ منزلي، ولكن على متن طائرة تحلق بسرعة تزيد عن 600 ميل في الساعة وعلى ارتفاع 37,000 قدم في الهواء، يُطهى في مطبخ صغير لمئات الأشخاص في كل مرة.

فبعض أكثر الإنجازات اللوجستية استثنائيةً في العالم الحديث لا تلاحظ على الإطلاق. وبعضها الآخر –مثل طعام الطائرات– نستخف بها بشدة، دون أن ندرك الجهد الحقيقي وراءها.

تتمحور الرأسمالية حول الابتكار، وكذلك الاختراع

من روائع المقالات في تراث السوق الحرة مقالة ليونارد ريد «أنا قلم رصاص». ريد هو مؤسس «مؤسسة التعليم الاقتصادي»، إحدى مراكز الفكر الأمريكية المؤثرة. يتبنى في مقالته منظور قلم رصاص خشبي عادي ويدعي أنه يكتب سلسلة نَسَبِه. بدأ كشجرة أرز من شمال كاليفورنيا أو أوريغون، قُطعت وحُصدت وشُحنت على متن قطار إلى مطحنة في سان لياندرو، كاليفورنيا، وهناك قطّعت إلى «شرائح صغيرة بطول قلم الرصاص يقل سمك الواحدة منها عن ربع البوصة».

ويشير ريد: «لا يوجد أحد على وجه هذه الأرض» يستطيع صنع قلم رصاص بمفرده. إن تصنيع قلم رصاص موزع بالكامل بين «ملايين البشر»، بدءًا من الإيطاليين الذين يستخرجون الخفاف للممحاة، وصولًا إلى مصنعي القهوة الذين يوردون مشروباتهم إلى قاطعي أشجار الأرز في أوريغون.

كان ريد يوضح بصورة حيوية وجهة نظر فريدريك هايك الشهيرة – يتمكن هؤلاء الأشخاص المنفصلون، من خلال نظام الأسعار وحده، من صنع شيء معقد للغاية. لا يهدف أي من عمال مناجم الخفاف إلى صنع أقلام رصاص. إنهم يريدون ببساطة مقايضة عملهم مقابل الأجر. وتقوم يد آدم سميث الخفية بالباقي. نشر ريد مقالته عام 1958. تغيرت الصيغة الكيميائية للممحاة، والمعروفة باسم «السدادة»، مرارًا على مدى نصف قرن منذ ذلك الحين. وأصبح الإنتاج آلي في معظمه، وخطوط التوريد أكثر ضيقًا.

تُضاف مواد كيميائية إلى الممحاة لمنع تشققها، فيختلف إنتاج المطاط الصناعي في عام 2012 كثيرًا عما كان عليه في عام 1958. تبدو هذه السدادات الصغيرة متشابهةً جدًا ولكنها تطورت بعشرات الطرق المختلفة. تصور مقالة «أنا قلم رصاص» بشكل رائع تعقيد الأسواق، لكنها لا تصور ديناميكيتها بالكامل. لا يكتفي الملايين من الأشخاص المشاركين في إنتاج أقلام الرصاص بأداء المهام المخصصة لهم في السوق فقط، بل يحاولون أيضًا إيجاد طرق جديدة لجعل قطاعاتهم الصغيرة أسهل وأرخص وأكثر ربحيةً. لا يزال سوق أقلام الرصاص –الأبعد عن ما يمكنك تصوره عن شركة رائدة مثل فيسبوك– مليئًا برواد أعمال يحاولون تفكيك نماذج الأعمال الراسخة لتقليل التكاليف وترشيد سلاسل التوريد. في عام 1991، تم بيع إجمالي 144 قلم رصاص خشبي بسيط صيني الصنع في سوق الجملة مقابل 6.91 دولار. وفي عام 2004 انخفض هذا السعر إلى 4.48 دولار.

كل هذا ولم ننظر بعد في تنوع أقلام الرصاص المتاحة للمستهلكين – ليس فقط الأقلام الخشبية بأشكالها وأحجامها وألوانها وكثافتها المختلفة، بل أيضًا أقلام الرصاص الميكانيكية وأقلام الرصاص كبيرة الحجم للأطفال، وأقلام النجارين المستطيلة (لأن الأقلام المستطيلة لا تتدحرج) والقائمة تطول. ولكن، من أكبر عيوب الرأسمالية أنه لا يوجد شيء مثير بطبيعته في أقلام الرصاص. إن البشر يحبون الحداثة. نحن نحب الاختراع. نحن نحب اكتشافات التكنولوجيا المتقدمة التي من شأنها تغيير العالم.

أنا لحم الخنزير

لم يكن الكتاب الأكثر عُمقًا عن الرأسمالية والذي نُشر في العقد الماضي أطروحةً في الاقتصاد أو الفلسفة، بل مشروعًا فنيًا. ففي كتابها الخنزير 05049، عرضت الفنانة الهولندية كريستين مايندرتسما بشكل صارخ صورًا لـ 185 منتجًا صنعت من خنزير واحد فقط.

بيعت جميع أجزاء الخنزير المذبوح وأُعيد استخدمها. طبعًا يعرف الجميع لحمَ الخنزير ولحم فخذ الخنزير، لكن كم من الناس على دراية أن عظام الخنزير تُحوّل إلى صمغٍ لتثبيت أجزاء ورق الصقل؟ أو أن دهن الخنزير مكوّن رئيسي لمادة الدهان، إذ يُسهم في امتدادها ويعطيها لمعانًا؟ تتواجد أجزاء الخنازير في كل شيء، بداية من الزبادي، ومكابح القطار، والورق المستعمل في التصوير الفوتوغرافي، وصولًا إلى أعواد الثقاب – بل وحتى في الطلقات.

اعتبرَ أحد الردود على مايندرتسما كتابَها مجرد إعادة صياغة معاصرة لمقال ليونارد ريد عن القلم الرصاص. إنما المسألة تتعدى هذه التشابه. فكتاب الخنزير 05049 يكشف عما يحاول اقتصاد السوق إبهامه: التعقيدات الشديدة لخلفية المنتجات.

لقد قُطّع ذلك الخنزير إلى أجزاء، وشُحن إلى المصانع والأسواق في جميع أنحاء العالم. ودخل في صناعة أعواد الثقاب، وطلاء النحاس، وأقلام التلوين، وشمع الأرضيات. ليست هناك غرابة في هذه المنتجات – فمن المستهلك الذي يمضي أكثر من ثانية في التفكير بقلم التلوين الذي سيشتريه، ناهينا عن كيفية إنتاج تلك الأقلام؟ إنما المسألة كما تشير مايندرتسما، هي أن الرائحة المميزة للعديد من أقلام التلوين تأتي من الأحماض الدهنية، المشتقة بدورها من دهون عظام الخنازير، والتي تُستخدم كعامل تصلُّب.

نُشر كتاب الخنزير 05049 في العام 2007. تُعتبر صناعةُ المواد الكيميائية الزيتية –أي الصناعة التي تشتق المواد الكيميائية من الزيوت والدهون الطبيعية– واحدةً من أكثر الصناعات ابتكارًا في العالم. وكغيرها من الصناعات التي تشهد تغيرًا تقنيًا وعلميًا متسارعًا، فإنها تعيد هيكلةَ نفسها أيضًا، إذ تنقل عمليات إنتاجها من أوروبا الغربية والولايات المتحدة إلى الصين، وماليزيا، وإندونيسيا.

تعدّ 6 سنوات فترةً طويلة بالنسبة لسوقٍ تنافسية. ورغم أن أقلام التلوين تبدو بسيطة، فهي آخذة في التغيّر: فقد خُفّضت تكاليف الإنتاج، ويتمّ استخدام المواد الخام بكفاءة أكبر، إضافة إلى تضييق خطوط الإمداد. حاليًا، تبيع أمازون الآن 2,259 منتجًا ضمن فئة أقلام تلوين الرسم للأطفال وحدها.

الحكومة لا تفهم الابتكار

إذا كانت شركة فاست كومباني تفهم طبيعة الإبداع في اقتصاد السوق فَهمًا ملتويًا، فهي ليست الوحيدة. فالحكومات تفعل الشيء نفسه. تضمّ الحكومة الفيدرالية الأسترالية وزيرًا للابتكار، وتقدّم وزارة الصناعة، والابتكار، والعلوم، والبحث والتعليم العالي المِنح للاختراعات والشركات الناشئة. ويرعى برنامج «التسويق التجاري في أستراليا» التابع لها المخترعين الذين «حوّلوا فكرة مبتكرة إلى واقع».

تضطلع مؤسسة إنوفيشن أستراليا بتمويل الباحثين عن المنح لتحويل «أفكارهم الرائدة إلى منتجات تجارية». هذا هو هَوس الاختراع – فكرة أن التقدم التقني لا يصبح حقيقةً إلا عندما يكون لدى الحالمين أفكار عظيمة. وكل ما ينبغي على المجتمع فعله هو تمويل الأحلام لتستحيلَ واقعًا.

بَيدَ أنّ الأفكار هي الجزء السهل. ويتمثّل الجزء الصعب في إنجاز الأمور. إن أصعدة مثل إنشاء مشروع تجاري، وتقليص التكاليف، والحصول على حصة في السوق والاحتفاظ بها، هي ما يعرض الشركات للربح أو الخسارة. تكمن براعة اقتصاد السوق في الابتكارات الصغيرة التي تهدف إلى صقل وتحسين المنتجات والخدمات الموجودة فعلًا. إن الاختراع رائع، لكن لا يجوز لنا الادّعاء بأن الاختراعات وحدها هي ما جعلنا أثرياء.

إننا نحظى بمستويات معيشة أعلى من أسلافنا بفضل الأشياء الصغيرة. وحريٌّ بنا أن نكون أكثر وعيًا بالهدم الخلاق الحاصل بصورة مستمرةٍ، وبطيئة، وغير محسوسة في اقتصاد السوق، وبالمطوّرين المستغرقين على الدوام في التحسين التدريجي للبيتزا المجمدة، ورفوف الكتب، والأقلام الرصاص، وأقلام التلوين.

رغم أن فريدريك هايك (1899-1992) قد ساهم في مجالات عدة خلال مسيرته الفكرية، إلا أن هناك ثيمة واضحة ممتدة عبر أعماله. تتمثل هذه الثيمة في طبيعة المعرفة البشرية المجزأة والمتناثرة. تنطوي الحالة البشرية على أنه ليس باستطاعة أحد امتلاك أكثر من جزء متناهي الصغر من المخزون الكلي للمعرفة الاجتماعية. كان أهم سؤال شغل هايك في العلوم الاجتماعية هو: ما نوع المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمكنها التأقلم مع الحالة البشرية؟ تتعامل كل الإسهامات التي قدمها هايك واشتهر بها مع هذه المشكلة الصعبة بطريقة ما. حين تؤخذ هذه الفكرة في الاعتبار، سيصل القراء الذين لم يألفوا أعمال هايك إلى مبدأ متكامل تتضح من خلاله الخيوط المنفصلة لأعماله متعددة الأوجه في كُلٍ متسق.

المعرفة ونظام الأسعار وعملية السوق

اشتُهر هايك بدوره في شرح مساعدة نظام الأسعار في اقتصاديات السوق للأفراد على التأقلم مع حقيقة أن معرفتهم محدودة. في أغلب مراجع الاقتصاد المدخلية، تُعرّف «مشكلة الاقتصاد» بأنها تخصيص وسائل نادرة لصالح غايات متنافسة بأفضل طريقة ممكنة. رفض هايك هذا المفهوم عن المشكلة الاقتصادية، واقترح بدلًا من ذلك أن المشكلة تكمن في كيفية الاستغلال الأمثل لشذرات المعرفة المتناثرة، والموزعة في أرجاء المجتمع في صورة مجزأة بشدة وليست قابلة للقياس موضوعيًا. يعتبر هايك أن المعلومات الضرورية للحصول على تخصيص ناجع للموارد لن تكون متاحة لعقل واحد أو مجموعة من العقول. إذن فكيف للتقدم الاقتصادي أن يحصل؟

كانت إجابة هايك على ذلك من خلال الدور التنسيقي الذي يؤديه نظام الأسعار في اقتصاديات السوق. عندما يكون ذلك الدور شرطًا على المؤسسات التي تحمي الملكية الخاصة وتلتزم بسيادة القانون، ستمثل أسعار السلع والخدمات لاقتصاد ما، في وقت محدد، «أفضل تخمين» للأفراد لقيمة مواردهم. يعني السعر المرتفع للبرتقال قليلًا مقارنةً بالتفاح، أن البرتقال أقيم من التفاح هامشيًا. يستخدم العاملون في السوق الأسعار بصفتها بدائلًا للمعرفة وبصفتها معرفة في حد ذاتها.

على سبيل المثال، إن ارتفع سعر التفاح، سيؤدي ذلك إلى استهلاك الأفراد لعدد أقل من التفاح، وهو أمر مرغوب بما أن التفاح أصبح أقيم هامشيًا. ليس من الضروري أن يعرف الأفراد لماذا ارتفع سعر التفاح؛ كل ما عليهم فعله أن يلاحظوا أن السعر تغيّر ويعدّلوا سلوكهم وفقًا لذلك. بهذه الطريقة، يمثل نظام الأسعار نظامًا تبادليًا ضخمًا بين المعلومات والاستجابات، يساعد الأفراد في مسار أنشطتهم السوقية على إحداث تخصيص ناجع للموارد، رغم أن النجاعة الكلية ليست الهدف لأي فرد أو مجموعة من الأفراد.

تظهر رؤية هايك للدور المعلوماتي للأسعار بقوة في رؤيته للسوق بصفته عمليةً. يرى هايك أن السوق شبكة من علاقات التبادل التي تتعدل باستمرار بين ملايين من الأفراد. وفي أي وقت من الأوقات، ستكون هناك أخطاء مغروسة في نظام الأسعار، لأن الأفراد بشر وميالون إلى ارتكاب الأخطاء. لكن نظام الأسعار هو على وجه التحديد الآلية التي تسمح للأفراد في نهاية المطاف أن يكتشفوا أخطائهم ويصححوها.

يخطئ الكثيرون في اعتبار هايك منظرًا تهمه النجاعة فقط، ويصرّون على أن حجة هايك تفترض أن أسعار الأسواق ستصبح بالضرورة صحيحة وتحوي كل المعلومات ذات الصلة التي تخص ندرة الموارد النسبية. إن فكرة هايك أغنى وأكثر دقة: بالنظر إلى الاحتمال الحقيقي للخطأ، ستصحح عملية السوق، التي تشمل الأفراد العاملين بمعرفة وفرها لهم الدور المعلوماتي لنظام الأسعار، بمرور الوقت عدم النجاعة في السوق وتتقدم نحو تخصيص موارد ناجع.

 

المال ورأس المال ودورات الأعمال

حاز هايك جائزة نوبل في الاقتصاد بفضل عمله حول المال ورأس المال ودورات الأعمال عام 1974، لكن هذا العمل كان أكثر إثارةً للجدل من عمله حول بالمعرفة ونظام الأسعار. كان هايك متمسكًا بصرامة بالتراث النمساوي فيما يخص رؤيته لكيفية عمل اقتصاد يعتمد على المال، وكيف تحاذي بنية رأس المال الاقتصادية بين عرض المنتجين وطلب المستهلكين، وكيف تنتج السياسة النقدية التوسعية المفرطة أخطاءً في نظام الأسعار، ما يؤدي إلى دينامية ازدهار وكساد.

يركز عمل هايك حول رأس المال على بنية رأس المال. تعد السلع الرأسمالية (السلع التي تنتج سلعًا أخرى) غير متجانسة. ووجود توليفة محددة من السلع الرأسمالية ضروري لإنتاج سلع استهلاكية نهائية. إن بنية رأس المال، بالنسبة للاقتصاد، شبكة للسلع الرأسمالية، وينبغي ألا تنسق فقط عبر السلع والخدمات، وإنما أيضًا عبر الوقت. يستغرق الإنتاج المعتمد على كثافة رأس المال وقتًا، ما يدفع المستهلكين إلى انتظار السلع تامة الصنع والخدمات فقط إن أضافت عملية إنتاج رأس المال قيمة كافية لتعوض المستهلكين عن الانتظار. وهذا يؤدي مرةً أخرى إلى دور نظام الأسعار في إحداث هذا التنسيق ثنائي الأبعاد (عبر السلع والخدمات، وعبر الوقت).

يرى هايك أن عملية السوق تثمر بصورة اعتيادية عن ذلك التنسيق. إن كانت بنية رأس مال الاقتصاد، لسبب ما، غير منسقة كما يجب، ستسنح فرصة ربح لمُنتج ما من خلال الانخراط في عملية إنتاج ملائمة أكثر مع مطالب المستهلكين، وسيساعد نظام الأسعار المنتج المحتمل في الحصول على المعلومات الضرورية ليلبي ذلك الطلب بأقل الطرق تكلفة.

ولكن إن كان نظام الأسعار في حالة خطأ منهجيّ، سيظهر احتمال انهيار التنسيق بين الزمني. جادل هايك بأن السياسة النقدية التوسعية المفرطة أثارت ضوضاء في نظام الأسعار وزادت من صعوبة قيام نظام الأسعار بدوره المعلوماتي. تحفز السياسة النقدية التوسعية، التي يرافقها عادة انخفاض في أسعار الفائدة، المنتجين على الانخراط في الإنتاج المعتمد على كثافة رأس المال. إن انخفضت أسعار الفائدة بسبب ارتفاع في المدخرات مثلًا، ستكون هذه الاستجابة مضمونة. ولكن إن كان انخفاض أسعار الفائدة بسبب الضخ المالي فقط، فذلك يعني أن أسعار الفائدة المنخفضة تبعث بإشارة مغلوطة. كلما بدت عمليات الإنتاج المعتمدة على كثافة رأس المال أكثر ربحية على المدى القصير، كلما أمست غير مستدامة على المدى البعيد.

وضع عرض هايك لهذه العملية، المعروفة الآن بنظرية دورة الأعمال النمساوية (ABCT)، نظريته حول دورة الأعمال في مقدمة تفسيرات فترات الازدهار والكساد في بدايات ثلاثينيات القرن العشرين، وأصبحت الند الأساسي لنظريات كينز بعدها بفترة قصيرة. طوى النسيان نظرية دورة الأعمال النمساوية بعد الثورة الكينزية، ولكن الأزمة المالية في عام 2008 استحثت تجديد الاهتمام بأفكار هايك حول دورات الأعمال.

 

الفلسفة السياسية والمجتمع الحر

عندما خسرت نظريات هايك لصالح نظريات جون ماينارد كينز في المعركة التي حددت ملامح الاقتصاد الكلي المعاصر، توقف هايك لفترة عن العمل على نظرية الاقتصاد التقني وانصرف إلى ما يُطلق عليه عادة «الفلسفة الاجتماعية».

تكمن أهم أعماله في هذا المجال في الفلسفة السياسية والأخلاقيات والنظرية القانونية. تستكشف كل هذه الأعمال فضائل المجتمع الحر وتصف الشروط الضرورية لاستمراره. وكما في كل كتاباته، يعثر هايك على طريق ليناقش ما توحي به الطبيعة المتناثرة والناقصة للمعرفة البشرية حول الحوكمة.

يرى هايك أن الحرية مرغوبة لأنه لا يستطيع أحد منا التنبؤ بنتيجة التجريب في العالم الاجتماعي. إن استخدمت الدولة إجراءات الإكراه الاعتباطية لمصلحة ثلة من الأفراد أو الجماعات على حساب أفراد أو جماعات آخرين، قد تكون التكلفة اكتشافًا مهمًا يبقى مجهولًا بسبب الضرر الذي يتكبده أولئك المكرَهون. وبما أنه لا يستطيع أحد منا أن يعرف مسبقًا من أين يأتي التقدم، من الأفضل –والأعدل– أن يحصل كل فرد من المجتمع على حماية القوانين العامة التي تمنع أجهزة الإكراه في المجتمع من التمييز بناءً على السمات الفردية. هذا هو أساس فلسفة الحوكمة عند هايك، كما عرضه في ما قد يحسب أنه أكثر إسهاماته ديمومة في الفلسفة السياسية، وهو كتاب دستور الحرية.

ومع ذلك، فإن مساهمته الأكثر شهرة في هذا المجال بدأت قبل ذلك بكثير مع كتاب الطريق إلى القنانة. وجه هايك نقدًا، في كتابه المنشور في أربعينيات القرن العشرين، لادعاءات الاشتراكيين بأن التحرر الحقيقي ينطوي على الجمع بين التخطيط الاقتصادي والحرية السياسية. أثار هايك ضجة عندما قال إن هذين الهدفين غير متوافقين.

إن التخطيط الاقتصادي، الذي يعني في هذا السياق التخطيط الشامل للحياة الاقتصادية من قبل مكتب مركزي يملك جميع وسائل الإنتاج في المجتمع، من شأنه استعباد الأفراد بدلًا من تحريرهم. وذلك لأن العمل هو أحد عوامل الإنتاج، وأحد مدخلات السلع والخدمات النهائية. إذا كان على مكتب التخطيط أن يقرر ماهية ومقدار ما يجب إنتاجه كجزء من خطة اقتصادية رئيسية، فيجب عليه بالضرورة أن يملي على الأفراد شروط استهلاكهم – من خلال اختيار من يحصل على كمية ما من المنتج، وشروط إنتاجهم – من خلال إجبار الأفراد على أنشطة مهنية وترتيبات عمل معينة يجب أن تحدث لتنفيذ الخطة. إن المفهوم الغربي للمثل الأعلى الاشتراكي، إذا ما وصل إلى نهايته المنطقية، سيعني تدمير الاستقلال الفردي.

كانت أطروحة هايك مثيرة للجدل إلى حد كبير وأكسبته عداوة العديد من الأكاديميين اليساريين (على الرغم من أن كينز، منافس هايك في النظرية الاقتصادية، أشاد بالعمل). يرفض الكثيرون اليوم أفكار هايك، بحجة أن الدرجة العالية من الحرية التي يتمتع بها مواطنو العالم الغربي اليوم تدحض فرضية هايك. ومع ذلك، لا يملك المرء إلا أن يتساءل ما إذا كانت حجج هايك، التي نشرت في لحظة حاسمة في التاريخ الغربي، قد ساعدت في التراجع عن الهاوية. لم يتبنى الغرب قط الاشتراكية الشاملة، ومن المثير للاهتمام أن نفكر فيما إذا كان هايك قد ساعد في تجنب المستقبل الذي تنبأ به في كتابه المشؤوم، لأنه قد تم الاستماع إليه (وإلى آخرين يتبنون أفكارًا مشابهة) في الوقت المناسب.

يولي مشروع بيت الحكمة اهتمامًا بالنساء ونجاحهن ومشاركتهن الفعّالة في مشاريع النهضة التي تسعى لتغيير واقع الشرق الأوسط، وينعكس هذا على عدد المترجمات في المشروع اللاتي يمثلن نصف عدد العاملين في المشروع، وعليه استضفنا هنا في مجلة أفكار بلا حدود الدكتورة الصيدلانية ديانا نعوس، لنتحدث معها عن مسيرتها في مشروع بيت الحكمة.

أفكار بلا حدود: أهلًا بكِ ديانا معنا في مجلة أفكار بلا حدود، حدثينا عن نفسك قليلًا.

ديانا نعوس: يسعدني أن أكون معكم في مجلة أفكار بلا حدود وشكرًا على هذه الفرصة. اسمي ديانا نعوس وعمري 27 سنة ولدت في سوريا، حصلت على شهادة البكالوريوس في الصيدلة من جامعة تشرين، وأدرس الآن ماجستير التقانات الحيوية النانوية في جامعة بافيا في إيطاليا. منذ عام 2016 انضممت إلى مشروع أنا أصدق العلم وبدأت بترجمة المقالات الطبية، ثم انضممت إلى مشروع بيت الحكمة عام 2019 وأعمل منذ ذلك الوقت مترجمة في فريق ترجمة مقالات ويكيبيديا.

أفكار بلا حدود: حدثينا عن الاختصاص الذي تدرسينه الآن وكيف نجحت بالحصول عليه؟

ديانا نعوس: حصلت على القبول الجامعي في إيطاليا لدراسة التقانات الحيوية النانوية في جامعة بافيا في إيطاليا، منذ مرحلة الدراسة الثانوية كان حلمي دراسة الصيدلة، وقد حققت علامات تخولني دراسة الطب البشري، لكنني فضلت عليها دراسة الصيدلة. أعتبر هذا الاختصاص خطوة أولى في حلمي أن أصبح باحثة علمية في جامعة رصينة. أدرس هذا الاختصاص باللغة الإنجليزية وقد ساعدتني الترجمة في تقوية لغتي الإنجليزية.

أفكار بلا حدود: هل كان لمشروع بيت الحكمة دور في نجاحك بالحصول على الحصول على القبول الجامعي؟

ديانا نعوس: بالتأكيد، كان لمشروع بيت الحكمة دور كبير في حصولي على القبول الجامعي، بداية من عملي بالترجمة فقد أصبحت لغتي الإنجليزية قوية ما جعل رسالة الدافع التي كتبتها قوية ورصينة، إضافة إلى رسالة التوصية من المشروع التي أضفتها إلى مجمل الأوراق المطلوبة عند التقديم على القبول الجامعي، إذ إن العمل بهكذا مشروع أقنع المسؤولين عن القبول الجامعي بأحقيتي لأنهم يولون اهتمامًا بنوعية الأشخاص الذين يشاركون بأعمال من مهمتها تحسين الواقع ونشر المعلومات الصحيحة، وهذا ما جعل سيرتي الذاتية قوية إضافة لشهادة الإنجاز من مشروع بيت الحكمة إذ حصلت على شهادة إنجاز بعد ترجمتي لـ 500 ألف كلمة لصالح ويكيبيديا العربية، ونالت انتباه المسؤولين في الجامعة. وللعلم هناك زملاء في المشروع استفادوا بشكل كبير من عملهم فس مشروع بيت الحكمة سواء في مقابلات عمل مهنية أو مقابلات للحصول على قبول جامعي.

أفكار بلا حدود: دعينا نتعمق في عملك كمترجمة، ما هي الترجمة بالنسبة لكِ؟

ديانا نعوس: الترجمة هي أحد أهم الأشياء التي حدثت معي في حياتي، إذ ساعدتني كثيرًا في الانفتاح الثقافي وتجاوز الحواجز التي تفرضها اللغة، وبالنسبة لي الترجمة تسد الفجوة بين العرب والدول المتقدمة، ولها دور كبير في التأثير على شريحة واسعة من الناس عندما تنقل لهم أهم أفكار الثقافات الأخرى، والأهم بالنسبة لي أن الترجمة تسهل البحث العلمي للطلاب فتسهل عليهم البحث إن كان حاجز اللغة الأخرى موجودًا.

أفكار بلا حدود: ما الإضافة التي قدمها لكِ بيت الحكمة؟

ديانا نعوس: كانت إضافة مشروع بيت الحكمة كبيرة جدًا في حياتي الشخصية والمهنية، على الصعيد الشخصي كبرت دائرة معارفي من أشخاص يشاركوني الأفكار والتوجهات ذاتها، وعلى الصعيد المهني حصلت على عمل قبل بداية الماجستير بسبب ذكر عملي في بيت الحكمة في سيرتي الذاتية، وأيضًا زادت خبرتي ومعرفتي باللغتين العربية والإنجليزية، وأصبحت قادرة على قراءة أبحاث وكتب باللغة الإنجليزية وكان هذا شيئًا متعذرًا في المرحلة التي سبقت انضمامي لمشروع بيت الحكمة.

أفكار بلا حدود: برأيك ما الأثر الذي يتركه مشروع بيت الحكمة ومن خلفه منظمة أفكار بلا حدود على المجتمع؟

ديانا نعوس: الهدف من المشروع هو إثراء المحتوى العربي على الإنترنت في زمن لا يمثل فيه المحتوى العربي على الإنترنت إلا القليل مقارنة مع لغات من المنطقة ذاتها مثل الفارسية والتركية، لذا أرى بعد خمس سنوات من العمل أن المحتوى العربي يكبر وذلك بفضل مشاريع مثل بيت الحكمة وأنا أصدق العلم. ورأيت أثر بيت الحكمة بالفعل في فترة فيروس كورونا إذ حاولنا بفضل الترجمة عن مصادر موثوقة محاربة وتصحيح طوفان المعلومات المغلوطة التي كانت تنتشر في ذلك الوقت، ولبيت الحكمة أثر آخر هو خلق بيئة منهجية للتفكير والبحث.

أفكار بلا حدود: برأيك ماذا يجب علينا في منطقة الشرق الأوسط لنلحق بركب الدول المتقدمة؟

ديانا نعوس: التغيير ينبع من تضافر جهود جماعية، وعليه فيجب علينا جميعًا المشاركة في هذه الجهود، وبرأيي يوجد تقليل من المجهود الشخصي، إذ يمكن لمبادرة تنطلق من شخص واحد، ومن الضروري القراءة عن شخصيات ملهمة من تاريخنا، إذ يعج التاريخ العربي بمثل هذه الشخصيات. وأخيرً أعتقد أن وجود مشاريع مثل بيت الحكمة هو ما يقود التغيير ويجب دعم هذه المشاريع والاستفادة منها وتكرار تجربتها.

أفكار بلا حدود: برأيك كيف ترين موضوع المساواة بين الرجل والمرأة في الشرق الأوسط؟

ديانا نعوس: كمترجمة أؤمن أن النساء في بلداننا قادرات على النهوض بالمجتمع، فلا ينقصهن شيء، فترى العالمة والطبيبة والمهندسة والمدرسة وغيرها، وهناك انفتاح قوي على مسألة حقوق المرأة، ولا بد من الإشارة أن المساواة الكاملة ما تزال بعيدة نوعًا ما، لكنني مؤمنة بقدرة النساء في بلداننا على الحصول على حقوقهن في كافة المجالات. انظر إلى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فمن قاد مسيرة النهوض بالأمة هن النساء ونحن في بلداننا لسنا أقل من النساء الألمانيات وقادرات على صنع التغيير والنهوض بالأمة.

أفكار بلا حدود: من كان مصدرًا لإلهامك وماذا توجهين نصيحة للشبان والشابات الراغبين والراغبات بالدخول إلى عالم الترجمة؟

ديانا نعوس: لعل أهم شخصية أثرت بي هي العالمة ماري كوري، فقد قرأت عنها مقالةً عندما كنت في الصف السابع وألهمتني قصتها وكفاحها في المجال العلمي والوقوف ضد كل من حاول إعاقة طريقها، فهي المرأة التي حصلت على جائزة نوبل في وقت كان الرجال فقط من تُسمع آرائهم العلمية، وبالنسبة للنصيحة فأحثّ الجيل الشاب على القراءة والتفكير وعلى الانضمام إلى مبادرات تطوعية تسعى لتغيير الواقع ونشر المعلومات الصحيحة والمنهج العلمي.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا