شهد العالم عبر تاريخه عديدًا من الأزمات، والدمار، والحروب، أدّت بمجملها لهرب كثير من الشعوب من موطنها الأم بحثًا عن الحياة في بلدان أكثر أمنًا، واستقرارًا، حاملين معهم في الوقت ذاته ثقافات مجتمعاتهم الأصلية، وخبراتهم الحياتية. ساعد هذا الأمر -رغم مرارته- في كثير من الأحيان إلى تعزيز النمو في تلك البلدان الآمنة المُضيفة.
نعم، قد تجول في بالنا مقولة «مصائب قومٍ عند قوم فوائدُ»، لكنها لا تنعكس على طرف دون الآخر، فكما كانت الحاجة للشعوب الهاربة للأمان، فإن تلك البلدان المُضيفة كانت -وما زالت- بحاجة لأولئك الشعوب بالقدر ذاته لتضمن استمرارية نموها لذا فالجميع يُكمّل بعضه بعضًا.
لكن وبرغم قناعتنا بالأثر الإيجابيّ لتلك المعطيات، نجد أنفسنا نميل للبحث العميق عن الأثر السلبي لرفض المجتمعات الأخرى، ونبدأ بإطلاق الأحكام المُسبقة على الآخرين من دوافع متجذّرة في نفوسنا، كـ الخوف مما يحمله المجهول.
يُعبَّر عن القلق، والخوف من المجهول حديثًا بالمصطلح النفسيّ « رهاب الأجانب »؛
فهل كان للتطوّر يد في الأمر؟
لنبدأ أولًا في تعريف هذا الرهاب
يعرّف الباحثون الزينوفوبيا-Xenophobia أو «رهاب الأجانب» كنوع من نقص المعلومات والمعطيات تجاه موقف محدد ربما يتعرّض له الإنسان، أو شعور مريب عند مواجهته لشخص معيّن، تطوّرت هذه الكلمة عبر السنين لتصل إلى معنى الخوف من الغرباء أو الأجانب. لكن لو دققنا في معناها الأصلي سنجد بأن مجالها أوسع بكثير، ويخرج من إطار التحديد، فهي تعبّر عن شعور القلق والرهبة من أي شيء، أو أي شخص غير معروف أو مألوف. ولكي يتخلّص الشخص من حالة عدم اليقين هذه، يلجأ لمعالجة ما يملك من معلومات بشكل قد يختلف عن الواقع وحقيقته، إذ لطالما كان الخوف من المجهول جزءًا من التجربة الإنسانية، يُقلّب في الناس من حال إلى حال، فمنهم من يثبّطه ومنهم من يجعله يزدهر في أكثر الأوقات اضطرابًا.
تشير الأبحاث، إلى اختلاف مستويات الخوف من المجهول من شخص لآخر، لكن من يكون لديهم هذا المستوى في أعلى درجاته، قد لا يستطيعون احتمال المواقف غير المدروسة، أو المؤكدة بالنسبة لهم، وقد يصل الأمر لعدم قدرتهم على التكيّف، الأمر الذي يؤثر سلبًا على قدرتهم على إحداث تغيير في حياتهم.
غالبًا ما يسيطر تصوّرنا عن مفهوم المنافسة على كثير من أفكارنا، الأمر الذي يصعُب علينا تجاهله، فالإنسان بطبعه لا يستطيع رؤية ما يُكمّل حياته أو يعزز نموّه كمنفعة على صعيده الشخصي، بل على العكس، يرى بنجاح طرف ما في أمر ما، هو خسارة حتمية للطرف الثاني للأمر ذاته.
رهاب الأجانب وعلاقته بالتطوّر
يتجلّى مفهوم « رهاب الأجانب » في التاريخ التطوّري للإنسان، إذ نجد هذا الأمر دقيقًا عندما كان يذهب الإنسان القديم للصيد أو لجمع قوت يومه مثلًا، ويظهر أمامه إنسان آخر في نفس المنطقة، تبدأ التصوّرات اللاإرادية بأن عدد الحيوانات التي ممكن أن يصطادها سيقلّ، وكميّة النباتات وما يمكن جمعه من غذاء سيقلّ أيضًا، وهنا تبدأ الاحتمالات، فإذا كان الشخص الثاني مألوفًا للأول، أو كانوا أقرباء مثلًا، يمكن هنا للجينات المشتركة الاستفادة من هذا الاختلاط، فقد يجمع كلاهما الغذاء وغنائم الصيد، ويتقاسموها فيما بينهم، أما لو كان غريبًا، أو تبدو عليه معالم ثقافة مختلفة، من المرجّح أن يسود شعور المنافسة بينهما، ويهاب أحدهما الآخر.
كما تعزز غرائزنا من «رهاب الأجانب»، فتجعلنا حذرين من التواصل مع الغرباء، لاعتقادنا بأن شيئًا ما – كمرض قد يحملوه مثلًا- سيُصيبنا إذا ما اختلطنا بهم، والعزلة عنهم ستحمينا من هذا المرض، وهذا ما فعله أسلافنا في الماضي، إذ كانوا يملكون تاريخًا حافلًا من الأمراض، لكنهم تمكنوا بعزلتهم تطوير مناعة لتلك الأمراض ولم تعد تؤذيهم، لكنهم إذا ما اختلطوا بغيرهم من المجموعات، قد يؤدي إلى هلاكهم لاختلاف أنظمتهم المناعية، الأمر الذي يعود بنا بالذاكرة لما حدث مع السكّان المحليين لأمريكا، بعد وصول الأوروبيين إليهم.
يرى بعض الباحثون بأن المجتمعات قد استفادت من « رهاب الأجانب » لتطوّر وسيلة خاصة تنجو بها، فالقادمون الجدد ربما يُعيقون بثقافتهم، وقواعدهم، وقوانينهم الخاصة؛ ما يسود من تنسيق وتركيب مجتمعي، والذي من شأنه القيام بفعاليات لصالح هذا المجتمع، أو ربما يأخذ منحىً أشد من ذلك، كأن يتّبع المجتمع المُضيف القواعد والقوانين التي جلبها الأجانب معهم. وإذا ما قام المجتمع المُضيف باتخاذ قرار بالإجماع، يفرض على الأجانب اتباع القوانين والثقافة السائدة في ذلك المجتمع، قد يُعاني هنا القادمون الجدد من «رهاب الأجانب» وتحدث الفوضى، لما قد يعتبرونه نوعًا من أنواع الاستبداد المفروض عليهم.
يمكن للمجتمعات أيضًا أن تشعر ب « رهاب الأجانب »، عندما تجتمع بشعوب تمتلك قيّمًا خاصة تختلف عن قيمها، كما هو الحال في المجتمعات الإثنية في المدن الحديثة، فتراها تتكتّل على بعضها البعض لتشكّل مجموعات خاصة ومدروسة، بدلًا من الاندماج عشوائيًا مع المجتمع، قد يكون هذا الأمر مفيدًا على صعيد المجموعة لما يُعزز من قوّتها المحلية، لكنه في الوقت ذاته يؤدي لتكوين شعور مستمر بالتهديد وانعدام الثقة بشدة مع الآخرين وهذا ما يزيد من طينة «رهاب الأجانب» بلّة.
أمثلة عن رهاب الأجانب
- لا يزال النظام الطبقي الهندي، على الرغم من أنه ليس قضية عرقية، مرتبطًا برهاب الأجانب. إذ لا يزال الهندوس يؤيدون النظام الطبقي الذي تطور لاحقًا إلى المستويات العامة الخمسة للأقسام الطبقية. على الرغم من التشريعات التي تعدهم بنصيب عادل من الفرص، إلا أن الداليت (أفراد الطبقة الدنيا) من الهندوس ما زالوا يشكلون أفقر قطاعات المجتمع الهندي.
- خلال الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد قصف ميناء بيرل هاربر في عام 1941، وجد الكنديون اليابانيون أنفسهم في وضع لا يُحسدون عليه، إذ أجبرتهم المشاعر العامة لرهاب الأجانب على مغادرة منازلهم إلى «منطقة آمنة» أعلنتها الحكومة، حيث حُرموا حتى من المرافق الإنسانية الأساسية. خلال فترة الاعتقال، أدى الفصل العنصري أيضًا إلى فقدان حرياتهم المدنية.
ولكن حتى يُحدد رهاب الأجانب بدقة، لا بد من توافر عنصرين أساسيين:
- العنصر الأول يتمثل بأن تكون مجموعة سكانية موجودة داخل مجتمع ليسوا جزءًا منه، لاختلاف الجنسية، أو الأصل، أو الدين وما إلى ذلك، وغالبًا ما يكونون من المهاجرين الجدد، لكن قد يوجّه رهاب الأجانب نحو مجموعة موجودة منذ قرون، الأمر الذي يؤدي لإثارة ردود فعل عدائية وعنيفة، كقتل وتهجير، وممارسة العنف ضد الأقليات، أو في أسوأ الحالات يصل الأمر لإبادة جماعية.
- العنصر الثاني من رهاب الأجانب هو ثقافي في المقام الأول، لكنه غالبًا ما يكون موجهًا للثقافات الأجنبية داخل البلاد، (كالتطهير العرقي في يوغوسلافيا)، أو خارج البلاد (كالحرب التي شنّتها أمريكا في العراق). يمكن أن يؤدي مثل هذا العدوان إلى حملات سياسية من قِبل القادة لتبرير الحروب ضد ثقافة أو حتى أمة بكاملها.
خلاصة القول
يمكن أن يستند رهاب الأجانب إلى جوانب مختلفة، كـ الخوف والكراهية من عرق آخر، أو الجنسية، وما تحمله من مشاعر قومية قد تكون مفرطة في بعض الأحيان، أو الدين، أو الثقافة وما إلى ذلك، لكن بشكل عام، لا ينطبق هذا إلا على الأشخاص الذين يبدون مختلفين، أو يؤمنون بأنهم مختلفين عن غيرهم. وعندما نرى رهاب الأجانب يزداد من المجموعات غير المتشابهة وراثيًا، ويقل تجاه المتشابهين، فما هو إلا استجابة فطرية بيولوجية من جانب الكائن البشري المتطور في المنافسة بين المجموعات.
المصادر:
- The Great Debate: XENOPHOBIA – Why do we fear others?
- https://www.youtube.com/watch?v=YZLlvc9rviM
- Wimmer, Andreas (1997). “Explaining xenophobia and racism: A critical review of current research approaches”. Ethnic and Racial Studies
- Reny, Tyler T.; Barreto, Matt A. (28 May 2020). “Xenophobia in the time of pandemic: othering, anti-Asian attitudes, and COVID-19”. Politics, Groups, and Identities
- Rosana Barbosa Nunes, “Immigration, xenophobia and the whitening of the Brazilian population.” Journal of Transatlantic Studies 2.1 (2004).
- https://www.bbc.com/worklife/article/20211022-why-were-so-terrified-of-the-unknown
- . https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0887618516300469?via%3Dihub