لطالما جذبت مشاهد الموت والدم وأعمال العنف الحشود، منذ كان الرومان القدماء يتوافدون إلى مدرّج الكولوسيوم العملاق وسط روما، حيث كانت تُقام عمليات الإعدام العلنية، والعروض القتالية بين المصارعين، والمعارك بين السجناء وصيد الحيوانات المفترسة، والتي تبدأ جميعها بقطرات دماء متناثرة وتنتهي بسيل يملأ ساحة القتال. كان مدرج الكولوسيوم بمثابة شباك تذاكر كبير في عصره، ومع تقادم الأيام تحوّل إلى الصالات السينمائية التي تغزو مدننا، وتغص بالمتابعين لأحدث الأفلام، والتي تكاد لا تخلو من أعمال العنف في سيناريوهاتها.
ما الذي يجذب الناس لمتابعة الأفلام أو المسلسلات التي تقوم على أعمال العنف؟
يقول المخرج السينمائي الشهير (كوينتين تارانتينو): أعمال العنف في الأفلام مشوقة ورائعة. وأنا شخصيًا من عشاقها». يبدو أن الكثير منّا يتفق معه، فترانا نستمتع بمشاهدة أفلام الرعب، بل ويخصص بعضنا جزءًا من مدخوله ليكون السبّاق إلى الصفوف الأولى لمشاهدة أحدث تلك الأفلام فور عرضها، وقد وجدت دراسة أجريت على أكثر الأفلام تحقيقًا للأرباح، أن شخصيتها الرئيسية كانت متوّرطة بأعمال العنف.
لكن هل كل المتابعين يستمتعون بهذا النمط من الأعمال؟
من المرجّح أن يستمتع بعض الأشخاص أكثر من غيرهم بأعمال العنف المُقدّمة في الأفلام والمسلسلات، فمثلًا نجد الذكور أكثر ميلًا للعنف من الإناث، وأقلّهم تعاطفًا وبالتالي تكون نسبتهم أعلى وأكثر ترجيحًا بالاستمتاع بمشاهد العنف، كما أن هناك بعض السِمات الشخصية التي ترتبط بهذا الاستمتاع، فالأشخاص المنفتحون ممّن يبحثون عن الإثارة دومًا، سيجدون ضالّتهم في هذه الأفلام.
وعلى النقيض، فالأشخاص الذين يتمتّعون بدرجة عالية من التواضع والتعاطف مع الآخرين، يميلون إلى الابتعاد قليلًا عن هذا النوع من الأعمال، ولا تعطيهم متابعتها قدرًا كبيرًا من الاستمتاع بالنسبة لهم.
تقترح إحدى النظريات أن مشاهدة أعمال العنف سبيل للشفاء، إذ تستنزف عدواننا المفرط والكامن نفوسنا، ومع ذلك فإن هذه الفكرة غير مدعومة بالأدلة الكافية، لأن مشاهدة الأشخاص الغاضبون لأعمال العنف، تجعلهم يميلون ليزدادوا غضبًا وعنفًا.
تُشير الأبحاث الحديثة المستمدة من الدراسات على أفلام الرعب، أنه قد يكون هناك ثلاثة فئات من الأشخاص الذين يستمتعون بمشاهدة الأفلام والمسلسلات القائمة على أعمال العنف، ولكلّ منهم أسبابه الخاصة:
-
مُدمنو الأدرينالين
أُطلق على إحدى هذه الفئات لقب (مُدمنو الأدرينالين)، إذ يسعى هؤلاء الأشخاص للوصول إلى أحاسيس وتجارب جديدة ومكثّفة، والتي يجدونها في الأفلام العنيفة وتجعلهم أكثر حماسًا واندفاعًا. قد يكون جزء من هذه الفئة مَن يستمع بمعاناة الآخرين، فالساديون مثلًا يشعرون بألم الآخرين أكثر من غيرهم، ويستمتعون به.
-
المُذعنين
تستمتع هذه الفئة بمشاهدة أعمال العنف لأنهم يشعرون أن هناك شيئًا يمكن تعلمه منها، يُطلق عليهم لقب (المُذعنين)، فيشعرون بالأحاسيس التي تحرّضها تلك الأفلام، ويكرهونها في الوقت ذاته، لكنهم يتسامحون مع الأمر لأنهم يشعرون بأن ذلك يساعدهم في تعلّم شيء إذا ما استطاعوا تحمّل بعض الألم، فمثلما تُعلّمنا الكوميديا المؤلمة بعض المهارات الاجتماعية، كذلك هي الأفلام العنيفة قد تعلّمنا شيئًا عن كيفية البقاء على قيد الحياة. يتشابه أصحاب هذه الفئة إلى حد ما مع المازوخية الحميدة، الذين يتمتّعون بتجارب مكروهة ومؤلمة في سياق آمن.
-
مواجهو الظلام
يبدو أنه هذه الفئة الأخيرة تجمع بين الفئتين السابقتين، فهم يستمتعون بالأحاسيس الناتجة عن مشاهدة العنف، ويشعرون بأنهم يتعلّمون شيئًا ما، أُطلق على هذه الفئة لقب (مواجهو الظلام) كونهم يواجهون تلك المشاعر ويستخدمونها كوسيلة للتعامل مع جوانب مختلفة من حياتهم، مثل مشاعر القلق مثلًا، وتنظيم العواطف.
قد تكون مشاهدة هذه الأفلام من على أريكة غرفتنا طريقة لتهيئة أنفسنا لعالم عنيف وخطير. الأمر المثير للاهتمام أن دراسة حديثة وجدت أن عشاق أفلام الرعب، كانوا من أكثر الناس مرونة وتقبّلًا خلال جائحة كوفيد-19.
تُسمى حالة الاستمتاع بمشاهدة أفلام وأعمال العنف الآمنة لتعلّم شيء منها ب (نظرية محاكاة التهديد)، وتتناسب مع ملاحظة أن أكثر الأشخاص انجذابًا للأفلام الدموية -الشبّان العدوانيون مثالًا-، هم أكثر الأشخاص ترجيحًا لمواجهة مثل هذا العنف، أو أنهم يمارسونه فعلًا.
ولكن هناك عدة أسباب تجعلنا نعيد النظر في مدى إعجابنا بمشاهدة أعمال العنف، فهل ما يجذبنا فعلًا هو العنف ذاته؟
أظهر الباحثون في إحدى الدراسات التي أُجريت على مجموعتين من الأشخاص الذين عُرض عليهم نسختين من فيلم The Fugitive، بحيث شاهدت المجموعة الأولى الفيلم كاملًا دون أي تحرير لمشاهد العنف فيه، أمّا الأخرى شاهدته بعد إزالة كل تلك المشاهد، فكانت النتيجة أن كلا المجموعتين أٌعجبتا بالفيلم على حد سواء. دُعّمت هذه النتيجة بدراسة أخرى وجدت بأن إزالة العنف المصوّر من الفيلم لا يقلل من إعجاب الناس فيه، حتى أن البعض استمتعوا بالنسخة التي خلت من المشاهد العنيفة أكثر.
لذا، فقد يستمتع كثير من الناس بشيء يترافق مع العنف، وليس بالضرورة العنف نفسه، فقد تخلق تلك المشاهد على سبيل المثال حالة من التوتر والتشويق وحبس الأنفاس، وهو ما قد يجده الناس جاذبًا.
الاحتمال الآخر هو أن ما يستمتع به الناس هو الأفعال الناتجة عن مشاهدة العنف، إذ توفّر فرصة كبيرة لإيجاد معنى للحياة، حيث يسمح لنا العنف في بعض الأحيان من التأمل في حالة الإنسان، والتي هي من أصعب التجارب الإنسانية التي يمكن المرور بها.
نجد أيضًا نظريات أخرى مثل (نظرية نقل الإثارة)، وهو استمرار الشعور بالحماس والإثارة حتى الوصول إلى نهاية العرض العنيف، مما يجعل تلك النهاية أكثر إمتاعًا. كما برزت أيضًا (نظرية الفاكهة المحرّمة)، التي تقترح بأن العنف الذي يُعتبر محظورًا هو ما يجعله جذّابًا، وتماشيًا مع ذلك تزيد علامات التحذير من اهتمام الأشخاص بالبرامج العنيفة.
قد نتمتّع أيضًا بمشاهدة العنف في بعض الأعمال التي تكون عقابًا للمجرمين، فكلما توقع الناس القدرة على معاقبة المجرمين أو المخالفين، كلما أضاءت معها مراكز المكافأة في الدماغ أكثر فأكثر. مع ذلك فإن أقل من نصف أعمال العنف التي تُعرض في الأفلام يتلقّى الأشرار العقاب من قِبل الأخيار.
أخيرًا، قد تكون الدوافع السياسية للدول هي ما تجعلنا نستمتع بالأفلام وأعمال العنف بطريقة لا إرادية دون أن نكون بحاجة له، وبالتالي يجب أن نفكّر في الدوافع السياسية والأيديولوجية الأخرى التي تشجّع على العنف على شاشات السينما على مستوى العالم، فعلى سبيل المثال نرى اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية الوثيق بهوليود، وتأثيرها عليها وعلى وما تنتجه من أفلام، وبذلك يمكن أن يصنع تصوير العنف موافقتنا على سياسات حكومة ما، ويشجّعنا على شرعية سلطة تلك الدولة، وعنفها تجاه إحدى الفئات، بل وقد توجّهنا لتحديد من هم الضحايا الحقيقيين -بنظرهم- أيضًا.
خلاصة القول
من الممكن أن تكون مشاهد العنف التي نستمتع بها، ذات مغزى ومثيرة للأفكار، أو يمكن أن تعزز من التعاطف مع الضحايا، وتجعلنا أكثر أعجابًا بأعمال الشجاعة والجمال الاخلاقي في مواجهة العنف ذاته، أو التأمل الذاتي فيما يتعلّق بدوافعه.
وإن دراسة مدى انتشار مثل هذه الاستجابات الاجتماعية الإيجابية، والظروف التي تحدث في ظلها، من شأنها أن تقدّم توجّهًا نظريًا مثيرًا للاهتمام، وقيمًا اجتماعية لتدفعنا لمزيد من العمل لتحقيق العدالة وطمس العنف.
————————
المصادر
- https://publications.aap.org/pediatrics/article-abstract/133/1/71/68306/Violent-Film-Characters-Portrayal-of-Alcohol-Sex?
- Gentile, Douglas. “Catharsis and Media Violence: A Conceptual Analysis.” Societies, vol. 3, no. 4, Dec. 2013, pp. 491–510. Crossref, https://doi.org/10.3390/soc3040491.
- Cynthia A. Hoffner & Kenneth J. Levine (2005) Enjoyment of Mediated Fright and Violence: A Meta-Analysis, Media Psychology, 7:2, 207-237, DOI: 10.1207/S1532785XMEP0702_5
- Harenski CL, Thornton DM, Harenski KA, Decety J, Kiehl KA. Increased Frontotemporal Activation During Pain Observation in Sexual Sadism: Preliminary Findings. Arch Gen Psychiatry. 2012;69(3):283–292. doi:10.1001/archgenpsychiatry.2011.1566
- Coltan Scrivner, John A. Johnson, Jens Kjeldgaard-Christiansen, Mathias Clasen, Pandemic practice: Horror fans and morbidly curious individuals are more psychologically resilient during the COVID-19 pandemic, Personality and Individual Differences, Volume 168, 2021, 110397, ISSN 0191-8869, https://doi.org/10.1016/j.paid.2020.110397. https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0191886920305882
- https://psycnet.apa.org/doiLanding?doi=10.1037%2Febs0000152
- https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/08934210500084198
- https://onlinelibrary.wiley.com/doi/abs/10.1002/9781405186407.wbiece049
- https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/08838151.2011.570826
- https://academic.oup.com/hcr/article-abstract/35/3/442/4107507?login=false
- https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/10509208.2015.1086614