يُعد الفيلسوف الفرنسي فولتير أحد أهم رواد التنوير الأوروبي وعلى يده ومن خلال كتاباته دخلت الفلسفة بقوة في النقاش مع رجال الدين وعلى يده ومن تلاه بدأت أوروبا ترى النور وتشرق شمس العلمانية عليها.

لم يعرف تاريخ الفكر شخصًا كرّس حياته لمحاربة التعصب الديني مثل فولتير، ولهذا السبب أصبح اسمه رمزًا يُستنجد به الناس في كل مكان في العالم؛ أي عندما يزيد التزمت والإكراه في الدين عن حدّه أو عندما يعيث المتطرفون فسادًا في الأرض. راح فولتير يدعو للتعايش السلمي بين الأديان والمذاهب المختلفة ويكتب مؤلفاته واحدًا بعد الآخر، دون كلل أو ملل. حتى أن نيتشه أهداه أحد كتبه قائلًا إلى أحد كبار محرري الروح البشرية. ولم يكتفِ فولتير بالكتابة والتنظير بل نزل إلى ساحة المعركة مدافعًا عن كل المضطهدين لسبب عقائدي أو فكري، إذ دافع فولتير عن البروتستانتيين وهو الكاثوليكي أبًا عن جد، ودشّن فولتير بذلك أسلبوًا جديدًا للمثقف المنخرط في القضايا العامة.

أراد فلاسفة التنوير وعلى رأسهم فولتير أن يعيدوا للفلسفة قيمتها من أجل أن يصبح العقل سيد الموقف، وليس تراث الأقدمين الذي يفرض نفسه من فوق بهيبته القدسية التي رسخها الزمن المتطاول أو القرون العديدة. ولم يعد فلاسفة التنوير يقبلون أي شيء إلا بعد وضعه على محك العقل وكشف المسببات المنطقية التي أدت إليه. ويمكن القول إن فلسفة التنوير أدت إلى بلورة المقترحات التالية: أولًا، أن الفلاسفة يرفضون التراث المسيحي التقليدي القائم على المعجزات؛ لأن العقل لا يستطيع أن يتقبلها ولأنها تنتهك قوانين العلم والمنطق. ويدعي فلاسفة التنوير وعلى رأسهم فولتير إلى بلورة فهم جديد للدين مخالف للفهم الانغلاقي أو الأصولي السائد. ثانيًا، أنهم لو يعودوا يقبلون باخلاقية التقشف والزهد في الحياة الدنيا وانتظار الفوز والنجاة في الدار الآخرة، وراح فلاسفة التنوير يدعون إلى بلورة أخلاقية طبيعية أكثر إنسانية؛ أي أخلاق تعترف للإنسان بالسعادة وحقه بالتمتع بمباهج الحياة على هذه الأرض، وثالثًا، كان فلاسفة التنوير يعتقدون بأن هذا المفهوم البسيط والجديد للدين والأخلاق معًا موجود كنواة في جميع الأديان، إذ إن جوهر الدين يبقى واحدًا ألا وهو محبة الآخرين، والعمل الصالح، وخدمة المجتمع، والسلوك المستقيم.

الفيلسوف الفرنسي فولتير
الفيلسوف الفرنسي فولتير

الفلسفة العربية الحديثة واستحالة وجود فولتير عربي

في الحقيقة لا توجد فلسفة عربية حديثة أو معاصرة، وإن وجدت فلسفة كهذه فهي فلسفة مترجمة أو مولّدة بواسطة الترجمة، وبالتالي علينا أن نتساءل لماذا لا توجد فلسفة عربية حديثة أو معاصرة ولماذا يستحيل وجود فولتير عربي.

أولاً، إن الفلسفة المعاصرة نفسها، على الصعيد العالمي، في أزمة. ومردّ هذه الأزمة إلى تطور العلم بالذات. فالفلسفة رأت النور وازدهرت قبل أن يرى التصور العلمي للعالم النور، وكبديل عن هذا التصور. والفلسفة قابلة للتعريف، من هذا المنظور، بأنها ما قبل تاريخ العلم. ولكن منذ أن طرح العلم نفسه أداة وحيدة للمعرفة وللسيطرة على الكون راح مجال الفلسفة يتقلص، وراح العلم يجرِّدها من حقول تخصصها الواحد تلو الآخر. فتطور الفيزياء الرياضية قد أغنى عنها في معرفة الطبيعة والكون. وتطور علم الأحياء والتشريح قد وضع حداً للتفلسف في مجال «خلقة الإنسان». وجاء مولد علم النفس ليستنقذ منها موضوعه الأثير في النفاذ إلى كنه النفس البشرية. بل إن التحليل النفسي قد سد عليها المنافذ إلى اللاشعور والبنى النفسية التحتية، ورسم علامات استفهام حول مشروعية صبواتها ورؤاها الأخلاقية. وقل مثل ذلك في تطور علوم الاجتماع والسياسة الذي أقفل باب البحث في المدينة الفاضلة. ولكن إذا كانت فتوح العلم قد سدّت على هذا النحو الطريق إلى الماقبل فقد أبقته مفتوحاً إلى المابعد. ورغم التقلص الكبير الذي طرأ على هذا النحو على متن الفلسفة فقد استطاعت في العالم الحديث والمعاصر أن تجد لها ملاذاً في الهامش. فمن فعالية عقلية في ما قبل العلم تحولت إلى فعالية عقلية في ما بعد العلم. فحصرت نفسها تارة بمجال القيم والغايات النهائية، وأرادت نفسها طوراً آخر فلسفة علمية خالصة تعمل حصراً على مستوى الابستمولوجيا، أي معرفة المعرفة. ولكن في الحالين معاً غدت الفلسفة مرهونة بالممارسة العلمية. فبدون أن تكون الفلسفة تابعة بالضرورة للعقل العلمي، لم يعد ثمة مناص من أن تكون تالية له، لاحقة عليه. وباستثناء الاستمراريات الفلسفية وشبه السكولائية في الثقافات ما قبل العلمية، فإن الثقافات الوحيدة المنتجة للفلسفة اليوم هي الثقافات المنتجة للعلم. وحسبنا أن نقرر أن الثقافة العربية المعاصرة غير منتجة للعلم حتى نفهم لماذا يتحتم أن يكون المتفلسفون العرب عالة سواء على الفلسفة الإسلامية القديمة أو الفلسفة الغربية الحديثة. فانتفاء شرط الإنتاجية العلمية لا يترك لهم من نصاب آخر سوى أن يكونوا في الفلسفة من المستهلكين، أي المحاكين شرحاً أو ترجمة.

ثانياً، تماماً كما كان الأصوليون القدامى يقولون إنه لا يجوز لمجتهد أن يجتهد إلا وفقاً لمثال سبق، كذلك فإن المتفلسف العربي ـ ولا نقول الفيلسوف ـ يجد نفسه اليوم في وضعية من لا يستطيع أن يتفلسف إلا وفق مثال سبق. ولكن مع هذا الفارق: فما كان الأصوليون يضعونه في الماضي، يلقاه المتفلسف العربي مسقطاً أمامه في المستقبل. فسبق الغرب إلى اجتراح مأثرة الحداثة قد جعل كل ما يمكن أن يفكر به الملتحقون بركب الحداثة مفكّراً به مسبقاً. فالحضارة الغربية قد باتت، بحكم أسبقيتها إلى الحداثة، تتحكم بالزمان الثقافي للحضارات الأخرى. وخلا الخروج من التاريخ أو السقوط في الهمجية، فإنه لم يعد للمتخلفين في هذا العالم من مستقبل آخر غير حاضر المتقدمين. وهذا الانحصار في زنقة التاريخ يسدّ حتى المخرج النقدي ـ وهو المخرج الذي تؤثر الفلسفة أن تعمل على مستواه. فكل ما يمكن أن ننقد عليه الحضارة الغربية قد سبقتنا هي نفسها إلى نقد نفسها عليه. وبالعودة إلى لغة حسن حنفي فلنا أن نلاحظ أن الفلسفة النقدية، التي يدعو إليها تحت اسم «الاستغراب» كرد على «الاستشراق»، لا تعدو هي نفسها أن تكون فلسفة «وكيلة». فمن دهن الفلسفة الغربية لا يفتأ هو نفسه يسقي نقده لهذه الفلسفة الغربية. وهذا يصدق أيضاً على ما تشهده الساحة الثقافية العربية اليوم من محاولات مجهضة سلفاً لتبيئة فلسفة ما بعد الحداثة. ذلك أن كل ما يمكن أن يقوله المتفلسفون العرب في نقد الحداثة ـ الغربية حصراً ـ قد سبقهم إلى قوله نقاد هذه الحداثة من المفكرين الغربيين، سواء أتمثلوا بمدرسة فرانكفورت الألمانية واستطالاتها الأميركية : هوركمايمر وأدورنو وماركوزه وهابرماس وشومسكي، أم بمدرسة مابعد الحداثة الفرنسية : دريدا وليوتار وبوديار، فضلا عن أصحاب التراكيب النظرية الكبيرة في الحداثة من أمثال ميشيل فوكو وألان تورين وجان ماري دوميناك وإدغار موران. وبالفعل، عندما يتصدى متفلسفون من مجتمعات ما قبل حديثة لممارسة فلسفة ما بعد الحداثة فإنه لا خيار أمامهم سوى أن يكونوا مستهلكين، لا منتجين، لخطاب نقد الحداثة في الغرب نفسه؛ أو بعبارة أخرى مجرد مترجمين.

ثالثاً، إن الفلسفة نبتة، لا تنتش ولا تزهر إلا في تربة العقل واستقلالية العقل. وبدون أن ندخل في تفاصيل لا يتسع لها هنا مجال، فإننا سنلاحظ أن العقلانية كشرط شارط لتمخض الفلسفة ما زالت بعيدة عن أن تكون صاحبة الكلمة الأولى في الثقافة العربية المعاصرة. ونحن لا نعني بالعقلانية شيئاً آخر سوى هذا المبدأ البسيط والثوري معاً : إنه لا يجوز أن تعلو فوق سلطة العقل أية سلطة أخرى. والحال أن سلطان الثقافة العربية ما زال يعتمّ بعمامة الدين. وباستعادة صيغة ميشيل فوكو المشهورة : «الدين هو عقل مجتمع بلا عقل»، فلنا أن نلاحظ أن العقل السائد في الثقافة العربية، وكم بالأولى في المجتمعات العربية، ليس العقل الفلسفي، بل العقل الديني. ليس العقل الشارع وذا السؤدد الذاتي، بل العقل التابع والمشرّع له. وعلى حد تعريف الشاطبي الذي ما زال يحتفظ بصدقيته تامة : «العقل الذي لا يسْرح في مجال النظر إلا بقدر ما يسرِّحه النقل»، و«لا يتقدم بين يدي الشرع» بل «يهتدي بالأدلة الشرعية، يجري بمقدار ما أجرَتْه، ويقف حيث وقفته». ودوماً بلغة الشاطبي الفقهية، فإن العقل ليس أصلاً بحد ذاته، بل «ينبني على أصل متقدم ومسلَّم بإطلاق.. من طريق الوحي»

وكما في كل الثقافات ذات الإبستميه الدينية كان يمكن للعقل اللاهوتي أن يضطلع بدور الوسيط بين العقل الفلسفي والعقل الديني. ولكن اللاهوت نفسه، كشكل معقلن من الدين، ما زال منفياً من الثقافة العربية منذ أن كُفِّر فلاسفة الإسلام وطُرد علم الكلام المعتزلي خارج المدينة الإسلامية وتقلصت الحضارة العربية الإسلامية إلى محض حضارة فقه. ولقد دفع الشهيد محمود محمد طه ثمناً غالياً لمحاولته إعادة فتح باب الاجتهاد في اللاهوت القرآني. ذلك أن السقف الأعلى للعقل الديني في الثقافة العربية السائدة ـ وهي سيادة قد عززها في العقود الأخيرة المنّ النفطي ـ لا يزال هو العقل الفقهي. وباستثناء محاولات مهمَّشة مثّلها، فيمن مثلّها، داعية تجديد الفقه الإسلامي جمال البنا، فإن العقل الفقهي السائد في الساحة العربية، والإسلامية بشكل أعم، ما زال عاجزاً عن الوفاء بوعده ـ الذي كان أطلقه منذ مطلع عصر النهضة ـ بتحديث نفسه. ولسنا نماري في أن باب الاجتهاد في هذا الفقه قد أعيد فتحه في العقود الأخيرة على أيدي منظَّري حركات الإسلام المؤدلج والمسيَّس معاً. لكن هذا الباب ما أُعيد فتحه للتقدم إلى الأمام، نحو الحداثة، بل للارتداد إلى الخلف، نحو القدامة. وهذا ليس حتى إلى عصر مالك وأبي حنيفة والشافعي، بل إلى عصر ابن تيمية الذي كان هناك، إلى زمن قريب، شبه إجماع على توصيفه بأنه عصر انحطاط. ولعلنا ـ ونحن نستقرئ ما يطالعنا به المشهد العربي السائد من حولنا اليوم من صعود لمد القوى الناشطة تحت لواء العقل الديني بطبعته الأكثر أصولية ـ لا نغالي إذا قلنا إن العالم العربي يقف في مطلع القرن الحادي والعشرين هذا على عتبة الانكفاء على نفسه فيما لا نتردد أن نسميه قروناً وسطى جديدة.

المصادر:

كتاب هاشم صالح «مدخل إلى التنوير الأوروبي»

كتاب جورج طرابيشي «هرطقات»

 

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا