ظهر مصطلح العلمانية ((Secularism لأول مرة عام 1851 على يد الكاتب البريطاني جورج هوليوك، في محاولة منه لوصف نظام اجتماعي منفصل عن الدين بشكل كامل، ومنذ ذلك الحين، ومع كل النجاحات التي تمكنت الدول التي طبقت النظام العلماني من تحقيقها، لم تتوقف الانتقادات للعلمانية ولا محاولات تحوير المصطلح ودمجه مع مصطلحات ومفاهيم أخرى بما في ذلك الإلحاد ونشر الفحشاء وعبادة الشيطان وغيرها من الكليشيهات التي تُستخدم عادة في مجتمعات العالم الثالث لنبذ أي محاولات لتغيير المجتمع. فما هو المعنى الحقيقي للعلمانية، ولماذا لا نزال نشهد محاولات لشيطنتها وتشويه صورتها في العديد من المجتمعات بالرغم من النجاحات التي حققتها –ولا تزال تحققها- الأنظمة العلمانية حول العالم؟

ما هي العلمانية

لا يوجد تعريف واحد محدد متفق عليه لوصف العلمانية ، لكن تعريفاتها المختلفة تتمحور حول فكرة امتناع الحكومة أو الدولة عن إجبار أي من مواطنيها على اعتناق وتبني معتقد أو دين أو تقليد معين لأسباب ذاتية غير موضوعية والامتناع عن تبني دين رسمي للدولة، وبنفس الوقت، التكفل بحماية جميع الأفراد بغض النظر عن انتمائهم الديني أو العقائدي. وبمعنى عام، يشير هذا المصطلح إلى الرأي القائِل بأن الأنشطة البشرية والقرارات -وخصوصا السياسية منها- يجب أن تكون غير خاضعة لتأثير المؤسسات الدينية.

تعرف دائرة المعارف البريطانية العلمانية بأنها: «حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الدُنيوية بدلًا من الاهتمام بالشؤون الأخروية. وهي تُعتبر جزءًا من النزعة الإنسانية التي سادت منذ عصر النهضة؛ الداعية لإعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به، بدلاً من إفراط الاهتمام بالعُزوف عن شؤون الحياة والتأمل في الله واليوم الآخر. وقد كانت الإنجازات الثقافية البشرية المختلفة في عصر النهضة أحد أبرز منطلقاتها، فبدلاً من تحقيق غايات الإنسان من سعادة ورفاهٍ في الحياة الآخرة، سعت العلمانية في أحد جوانبها إلى تحقيق ذلك في الحياة الحالية».

تسعى المعرفة العلمانية لتحقيق التطور والرفاه في حياة الأفراد، وبناءً عليه، يمكن القول أن العلمانية ليست أيديولوجيا أو عقيدة بقدر ما هي طريقة حكم ترفض وضع الدين -أو سواه- كمرجع رئيسي للحياة السياسية والقانونية، وتتجه إلى الاهتمام بالأمور الحياتية للبشر بدلاً من الأمور الأخروية، أي الأمور المادية الملموسة بدلاً من الأمور الغيبية.

تختلف الفلسفة الخاصة بالعلمانيين الأخلاقيين في العديد من الأمور، إلا أن هناك مجموعة من القواعد التي تصف العلمانية والتي يتفق عليها جميع العلمانيين الأخلاقيين، ومن أهمها:

  • تمنح صفةُ التعاطفِ البشرَ القدرةَ على وضع أسس أخلاقية.
  • رفاهية الآخرين شأن رئيسي لصانع القرار الأخلاقي.
  • يمكن للبشر، من خلال المنطق والعقل، أن يستخلصوا المبادئ المعيارية للسلوك.
  • يتحمل البشر المسؤولية الأخلاقية للتأكيد على المجتمعات والأفراد لتتصرف على أساس هذه المبادئ الأخلاقية.

تاريخ العلمانية وتطور المصطلح

يرى البعض في جملة السيد المسيح الواردة في الإنجيل «اعطِ لقيصر ما لقيصر واعطِ لله ما لله» أساساً للفصل بين الشقين السياسي والديني، وبالتالي أساس للعلمانية.على مدى القرون التالية الطويلة تطوّرت حالة الفصل النظرية والعملية بين الحيزين بشكل تدريجي، وكانت دعوة الكاتب مارسيل البدواني لاستقلال الملك عن الكنيسة في القرن الثالث عشر في أوروبا نقلة نوعية في الفكر العلماني. خلال عصر النهضة في أوروبا كتب الفيلسوف وعالم اللاهوت غيوم الأوكامي حول أهمية العلمانية ، وصفها بأنها: «فصل الزمني عن الروحي، فكما يترتب على السلطة الدينية وعلى السلطة المدنية أن يتقيدا بالمضمار الخاص بكل منهما، فإن الإيمان والعقل ليس لهما أي شيء مشترك وعليهما أن يحترما استقلالهما الداخلي بشكل متبادل».

بدأ الفصل بين الشقين الديني والسياسي في الدولة يأخذ شكلًا مؤسساتيًا بعد الحروب الدينية في أوروبا بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهو ما ساهم بترسيخ حالة الاستقرار في القارة الأوروبية وتشكيل الأوطان بالدول التي حكمتها. كان الكاتب البريطاني، جورج هوليوك، أول من وضع مصطلح العلمانية (Secularism) بشكله الحالي عام 1851، واقتصر دوره على توصيف ما سبق للفلاسفة أن صاغوه حول الأنظمة الاجتماعية المنفصلة عن الدين. أكد هوليوك على أن العلمانية والأخلاق العلمانية يجب ألا يهتما على الإطلاق بالتساؤلات الدينية (لأنها غير مرتبطة بها)، وبالتالي يجب التمييز بينها وبين الفكر الحر القوي والإلحاد، وفي كتابه المنشور في عام 1896 «العلمانية الإنجليزية» وصف هوليوك العلمانية بما يلي:

«العلمانية هي رمز الواجب المتعلق بهذه الحياة، والمؤسسة على اعتبارات بشرية خالصة، ومخصصة بشكل رئيسي لمن يعتبرون اللاهوت غير متكامل أو غير كاف أو لا يمكن الاعتماد عليه».

الكاتب الإنجليزي، جورج هوليوك.
الكاتب الإنجليزي، جورج هوليوك.

تشويه مفهوم العلمانية

من الممكن لنا أن نعتبر مصطلح العلمانية واحدًا من أكثر المفاهيم التباسًا وعرضة لسوء الفهم في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية التي عادة ما ترى فيها مؤامرة غربية استعمارية تحاك من الدول الغربية لهدم أسس الأخلاق أو أنها -في أحسن الأحوال- منظومة غربية لا تليق بأخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا، وتهدد مجتمعنا بالتفكك، حتى أصبح موضوع شيطنة العلمانية الشغل الشاغل للمتعصبين دينيًا لرفض قيم الحداثة والمدنية والتعددية. 

إن مفهوم الفصل بين الدين والدولة بحد ذاته إشكالي، ويرفضه المنادون بإقامة الدولة الدينية التي تستمد جميع شرائعها من الدين. مع ذلك يعتقد العديد من رافضي العلمانية بأنها تدعو لنشر الإلحاد أو محاربة الدين والفجور وإشاعة «الفحشاء»، شاع هذا الفهم الخاطئ لمفهوم العلمانية بعد عقود من محاولات المتعصبين لتشويهها لأنها تمنعهم من فرض معتقداتهم (حتى لو كانوا أغلبية في المجتمع) على الآخرين، ولأنها تعطي الأقليات الدينية والطائفية والعرقية حقوقًا متساوية مع الأغلبية، وتسمح لهم بالترويج لمعتقداتهم وممارسة جميع طقوسهم الدينية، وتمنع الأكثرية من التعرض لهم (بدعوى امتلاكهم الحقيقة المطلقة)، وهو ما يرفضه المتشددون دينيًا جملة وتفصيلًا. خلال التاريخ، ساهمت الحركات المتشددة دينيًا في شيطنة العلمانية باعتبارها تهديداً للهوية الثقافية والدينية للمجتمع، الأمر الذي ساعد هذا الخوف من العلمانية على صعود مضطرد ومقلق لدعاوى الخصوصية الثقافية التي عنت، في معظمها، الانغلاق على تجارب التراث العربي وما يمكن أن يتسق معه من التجارب الحديثة.

تستند العلمانية في تطورها المؤسساتي إلى الرؤية الليبرالية التي تقوم على أساس الحرية الفردية وأولويتها على القيد الاجتماعي وتوسيع حيز الحريات الفردية للحد الأقصى شريطة ألا تؤدي هذه الحريات إلى الأضرار بالمصالح المشروعة للأفراد الآخرين. يمنح المحافظون في الغرب القيم والنصوص السابقة الأولوية على الحرية الفردية، لكن المحافظين والليبراليين الغربيين يتفقان على ضرورة تطبيق مبدأ العلمانية في الدولة بما يضمن المساواة والحفاظ على السلم الأهلي. 

إن الفهم السائد للعلمانية في مجتمعاتنا والتركيز على الشق العقائدي، جعل من السهل إقناع العامة بأن المفهوم يعني رفضًا مباشرًا للدين، ومحاربة لكل التصورات المثالية التي تُبنى على أسس دينية محضة، وهمّش النطاقات الأخرى التي جاءت العلمانية لحمايتها، كالفكر والفلسفة والعلم والفن. يعني مفهوم العلمانية ببساطة وقوف الدولة موقف الحياد من جميع الأديان والمعتقدات المنتشرة بين السكان بغض النظر عن الأغلبية، وقد سمح تطبيق العلمانية للأقليات الدينية في دول أوروبا وأمريكا الشمالية من الوصول إلى مناصب حساسة في الدولة، ولجوء البعض لربطها بالإلحاد والإباحية ناتج إما عن قصور في فهم المصطلح أو عن محاولات مقصودة لفرض أغلبية دينية معينة لمعتقداتها على الأقليات الدينية ومنعها من ممارسة طقوسها الدينية أو حقها في التعبير عن آرائها.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا