تعد دراسة الطبيعة البشرية من الدراسات المعقدة التي تتضمن فهم أسباب مشاعرنا وأفكارنا وتصرّفاتنا التي تتشعب كثيرًا، وتجمع بين علم النفس وعلم الأعصاب والبيولوجيا والفيزيولوجيا، فيمكن فهم الكثير من أفعالنا وتصرفاتنا أو تحليلها في سياق عضوي وبيولوجي، لذلك يوجد فرع دراسي كامل يعرف بعلم البيولوجيا السلوكية يدرس أفعالنا وسلوكياتنا بمنظار بيولوجي وعضوي. 

عندما برزت نظرية التطور في عام 1859 على يد تشارلز داروين، تغيّر كل شيء، إذ كانت، وما زالت، نظريّة ثوريّة غيرت من وجهة نظر العلم تجاه سلوكيات البشر والحيوانات. ومن أهم الأفكار التطورية التي يعتمد عليها داروين في تفسير الكثير من الظواهر هي فكرة التطور بالاصطفاء الطبيعي. 

الفكرة المحورية في الانتقاء الطبيعي هي «البقاء للأصلح» أوsurvival of the fittest. تُقاس الصلاحية بقدرة الكائن الحي على البقاء والتكاثر، وهذا ما يُحدد حجم مساهمته بتوريث الجينات للأجيال اللاحقة. لكن، لا يعبر عن صلاحية الكائن بعدد النسل الذي ينجبه، وإنما بنسبة الأفراد الحاملين لجيناته في الأجيال اللاحقة. أي أن الأنواع الحيوانية ومن ضمنها البشر، تسعى لنشر جيناتها بأكبر قدر ممكن من خلال التكاثر تحديدًا، والجينات الأكثر ملائمة وقدرة على البقاء هي التي تسود.  

الجين الأناني:

في كتابه الجين الأناني، يناقش ريتشارد دوكينز أن سلوكاتنا البشرية/الحيوانية كالإيثار والرغبة الجنسية بدأت مع الجزيئات القادرة على استنساخ نفسها، أي الجينات، والتي يصفها بكونها أنانية، وهو بذلك لا يقصد طبعًا أنها واعية وتتصرف بأنانية بل أن سلوكياتها الجزيئية تولد مظاهر هدفها الأساسي نقل الجينات وتعزيزها، حتى ولو كان ذلك على حساب حياة الكائن نفسه. وكمثال على ذلك، سلوك التزاوج الغريزي لدى ذكور العناكب والذي يسمح لها بالتكاثر وحفظ النوع ولكنَّه يعرِّضها للقتل على يد الإناث بعد التزاوج، وهكذا يُفسِّر دوكينز بقاء الحمض النووي غير المرغوب فيه بأنَّه لا يخضع للاختيار والإرادة وإنَّما يعبِّر عن تنوعات الحمض النووي الذي ينتقل من الآباء للأبناء رغم أنَّها لا تقدِّم أي فائدة للبقاء على قيد الحياة. 

وبناءً على السابق، فحتى الرغبة الجنسية قد تطورت لضمان التكاثر واستمرار سيادة الجينات الأنانية. 

الاصطفاء الجنسي: 

هو مصطلح مشتق من الاصطفاء الطبيعي قدمه تشارلز داروين في أصل الأنواع، ويعني أن التكيّفات التي تقوم بها الأنواع تساهم بتطور الكائنات التي كانت صفاتها مهدِدة لبقاء أفراد النوع، ولنبسط الموضوع، فالاصطفاء الطبيعي يخلق صفات في الأفراد تسهم في تعزيز فرصهم في ممارسة التكاثر الجنسي وبالتالي تعزيز انتشار الجينات. وكمثال على ذلك، ريش الطاووس المبهرج الذي يهدف لاجتذاب النساء. يمكن أن يدفع الانتخاب الجنسيّ الذكور لأن يعرضوا مدى لياقتهم العالية حتى تختارهن الأنثى، كما يظهر مفهوم الاصطفاء الجنسي في ملاحظة تطوير الكثير من الحيوانات لملامح وظيفتها الأساسية هي مساعدتها على زيادة النجاح الإنجابي وليس مساعدة الأفراد على النجاة. كل هذا يظهر الأهمية البالغة لأي نشاط جنسي بالنسبة للجينات التي تحرص على انتقالها من جيل لآخر.  

ويبقى السؤال، إذا كانت الغريزة الجنسية، وتطور الاصطفاء الجنسي وسيلة كافية لانتقال الجينات فكيف يمكن تفسير مشاعر الحب والعطف والاهتمام تطوريًّا وكيف من الممكن أن تخدم هكذا مشاعر انتقال الجينات وأنانيتها؟ 

تطور شعور الحب:

يقترح فريق من الباحثين أن الحب جزء لا يتجزأ من طبيعتنا البشرية، وأن قدرة البشر على الحب تطورت مع الزمن، إذ فضّلت الطبيعة أن نهتم ببعضنا على أن نعادي بعضنا، خصوصًا في ظل المجتمعات البدائية التي تميزت بالهمجية والخطورة، فيرى البعض أن غريزة الاهتمام بالآخر تطورت لتحمي الجماعات وتضمن بقاء الأنواع.

لكن في واقع الأمر، يعد شكل العلاقات الرومانسية أو طويلة الأمد الذي يتطلب التزامًا كبيرًا غير مألوفٍ بالنسبة للبشر والثدييات عمومًا. كما أن بعض التصرفات التي قد تنمّ عن المفهوم المعقد المسمى «حب» قد تكون غريبة ولا تتناسب مع فكرة استمرار وبقاء الجماعة أو الأفراد، فبعض السلوكيات قد تتضمن الإيثار، والتضحية بالنفس في سبيل شخص آخر، الأمر الذي يعاكس مفهوم الأنانية. 

لكن، في هذا السياق، يجب استذكار أن صفة الأنانية في الجينات وتفضيلها لانتساخ نفسها على حساب كافة الرغبات الأخرى لا يعني تعميم ذلك على سلوك الكائن، فكما في مثال العناكب، قد تضحي هذه الكائنات بحياتها من أجل التكاثر، وقد تضحي الكثير من الكائنات الأخرى بطعامها أو بنفسها في سبيل بقاء أطفالها واستمرار نفسها. كما يجادل الباحثون بكون الحب الأمومي هو الشكل الأول والأساسي من الحب الذي تطورت عنه باقي اشكال الحب. كما أن الطبيعة، ومن خلال تعزيزها لصفات الحب والتعاون مهدت الطريق لتكوين مجتمعات حضارية وأكثر سلامًا، فالأمهات كان عليهنّ أن يتطورن ليروا أطفالهنّ ككائنات تحتاج الحماية وليس كفرائس أو طعام كغيرهم من الكائنات، لاستمرار الحياة وانتقال الجينات. 

وقد يفسر السلوك الودود أو الذي يظهر خصائص إيثارية نتيجة ما يسمى ب اصطفاء القرابة أو Kin selection. 

اصطفاء القرابة: 

اصطفاء الأقارب هو آلية تطورية تحابي السلوك الإيثاري للكائن الحي تجاه أقاربه. وذلك لكون الأقارب عادةً يحملون نسبة كبيرة من الألائل المشتركة. الأليل الذي يؤدي بالكائن الحي لأن يساعد أقاربه على النجاة والتكاثر، يحتمل أن يحمله أيضاً أقرباء هذا الكائن. وبكون هذا الأليل إيثارياً، فهو يسهم في زيادة تواتره وانتشاره في التجمع بما أنه يحمل الفرد على مساعدة أقاربه في زيادة فرص بقائهم وإنتاجهم للنسل، حتى وإن أتى ذلك على حساب فرص البقاء والنجاح التناسلي للفرد نفسه.

بمعنى آخر، يهدف سلوك الاهتمام والإعجاب أو الحب يكون لزيادة انتشار الجينات التي يحملها المتشابهون أو الأقرباء، إذ تفسر هذه النظرية تحديدًا حبنا وانجذابنا للذين يشبهوننا، وتقترح أنه من المحتمل أن ينجذب البشر للذين يشبهونهم كالأفراد الذين ينتمون للعرق نفسه أو للمنطقة الجغرافية نفسها. لكن هذا لا يفسر الانجذاب أو علاقات الحب المعاصرة التي قد تتخطى في الكثير من الأحيان حاجز العرق أو اللون أو الجغرافيا، ومن المحتمل أن تكون علاقات الحب المعاصرة والتي قد تبدو صعبة التفسير تطوريًّا نتاج متحولات اجتماعية وبيئية كثيرة وغير مرتبطة ارتباطًا مباشرًا مع الجينات. 

في النهاية، فإن الدراسات التطورية ما تزال تحتاج للكثير من التطوير لتفهم طبيعة سلوكياتنا البشرية، كما أن الحب مفهوم معقد لم يتم الاتفاق على تعريف واضح ودقيق له، لكن الذي نعرفه، أنه ضروري في مجتمعاتنا الإنسانية ومهم لقيام الحضارة وتجنب الصراعات، وأن الانجذاب الجنسي والرغبات الجسدية ليست كافية لبناء أي مجتمع حضري مستقر لكونها قد تقود لفوضى ونزاعات بين البشر. من المهم دراسة التطور وفهمه، لمعرفة لما نحن على ما نحن عليه وكيف من الممكن أن نصبح في المستقبل. 

المصادر:

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا