حرّض مفهوم الطبيعة البشرية على مرّ التاريخ الكثير من النقاشات والجدالات الفلسفيّة، مفهوم يتناول الصفات والملامح التي تحدد الشخصيّة البشرية سواء من حيث طريقة التفكير أو ماهية المشاعر وكيفية تعبير عنها عنها وكيف يتصرفون في الحياة اليوميّة والدوافع وراء هذه التصرفات. يذهب البعض للقول بأننا نعرف ما يجب أن نتصرّف فطريًّا، وأن الكثير من الأشياء والخصائص حول أنفسنا محددة مسبقًا من خلال جيناتنا وعوامل أخرى، بينما يجادل البعض الآخر في أننا نولد صفحة بيضاء ونكتسب خصائصنا البشريّة وصفاتنا من خلال بيئتنا. وبما أن المصطلح-أي الطبيعة البشرية- يستخدم لوصف الخصائص التي تجعلنا بشرًا، فهو يتضمن الأسئلة حول مصادر أفكارنا وأيديولوجياتنا، وكيف تتكون معارفنا.
عادة ما يسمى العلم الذي يدرس الطبيعة البشريّة بالبيولوجيا الاجتماعية أو sociobiology، لكن الاسم الأكثر شيوعًا هو علم النفس التطوري أو evolutionary psychology، وهو علم يتناول طريقة تشكل النفس البشريّة بناءً على أسس تطوريّة، وتتضمن الدراسات حول الطبيعة البشريّة عدة فروع، وتمتد لتشمل مواضيعًا فلسفيًة، فالطبيعة البشرية أمر معقد يحرض ويستثير تساؤلات عديدة، والأسئلة والأفكار العلميّة كالتطور والبيولوجيا تمتد لتشمل أسئلة فسلفية كالأسئلة حول الهوية والأفكار وطبيعتهما.
إن التساؤل حول الطبيعة البشرية يفسح المجال لعدة فروع فلسفية كالإبستمولوجيا، أو نظرية المعرفة.
نظرية المعرفة، الإبستمولوجيا:
كلمة مؤلفة من جمع كلمتين يونانيتين: episteme بمعنى علم وlogos بمعنى: حديث، علم، نقد، دراسة فهي اذًا دراسة العلوم النقدية. تعتبر نظرية المعرفة أحد فروع الفلسفة الذي يدرس طبيعة ومنظور المعرفة. المصطلح بحد ذاته (إبستمولوجيا) يعتقد أن من صاغه هو الفيلسوف الاسكتلندي جيمس فريدريك فيرير (1808 – 1864) حين ألف كتابه مبادئ الميتافيزيقا. إذ قسم الفلسفة فيه إلى قسمين: أنطولوجيا وإبستيمولوجية.
الابستمولوجيا تجيب عن أسئلة كماهيّة المعرفة، وكيف نعرف أننا نعرف؟ وكيف يتم الحصول عليها باستخدام نظريات مترابطة. فكيف نميّز أننا نعرف أن شيئًا ما حقيقي، من أن نعتقد أننا نعرف أنه حقيقي. فالمعرفة ترتبط بالحقيقة، أما الاعتقاد فقد يكون حقيقيًّا أم لا، بعض الأكاديميين يعتقدون أن المعرفة بالعالم مستحيلة، أي أننا لا نستطيع أبدًا أن نتحقق من مصداقية المعلومات، فكيف يمكننا أن نكون متأكدين من أنها تمطر بالخارج؟ حتّى لو كنّا وسط المطر خارجًا، قد نكون نحلم بالأمر برمته والجّو صحو خارجًا.
لقد جادل رينيه ديكارت في أن بعض الأشياء حتى في الأحلام تبقى صحيحة وثابتة كفكرة أن المربع له أربعة أضلاع لكنه أيضًا جادل أن الأشياء التي تبدو بديهية وطبيعية ليس بالضرورة أن تكون صحيحة وحقيقية، فكيف تعرف أن حواسك لا تجعلك تدرك أشياء غير حقيقية إذ أن حواسنا وأدمغتنا سهلة الخداع والإيهام، وبالنظر إلى أنها كذلك، كيف علينا أن نثق بها فعليًّا؟ حتى إحساسنا باللمس قد يخدع، فإذا وضعنا إحدى يدينا في حوض مياه بارد والأخرى في حوض مياه دافئة ثم وضعناهما سويًّا في حوض ماء عاديّ، سنشعر في إحدى اليدين بأن الماء بارد وفي الأخرى أنه دافئ، فكيف نميّز ما هو حقيقي إذا كانت حواسنا معرّضة للخداع؟
مصادر الأفكار:
عالمنا وأفكارنا مستمدّة من أدمغتنا، ومصادر الأفكار في أدمغتنا مرتبطة بثلاثة أفرع، هم علم النفس والأعصاب، الفلسفة، والأنثروبولوجيا. فعلم النفس يرى أن أفكارنا عن العالم تأتي من الدماغ ومن المشابك العصبية، فالفكرة الجديدة ما هي إلا شبكة جديدة من العصبونات المترابطة المتكونة داخل الدماغ، كما أن إبداعنا يتأثر وينمو أسّيًا عند التعرض لأفكار جديدة والاحتكاك بأفكار الآخرين.
أمّا الفلسفة فترى أحيانا أن الأفكار تأتي من الروح، فالأفكار هي التجلي المادي لمؤثرات لا مادّية في الدماغ والروح، وبعض التوجهات الفلسفية كانت ترى أن الأفكار حكر على البشر وتأتي تلقائيًا، إذ يكفي أن يتنفس الانسان لتتشكل لديه أفكار.
أما الأنثروبولوجيّون فيهتمون بالتفكير في العلاقة بين محيطنا وبيئتنا بالأفكار التي تتولد لدينا، ويرون أن السؤال عن كيفية انتشار الأفكار من ثقافة لأخرى بقدر أهمية السؤال عن مصدر هذه الأفكار.
يرى الكثير من المفكرين، بمن فيهم ديكارت، أن الأفكار تأتي معنا بشكل فطري، بينما يرى مفكرون آخرون، فما فيهم جون لوك، أن كل معارفنا تأتي من خلال التجريب. يعتقد لوك أن الأفكار هي وحدات البناء الصغيرة والمعرفة هي البناء الناتج عنها، ويرى أن هناك مصدران أساسيان فقط للأفكار ألا وهما الإحساس والتفكير أو المعالجة، فالإحساس هو الذي يصل إلينا من الوسط الخارجي، والتفكير الذي يعالج المعطيات الخارجية ويقولبها.
ما هي المعرفة وكيف تتشكل:
المَعرِفَة هي الإدراك والوعي وفهم الحقائق عن طريق العقل المجرد أو بطريقة اكتساب المعلومات بإجراء تجربة وتفسير نتائج التجربة أو تفسير خبر، أو من خلال التأمل في طبيعة الأشياء وتأمل النفس أو من خلال الاطلاع على تجارب الآخرين وقراءة استنتاجاتهم.
يقول أفلاطون أن المعرفة هي «الإيمان الحقيقي المبرر».
والمعرفة تختلف عن كل من البيانات والعلم، فهي ليست بيانات، إذ أن البيانات غير مرتبة وواضحة ولا تعني شيئًا بحد ذاتها، أما المعرفة فتمثل مجموعة من القرارات أو الأعمال التي تعتمد على المعلومات، فالمعرفة مرتبطة بالسلوك الإنساني وتعامله مع المعلومات، وهي مصطلح أوسع من العلم التجريبي والدراسة، فهي أقرب لمصطلح شمولي.
أما مصادر المعرفة فتتنوع جدّا في الأدبيات العلمية والفلسفية، فهي تشمل التحليل العقلي والمنطق والذاكرة والاستدلال. والمنطق يلعب دورًا كبيرًا في تشكيل معارفنا، فهو يأخذ المعلومات والبيانات المجردة من الذاكرة والمحيط ويجعلها أنماط معقولة تعني شيئًا، وتشكل معرفة فعليّة.
هناك نوعان من أنماط المعرفة لدى البشر هما:
A Priori: هي المعارف التي يمكن أن تعرف باستخدام المنطق وحده، دون الحاجة لاختبارها واحساسها، كإدراك فكرة أن «واحد زائد واحد هو اثنان».
A Posteriori: وهي المعارف المرتبطة بالتجربة كمعرفة أنها تمطر خارجًا.
تعد المعرفة العلمية التجريبية إحدى الوسائل المهمة للمعرفة، وهي طريقة لتكوين المعارف والصور الذهنية اعتمادًا على التجارب والاختبارات المقاسة، وهي تتكون من بيانات تنظمها الملاحظة ووضع الفرضيات، كما أصبحت الطريقة العلمية للتفكير ممتدة لتشمل العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية على حد سواء، إذ وبالنظر لصعوبة معرفة ما هو حقيقي وصحيح حقًا اختار المفكرون والعلماء أن يبتكروا معايير وطرق تمكنهم من القول أن شيئًا ما يمكننا تصنيفه في خانة المعرفة. كما أن للمعرفة فروع كثيرة، والعديد من الفروع تحمل اسم معرفة كالمعرفة العلمية والمعرفة الطبيعية والفلسفية والمعرفة الدينيّة، كل منهم يحمل معانٍ اختارها واخترعها البشر له.
إن المعرفة بالبشر وطبيعتهم، ودراسة تفكيرهم وخصائصهم، بالإضافة لدراسة الطبيعة والبيئة والثقافة واسهاماتها في تشكيل المنظومات الفكريّة أمور ضرورية، فحتى الآن لا يوجد تعريف واضح وحقيقي اتفق عليه الجميع للمعرفة، ويمكن اعتبارها مصطلحًا فضفاضًا متغيرًا. وقد لا يصل علم الطبيعة ولا الفلسفة ولا علم المنطق لتفسير صحيح كليًّا لمصدر معارفنا وأفكارنا، ومن المرجح أننا وأفكارنا نتاج تقاطع عوامل كثيرة. لكن من المؤكد، أنه وفي عالمنا الحالي، أفكارنا تمثّلنا، وتشكل معارفنا، وأن المعرفة بحد ذاتها قوّة.