تتعدد أوجه الحب وأنواعه تبعًا لمختلف المراحل العمرية التي يمر بها الإنسان، والظروف المحيطة به على مرّ سنيِّ عمره، فتراه منذ أن يفتح عينيه على هذه الدنيا، يبدأ بالتعلّق بوسطه القريب ومحبة أبويه وذويه، وتتشكل لديه مشاعر حبّ أخويّ مع أصدقائه، ليتطوّر لاحقًا إلى محبة الجنس الآخر، فالإنسان يبقى في سعيٍ دائم ليجعل من نفسه شخصًا محبوبًا، ويبذل من الجهد الكثير ليجذب إليه الآخرين، فهو بطبعه توّاق ليجد شخصًا يُحبه ويُحِب ذاته، ليصل في نهاية المطاف إلى صفة «نصفيَ الثاني».
فلسفة الحب : تعددت التعبيرات في وصفه، و الحب واحدُ
يُعبَّر عن الحب من وجهة نظر الفلسفة بأنه كلمة لا ترتبط بشيء ماديّ ملموس، ويُعبّر عنه أيضًا بأنه شيء لا يدركه عقلٌ ولا يفسّره منطق. فهو موجود قبلنا، ومستمرّ معنا، وسيبقى إلى ما بعدنا، أي أنه يتعدّى الوجود الطبيعي الملموس.
في الواقع إنّ الحب هو ما يدفعنا كبشر لنظهر بشخصيتنا الحقيقيّة. إنه ذلك الشغف الذي لم نَزل نلاحقه، فكم من أقوام وأمم اتّحدت تحت راية الحب ؛ فكان محرّكًا للعلاقات، وفي الوقت ذاته محرّكًا للصراعات؛ فكم من حرب قامت تحت اسم الحب (كحرب البسوس مثلًا). وحتى من منظور عِلم النفس والاجتماع، فقد أظهرا أن المشكلات الأساسية في حياة الإنسان، وما يمر به من اضطرابات في سلوكه ونفسيّته، ما هي إلا نتاجٌ لنقص الحب في حياته. وذلك في تأكيد منهما على أهمية الحب ، لكونه حاجة إنسانيّة تعادل في مفهومها معنى الحياة.
الحب من دعامات الفلسفة الأساسية
هكذا بدأت فلسفة الحب لدى الإغريق، إذ كانوا يرون الحب واحدًا من دعامات الفلسفة الأساسية، وشرعوا في بناء العديد من النظريات التي من شأنها النهوض بالحب والانتقال به من مفهومه المادي إلى مفهومه الروحي، لكونه صفة أساسيّة تظهر آثارها في سلوك الكائنات الحيّة.
لكن هناك اعتقاد آخر، يرى بأن الفلسفة و الحب نقيضين، لا يمكن الجمع بينهما، كإله الحب في الميثولوجيا الرومانية «كيوبيد»، الذي كان يجمع في ذاته بين الرقّة والعدوانية معًا، فهو يُلاحقك ليُطلق عليك سهمًا يُخفيه تحت جناحيه، ليُصيب قلبكَ وتخضع لحب محبوبك.
الحب في زمن فلاسفة الغرب
- أفلاطون، أريستوفان، سقراط
اهتم الفلاسفة منذ العصور القديمة بذلك الشعور الذي يدفعهم للبحث عن قرب جسديّ، أو فكريّ، أو حتى تخيّلي، واعتنو بمفهومه، فنرى كيف اكتسب مفهوم الحب خطابًا متعاليًا وأهمية فلسفية كبرى بفضل مأدبة أفلاطون.
تُصوّر مأدبة أفلاطون الذي أجرى فيها حوارًا بين أستاذه سقراط، وبعض من معاصريه من الفلاسفة والشعراء ورجالات السياسة والأطباء؛ مذهب سقراط وآراءه في الحب، بالإضافة لتعبير كل متحاور عن رأيه في الحب ، وكيف يتطبّع حديثه بطابع شخصيته، وتجلّت المأدبة بثلاثة نظريّات رئيسية:
- نظريّة الحب النبيل:
ركّزت على مشاعر الشرف والوفاء واحترام ما تلتزم به من قول وفعل؛ إذ يَخلق الحب المبنيّ على أساس التقدير المتبادل، عددًا من الأفعال السامية، هذا ما طرحه «فيدروس» في محاورته، كأن تتخيّل دولة قوامها جيش من المُحبّين ومحبوبيهم، فهل تتوقع منهم سوى الانتصار في معركة ما؟
لا يمكن حدوث غير ذلك، حتى ولو اجتمعت ضدهم البشرية جمعاء، فلن يترك أيّ مُحب محبوبه جريحًا دون إسعافه، أو يجعله يتعرّض للخطر، ولن يفرّ ويتركه وراءه. وبذلك فإن الحب النبيل، يؤدي إلى أعمال نبيلة.
لكن تكمن المشكلة هنا، في أن يكون الحب نبيلًا في المقام الأول.
يرى «بوزانياس» أن ليس كل أنواع الحب نبيلة، أو تستحق التقدير فهناك حبّ نابع من آلهة الحب والجمال «أفروديت السماوية» الذي يتّسم بجمال العواطف، وآخر نابع من «أفروديت الأرضية»، والذي يُسمى بالحب الدنيء، فالحب السماوي لا يختار إلا الأشخاص الذين يتّسمون بالفضيلة والذكاء، ويعقِد مع الطرف الثاني معاهدة إخلاص بعد التأكد من الأخلاق وطبيعة النوايا.
- نظرية توأم الروح:
يعتبر «أريستوفان» الشاعر الكوميدي بأن الكائنات البشرية لم تكن بفطرتها الحالية ذكورًا وإناثًا منفصلين، بل كانوا متحدّين في شخص واحد، بأربعة من الأيدي والأرجل، وزوجٍ من الرؤوس والأعضاء التناسلية. لكن غرورهم اشتد وتجرّؤوا على مهاجمة الآلهة، فعاقبهم الإله زيوس وشطرهم لنصفين ليتركهم يهيمون في الأرض كل نصف يبحث عن نصف ذاته الآخر، ليلتحم من جديد بالتزاوج ويُحقق الرجوع إلى الطبيعة الأولى.
يبدو لنا الحب من خلال هذه النظرية الفلسفية بأنه استعادة الجزء المفقود من كل إنسان، بغية الرجوع إلى الأصل وحالة الاكتمال الأولى، ليصبح الكائنان كائنًا واحدًا، وهذا ما يُفسّر إحساس المحبة، والقرابة والصداقة الغريب والقوي الذي ينشأ بشكل عارم حينما يلتقي الإنسان بنصفه الآخر، شعور غامرٌ لا يتعلّق بطبيعة الإنجذاب الجنسي قصير المدى، بل التجلّي برغبة الاستمرار، والمشاركة معًا، بسموّ وإخلاص حتى يذوب الواحد في الآخر بعد الموت عند «هاديس» إله العالم السفلي.
وهنا يوصي «أريستوفان» النوع البشري بأن يتزاوج كل نصف مع نصفه الذي خُلق له ويخصّه بالذات، حتى يتّحدا سويًا ويعودا للطبيعة الأولى، ويصلا للسعادة المطلقة، وإن محبّة الآخر هنا، ما هي إلا إشارة أيضًا لحب الشخص لذاته.
- نظرية الحب الخلاّق:
يعتبر «سقراط» أن الحب الذي ينتهي ليس حبًا أصلًا، ودومًا ما يكون الحب لشيء ما ينقصنا أو قد حُرمنا منه، وبأن السعادة تتمثّل بالجمال والخير، وبما أن البشر في سعي دائم يبحثون عن السعادة التي تنقصهم، بالتالي يتوقون لامتلاك الجمال والخير، وبذلك نرى اختلاف سقراط مع أريستوفان؛ فهو يرى بأنه لا يكفي لأن يكون الطرف الثاني هو نصفي الخاص كي أحبّه، بل ينبغي أن يكون خيّرًا، فإن لم يكن ذلك فسيؤدي إلى سُمّية الارتباط، ويمكنني بتر جزء من جسدي إن لم يكن صالحًا لبقية الجسم، لذا فالشيء المحبوب الوحيد هو ما يتّسم بالخير.
وبحسب العرّافة «مانتيني» فإن الحب ما هو إلا ولادة في الجمال عبر الجسد والروح، لذا فرغبة الولادة التي يمتلكها البشر، لا يمكنها التمام إلا بالجمال، أما في القبح فسيؤدي بهم إلى النفور
- شوبنهاور
لو قرأت يومًا عن الفيلسوف الألماني شوبنهاور، ستعرف عن فلسفته العدميّة للحياة، بل من الممكن أن تتوقع بسهولة وجهة نظره في أي موضوع كان، ولا شك بأنك لو فكّرت في أكثر الأمور غرابة واكتئابًا، فستجدها في فلسفته، وبالتالي فإنه ومن نظرته التشاؤمية للحياة، يرى الحب بأنه مجرّد غطاء جميل لرغباتنا الجنسية، وأن رغابتنا تقودنا لاعتقاد بأن شخصًا آخر سيجعلنا سعداء، وإننا مخدوعون من قِبل الطبيعة التي تدفعنا لنتكاثر، فعندما تُشبع رغباتنا الجنسية، نعود إلى وجودنا المُعذّب، والشي الوحيد الذي ننجح فيه، هو الحفاظ على الجنس البشري، واستدامة دورة الكدح الإنساني.
الحب في زمان الفلاسفة والأدباء العرب
تعددت الآراء ووجهات نظر الأدباء والفلاسفة العرب عن الحب، أيضًا وجعلوا له مؤلّفات وكتب عدّة تطرح أفكارهم
- الجاحظ
في كتابه «النساء»، و «رسالة القيان»، عبّر الجاحظ، عن الحُبّ بأنّه ذلك الشعور العقلاني البعيد عن اللهو، وطالب الناس أن يقاوموه.
- ابن حزم الأندلسي
نرى في كتابه «طوق الحمامة في الأُلفَةِ والأُلَّاف» بأن الحُبّ يبدأ هزليًا، ما يلبث وأن ينتهي بشكل جديّ، ولا يمكننا أن نُدرك معانيه أو أن نصفه إلا بالمعاناة، وأي نوع من أنواع الحب الذي يقوم على أساس المنفعة الحسّية، سرعان ما سيزول، وينتهي بانتهاء العلّة؛ إلى ما تأصّل وتوغّل في النفس، فلا ينتهي إلا بالموت.
- ابن سينا
تطرّق ابن سينا في كتابه «القانون في الطب» إلى ما يظهر من علامات على من يُحب، كالهذيان، وتشتت الذهن، وقارن بين العشق والاكتئاب، وكيّف أن الحالة النفسية للفرد عندما يُهجر، تنقلب من السعادة إلى الحزن، ومن الضحك للبكاء.
- ابن عربي
شرح ابن عربي في كتابه «الفتوحات المكّية» كيف أن المُحب يفقد القدرة على النوم، وأن الغاية الأساسية هي العشق، ومابعده تأتي أية غاية، وكيف أن للحب درجات، التي تبدأ بنظرة عابرة تجعل من الفرد يميل عاطفيًا، أمّا الدرجة الثانية فهي الحُبّ الناتج عن هذا الميل، لكنّه يقوم على أساس الإخلاص، بحيث يختار فيه الإنسان محبوبًا واحدًا، لا يستبدله بغيره، وتأتي الدرجة الثالثة لتمثّل العشق، وهي عندما تستولي المشاعر على صاحبها، ويصبح فيها مُسرفًا في الحب،
- نجيب محفوظ
بالرغم من معرفتنا بأن نجيب محفوظ هو أحد أشهر الأدباء المصريين، إلا أنه في الواقع متخصص في الفلسفة قبل أن يشق طريقه في بحر الروايات. إذ يرى محفوظ بأن الفلسفة هي علم كل شيء. تناول محفوظ في مقال نشره في شبابه «فلسفة الحب»؛ أن أنواع الحب المختلفة تأتي من تغلب أحد عناصره الكثيرة، فقد يغلب على النفس فيصير الحب جنونًا. غير أن شكل الحب الأسمى عند نجيب محفوظ ليس الحب الجسدي، وإنما الشوق، لانه لا يتعلق بانفعال الشهوة، ولا الغيرة، ولا أيٍ من الانفعالات الأخرى، فهو حب يحرر الجسد من جميع الغرائز.
ختامًا
كنا قد تعوّدتا على فهم راسخ بأن الفلاسفة هم أبرع البشر تعاملًا فيما يخص الحب وعلاقاته، لكن بعد مقولة سقراط، «تزوّج يا بنيّ، فإن نجحت بذلك عشتَ سعيدًا، وإلا أصبحت فيلسوفًا»، قد يساورنا الشك ونطرح تساؤلات عمّا إذا كان تفسير هذه المقولة بأن الفشل في العلاقات ينتج الفلسفة أم لا؟.
قد يكون صعبًا معرفة إن كانوا حقًا أكثرنا أو أقلّنا معرفة في التعامل مع الحب وتحليله.