يمكن أن تعرف الأخلاق بأنها مجموعة نظم مجتمعية وضعتها التجمعات البشرية بما يتوافق مع ظروف البيئة المحيطة بهم، وتطورت مع تطور المجتمعات. يعرف قاموس أوكسفورد الأخلاق بأنها المبادئ الخاصة بالتمييز بين السلوك الصائب والخاطئ، وبين السلوك الجيد والسيء. فكيف تطورت الأخلاق، ولماذا؟ وهل من الممكن للمنهج العلمي وحده أن يعطينا دستورًا أخلاقيًا يمكن لاتباعه أن يجعل من كوكبنا مكانًا أفضل للعيش؟

تطور الأخلاق

تؤكد العديد من أبحاث علوم النفس والأعصاب والتطور أن القدرة على تمييز الصواب من الخاطئ هي إحدى ثمار عملية التطور التي ظهرت لحماية أفراد المجموعات ولتعزيز قدراتهم على الانسجام والتفاعل فيما بينهم. أثبتت عدة تجارب أن التصرفات الأخلاقية، بما في ذلك استشعار العدالة والشعور بالآخرين والقدرة على التمييز بين الضار والنافع، تظهر عند الأطفال حتى قبل أن تتمكن البيئة المحيطة بهم من فرض تأثيرها عليهم. تشارك أجزاء معينة من الدماغ في عملية الاستدلال الأخلاقي، ويمكن لتعرض الدماغ للإصابة في أماكن معينة أن يغير من السلوك الأخلاقي للفرد. تعتمد الأخلاق البشرية أيضًا على البيئة المحيطة وعلى الثقافة التي نشأ فيها الفرد، إذ من الممكن لسلوك ما أن يعد أخلاقيًا في ثقافة معينة، وغير أخلاقي في ثقافة أخرى.

يمكن الاستدلال على تطور الأخلاق مع تطور الكائنات الحية من خلال ملاحظة السلوكيات المحابية للمجتمع والرافضة للظلم عند العديد من الحيوانات غير البشرية. أظهرت تجربة قام بها عالم الأعصاب، بيغي ماسون، من جامعة  شيكاغو الأمريكية تعاطف الجرذان مع بعضها البعض، إذ رصد محاولة مجموعة من الجرذان الحرة تحرير الجرذان المحتجزة داخل أقفاص دون إغرائها بأي نوع من المكافآت. في تجربة أخرى قام بها عالم السلوك الحيواني، فرانس دي فال، أظهرت قردة الكابوشين ردود فعل سلبية عندما تم التعامل معها بطريقة غير مساوية لأقرانها.

https://www.youtube.com/watch?v=meiU6TxysCg

المنهج العلمي في دراسة الأخلاق

من وجهة نظر سلوكية، تعني دراسة الأخلاق –بالضرورة- دراسة السلوك مع ظروف البيئة المحيطة. قد يسمح هذا التحليل بوضع تعريف دقيق للمتغيرات التي تتحكم بالسلوك الأخلاقي، وبالتالي تطوير ممارسات ثقافية معينة لزيادة تواتر حدوثها. يدعم نهج تحليل السلوك فكرة تفوق النهج العلمي في الحياة، حتى في المسائل الأخلاقية، وقدرته على تحسين نوعية الحياة على الأرض. ساهم نهج تحليل السلوك المعاصر في المناقشة العلمية للأخلاق التي بدأت أساسًا مع تأليف عالم النفس الأمريكي بورهوس سكينر لكتاب «ما وراء الحرية والكرامة» في عام (1971)، ولرواية «والدن تو» الطوباوية في عام (1976) الذي سلط فيها الكاتب الضوء على أهمية ثقافة التجربة لتحديد الممارسات الأخلاقية الفعالة.

تبنى عالم الأعصاب والفيلسوف الأمريكي سام هاريس مبدأ تفوق النهج العلمي في المسائل الأخلاقية، بل وذهب لأبعد من ذلك من خلال طرحه لكتاب «المشهد الأخلاقي» الذي حاول فيه إثبات أن المنهج العلمي هو الوحيد القادر على وضع أسس أخلاقية للبشرية من شأنها أن تعزز من رفاهيتها.

كتاب المشهد الأخلاقي لسام هاريس

يعد كتاب «المشهد الأخلاقي» مساهمةً مهمة في المناقشة العلمية للأخلاق، وعادة ما يُذكر مع بقية المؤلفات الحديثة التي تُخضع الادعاءات الدينية لنفس معيار الصرامة التجريبية الذي تخضع له النظريات المعرفية الأخرى (كمؤلفات دوكينز المنشورة في عام 2006، وهيتشينز في عام 2007، وساغان في عام 2006)، فعلى سبيل المثال، تطرق هاريس، كما فعل دوكينز من قبله، لمواضيع لجوء الإنسان للآلهة الخارقة للطبيعة لتفسير الظواهر الطبيعية التي يعجز العقل البشري عن تفسيرها، ودرس المكانة المميزة للدين في الخطاب المجتمعي.

يناقش هاريس في «المشهد الأخلاقي» طبيعة الأخلاق بعيدًا عن التفسيرات الدينية، وقدم وصفات للتغيير، وتحدى المؤهلات الأخلاقية للدين، وجادل ضد الفهم الشعبي للإرادة الحرة، والنسبية الأخلاقية، ودافع بأسلوب أكاديمي عن موقفه الخاص تجاه ظاهرة الأخلاق، وعن الواقعية الأخلاقية والنهج العواقبي للتفكير الأخلاقي، وقدم إثباتات على إمكانية استخدام العلم لتحديد القيم الأخلاقية التي عرفها بأنها «حقائق يمكن فهمها علميًا من خلال العواطف الاجتماعية الإيجابية والسلبية والدوافع العقابية وتأثيرات قوانين معينة وهيئات اجتماعية خاصة على العلاقات الإنسانية وعلى الفيزيولوجيا العصبية للسعادة والمعاناة، إلخ». يرى هاريس أنه من الممكن للمبادئ العلمية أن تطبق في مجال الأخلاق لأن «رفاهية الإنسان تعتمد بشكل كلي على الأحداث التي تجري من حوله وعلى حالة دماغه».

يركز «المشهد الأخلاقي» على ضرورة أن تمثل رفاهية المخلوقات الواعية الاعتبار الأساسي عند تحديد صوابية فعل ما من الناحية الأخلاقية. يرى هاريس أن الوعي شرط أساسي لمناقشة الأخلاق (فلا يمكن لكونٍ من الصخور أن يحدد أسس الأخلاق)، ويرى في الوعي خاصية دماغية يمكن لتجارب علم الأعصاب إثبات وجودها عند الكائنات الحية.

يؤكد هاريس أنه من الممكن للعلم الكشف عن القيم الصحيحة من خلال اختبار إمكانية تعزيزها لرفاهية الكائنات الواعية، ويقول: «يمكن للأشخاص أن يكونوا مخطئين حول السبل التي يتبعونها للحفاظ على صحتهم البدنية، وبالمثل، يمكن أيضًا أن يكونوا مخطئين بالمناهج المتبعة لزيادة رفاههم الشخصي والاجتماعي».

يدعي هاريس أن العلم وحده هو الذي يمكنه الإجابة على أسئلة «معنى الحياة، والأخلاق»، لأن الحقائق المتعلقة بالأخلاق ومعنى الحياة، حسب وجهة نظره، يجب أن «ترتبط بحقائق حول رفاهية الكائنات الحية»، ولا يمكن إلا للعلم –وخاصة علم الأعصاب- كشف هذه الحقائق. يرفض هاريس من خلال هذا الادعاء فكرة غالبًا ما تنسب إلى الفيلسوف الاسكتلندي، ديفيد هيوم، حول وجود تمييز مفاهيمي واضح بين الحقائق والقيم، إذ يمكن التحقق من الحقائق بالاستعانة بالمنهج العلمي، بينما لا يمكن التحقق من القيم باتباع نفس الأسلوب. يناقش هاريس قدرة العلم على تقديم المعلومات الكافية التي نحتاجها لنقد القيم الأخلاقية وتطوير الأنظمة العامة. من الممكن لذلك، إن حصل فعلًا، أن يغير بشكل جذري من فهمنا الأخلاقي للديموقراطيات الليبرالية في الغرب، وسيتسبب بتراجع العديد من المثقفين الغربيين عن مواقفهم الحيادية تجاه النظم الأخلاقية التقليدية.

رد الفيلسوف البريطاني كوامي أنتوني بيا على كتاب المشهد الأخلاقي

اعترض الفيلسوف البريطاني، كوامي أنتوني بيا، على فرضيات هاريس التي تبناها في «المشهد الأخلاقي»، لعدم إجابة الأخير على العديد من الأسئلة، من بينها: كيف من الممكن مقارنة رفاهية فرد ما مع فرد آخر؟ وكيف من الممكن زيادة متوسط الرفاهية؟ وهل من الأخلاقي قتل رجل ما خلال نومه لأن وعيه حينها يكون معدومًا؟ وكيف يمكننا مقارنة الرفاهية الحالية مع رفاهية المستقبل؟

يرى بيا في تركيز هاريس على جزئيتي التجربة الواعية والحقيقة شيئًا من التناقض، ويسأل، هل تعد السعادة المبنية على الوهم منافية للرفاهية؟ أم أن الخبرة الذاتية هي كل ما يهم في موضوع السعادة؟ على سبيل المثال، هل ادعاء الزوجة حب زوجها أخلاقي أكثر من اعترافها له بمشاعرها الحقيقية له لأن علمه بالموضوع سيقلل من مستويات سعادته (وبالتالي رفاهيته)، أما استمرارها بالكذب سيزيد من هذه المستويات.

لم يوضح هاريس في كتابه، وفقًا لبيا، الأسس العلمية لبنائه مبدأ الفعل الأكثر أخلاقية هو الفعل الذي يزيد من رفاهية الإنسان الواعي. بالمقابل يؤيد بيا الخطاب الذي تبناه هاريس ضد النسبية، ويتفق معه على جزئية وجود إجابات صحيحة لجميع الأسئلة وعند كل الأشخاص بغض النظر عن دينهم وثقافتهم، كما يؤيد هاريس أنه من الممكن الإجابة على العديد من الأسئلة الأخلاقية من خلال التحليل العلمي، لكنه بالمقابل، يرفض تعميم هاريس وتأكيده على قدرة العلم على الإجابة على «جميع» الأسئلة الأخلاقية.

يقول بيا: «لاشك بأن المشهد أخلاقي كتاب مثير للاهتمام، يلفت فيه هاريس انتباهنا إلى أن قدرة العلم المتزايدة على السماح لنا بتجديد جوانب عقولنا التي تجعلنا ننحرف عن معايير التفكير الواقعي والأخلاقي»، «لدى هاريس الكثير من الأفكار المثيرة للاهتمام حول مجاله، علم الأعصاب، كاستخدام تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي لدراسة وظائف الدماغ عند المرضى النفسيين وأوجه التشابه بين الطرق التي يتعامل بها الدماغ مع المعتقدات الأخلاقية وغير الأخلاقية».

المصادر:

  1.  كتاب المشهد الأخلاقي لسام هاريس، ترجمة Ideas Beyond Borders 2018.
  2. What Religion Means to Me by B. F. Skinner From Free Inquiry Volume 07, No. 2 Spring 1987
  3. Science Knows Best by Kwame Anthony Appiah, published in The New York Times on Oct. 1, 2010
  4. Empathetic Rats Help Each Other Out By Joseph Castro published December 08, 2011
  5. The Social Behavior of Chimpanzees and Bonobos: Empirical Evidence and Shifting Assumptions

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا