أدى توسع رقعة الدولة الإسلامية سريعا في بداية العصر الإسلامي إلى دخول شعوب مختلفة الثقافات واللغات تحت سيطرتها وتسارع التفاعل بينها وبين العرب ما مكن من الاطلاع على ما لدى هذه الشعوب من معارف وعلوم من ناحية وعلى انتشار اللغة العربية لغة الدولة الرسمية فنشطت حركة مبكرة للترجمة أسست لفترة ازدهار للعلوم ونقلت مشعل السبق العلمي إلى الحضارة العربية الإسلامية. ولئن كانت العوامل الدينية والسياسية قد لعبت دواراً أساسياً في انتشار اللغة العربية في جميع أرجاء الدولة الإسلامية فإن حركة ترجمة العلوم من مشارب وثقافات مختلفة إلى العربية هي التي مكنتها من أن تخلف اللغة الإغريقية كلغة للعلم على مدى قرون طويلة.

ومع امتداد الدولة الإسلامية في عهد الأمويين من شمال أفريقيا إلى وسط آسيا أصبح من رعاياها شعوب ذات خلفيات لغوية وثقافية وحضارية مختلفة وضمت مناطق نفوذها مراكز علمية وثقافية عديدة أبرزها مدرسة الإسكندرية التي ورثت العلوم الاغريقية ونافست أثينا كمركز للفكر اليوناني وخاصة للأفلاطونية الجديدة، ومدارس جند نيسابور وأنطاكية وحران ونصيبين وغيرها من المراكز العلمية المنتشرة في غرب الدولة وشرقها. وكانت هذه المدارس تضم مجموعات مختلفة الأهمية لمصنفات يونانية في شتى المجالات. وكان من رعايا هذه الدولة السريان وهم شعوب من أعراق مختلفة يدين أغلبهم بالمسيحية ويسكنون مناطق تمتد بين بلاد الرافدين وفلسطين. وكانت السريانية همزة الوصل بين العربية واليونانية وأسهم السريان إسهاما ضخما وبصفة خاصة في الترجمة من اليونانية للعربية. وإلى جانب العامل الديني الذي دفع الذين اعتنقوا الإسلام حديثا إلى تعلم العربية للقيام بواجباتهم الدينية، كان قرار عبد الملك بن مروان بتعريب الدواوين وجعل العربية لغة رسمية لكتابة العقود والسجلات عاملا حاسما نشر العربية في أرجاء الدولة وتولدت حاجة ملحة للترجمة في مجالات كثيرة منها الإدارية والاقتصادية والعلمية.

وقد ظهرت بوادر حركة الترجمة العلمية في عهد الدولة الأموية، كما تؤكد العديد من المصادر مع الأمير الأموي خالد بن يزيد في أواخر القرن السابع ميلادي وهو أول من عني بنقل علوم الطب والكيمياء للعربية، وكلف جماعة من اليونانيين المقيمين في مصر أن ينقلوا كثيرا من الكتب اليونانية التي تناولت صناعة الكيمياء والفلك. وتمت ترجمة أول كتاب من اليونانية إلى العربية وهو كتاب أحكام النجوم الذي ألفه الحكيم هرمس. كما أبدى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز اهتمامًا بالترجمة من خلال تكليفه للطبيب اليهودي البصري ماسرجويه بترجمة أول كتاب في الطب ألفه الطبيب أهرون -الذي عاش في الإسكندرية -من السريانية إلى العربية. وكان من أشهر المترجمين في العصر الأموي يعقوب الرهاوي الذي نقل الكثير من الكتب من اليونانية إلى العربية.

وفي مراحل البناء والتطوّر الحضاري، لعبت الترجمة دوراً بارزاً ومهماً، خصوصاً في العصر العباسي الأول (132-232 هـ/750-847 م)، إذ صارت حركة الترجمة ذات شكل رسمي مدعوم بسخاء من الدولة، وضمن كيان أكاديمي عالمي تَمَثل في بيت الحكمة، الذي أسسه هارون الرشيد (149-193 هـ/763-809 م) في بغداد، ووصل إلى ذروته في عهد ابنه المأمون (170-218 هـ/786-833 م)، حيث جمع فيه عشرات المترجمين من بلدان عدة ليعملوا ضمن جامعة علمية كبرى. ويُعدّ أبو جعفر المنصور (95-158 هـ/714-775 م) الممهد الأول إلى خزائن الكُتب.

وعن “بيت الحكمة” كتب ابن خلدون: “إن الإسلام مدين إلى هذا المعهد العلمي باليقظة الإسلامية الكبرى التي اهتزت بها أرجاؤه والتي تشبه في أسبابها، وهي انتشار التجارة وإعادة كشف كنوز اليونان وفي نتائجها وهي ازدهار العلوم والفنون”.

من بين أهم الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تفعيل حركة الترجمة في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، كان سبباً خارجياً غير مباشر، وآخر داخلي مباشر. فالأول كان نتيجة وجود المدارس القديمة التي تمثل عصر ازدهار الثقافة اليونانية من جهة، ودَوْر السريان (معظمهم نصارى نساطرة ويعاقبة وقلة من اليهود) الذين يمثلون حلقة الوصل بين العرب وبين لغة اليونان من جهة أخرى. لقد كانت اللغة اليونانية شائعة التناول في مدارس السريان، وعندما فتح عرب الجزيرة المسلمون بلدان عرب الشمال: العراق والشام ومصر، واحتكاكهم بثقافات تلك المدارس المسيحية، طلبوا من السريان أن ينقلوا التراث العلمي والفكري اليوناني إلى اللغة العربية.

أمّا عن السبب الثاني، المباشر، الذي دفع بالعرب المسلمين إلى نقل كُتب العلوم والفلسفة والمنطق والآداب إلى لغتهم، فإنه يرتبط بواقع الفتوحات المتوالية والسريعة، ما جعلهم يراعون أهمية الأوضاع الجديدة ومنها:

1- حاجة العرب إلى العلوم والمعارف، فالإسلام قد خلق مجتمعاً جديداً، له عقليته ونمط تفكيره الحياتي الذي نقل عرب الجزيرة إلى مستوى مدني يتطلب منهم التوجه نحو آفاق ومصادر حضارية متقدمة.

2- الوضع المستقر والرفاه المعيشي، إذ إن المجد العسكري والسياسي والاقتصادي الذي شيده العرب المسلمون لا يكتمل إلا بالمجد العلمي والفكري والثقافي.

3- لغة القرآن، فبعد الفتوحات انتشرت اللغة العربية في جميع البلدان الإسلامية، كونها لغة النظام السياسي الرسمي للدولة، ومن بين ما يمتاز به القرآن هو حث المسلمين على البحث والتفكير، وفي مدح العلم ومنزلة العلماء.

4- حاجة العرب إلى فكر نظري حرّ، إذ إن الفِرق والملل الدينية قد كثرت وتعددت بين المسلمين، وازداد الجدل في ما بينها، ما أوجب على علماء الكلام أن يطلعوا على نظريات الفكر اليوناني لكي يتمكنوا من الرد العقلي والمنطقي على المغالين والمتشددين في الدين.

5- نفوذ المثقفين الأعاجم، فقد تأثر العرب ببعض المفكرين والأعلام من الأعاجم، خصوصاً من الذين نقلوا وترجموا روائع تراثهم إلى اللغة العربية.

6- اهتمام الخلفاء بالعلم والمعرفة، إذ لم يكن انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين لمجرد قيادة دولة المسلمين، بل كان أيضاً انتقالاً إلى عقلية حضارية راقية، وكان المنصور والرشيد والمأمون من أكثر الخلفاء تشجيعاً لنشر العلم والمعرفة، والخليفة المأمون نفسه كان عالماً؛ حتى في انتصاره على ملك الروم تيوفيلوس، كان من بين شروطه لوقف القتال الحصول على كُتب الفلسفة والعلوم كجزء أساسي من غنائم الحرب. وكذلك بالنسبة إلى حاكم قبرص عندما طلب الهدنة، فقد فرض عليه المأمون أن يسلم “خزانة كُتب اليونان”، كما ذكر ابن النديم في الفهرست.

7- التيار الشعوبي الفارسي، بعد اشتداد التنافس بين العرب والشعوبيين من الفرس الذين ترجموا تراثهم بغية إبراز آدابهم القومية الممتدة إلى ما قبل الإسلام، وذلك من أجل المفاخرة، عبدالله بن المقفع (724-759 م) نموذجاً، فقد ترجم كتاب كليلة ودمنة من اللغة الفهلوية إلى اللغة العربية.

المصادر:

  • https://www.mominoun.com/articles/%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-4436

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا