لا شك بأن القوانين والأنظمة هي ما تحفظ استقرار المجتمعات. لكن ما الذي يدفع بعض الأشخاص للإذعان وإعلان الطاعة لبعض الأفراد، بينما يرفض آخرون هذه الفكرة رفضًا قاطعًا؟ في هذا المقال سندرس سيكولوجيّة الطاعة ، لمعرفة الأسباب التي تدفع البشر للإذعان لمن هم في السلطة، وسنتطرق أيضًا للعصيان وأصله في الطبيعة البشرية. 

الطاعة 

الطاعة هي أحد أشكال التأثير الاجتماعي الذي يخضع فيها الأشخاص لتعليمات أو أوامر صريحة من شخص ما ذو سلطة، ويمكن لنا أن نعرفها أيضًا بأنها تأدية عمل ليس نابعاً من رغبة شخصية أو دافع، ولكن لأن شخصاً ما في موقع سلطة أمر بالقيام بذلك.

«مجرد نظرة خاطفة على التاريخ …يجب أن تقنع المرء أن الجرائم الفردية المرتكبة بدوافع شخصيّة تلعب دوراً ثانوياً للغاية في المأساة الإنسانية، مقارنة بحجم المجازر المرتكبة بسبب الولاء للقبيلة، أو للأمة، أو للسلالة، أو للكنيسة أو لأيديولوجية سياسية ما».

الصحافي والروائي الألماني، أرثر كوستلر، مقالة «الإله يانوس: ملخص». 

الدراسات التجريبية

درس علم النفس الاجتماعي مفهوم الطاعة تجريبيًا في عدة مناسبات:

تجربة ميلجرام

 قام عالم النفس الاجتماعي الأمريكي، ستانلي ميلجرام، باختيار عينة من أربعين فردًا، من المتطوعين، وأخبرهم أنهم سيشاركون في دراسة حول آثار العقاب على التعلم، وكلف كل فرد من المتطوعين بالقيام بدور المعلم، وقد قيل لكل واحد منهم أن مهمته كانت مساعدة فرد آخر مثله على تعلم قائمة من أزواج الكلمات، في كل مرة يرتكب المتعلم فيها خطأ، كان على المعلم إعطاء المتعلم صدمة كهربائية عن طريق تشغيل مفتاح كهربائي ، وقد طلب من المعلم أن يرفع مستوى الصدمة في كل مرة يرتكب فيها المتعلم خطأ، حتى يتم الوصول إلى مستوى الصدمة الخطير. وطوال فترة التجربة، كان الباحث يأمر المعلمين بشدة لإتباع التعليمات التي تم إعطاؤها لهم، وفي الحقيقة، لم يكن الفرد الآخر المتعلم موضوعًا للتجربة، ولكنه كان شريك للباحث ميلجرام، ولم يتلق في الواقع أي صدمة كهربائية، لكنه وبالرغم من ذلك، تظاهر بأنه يتألم عندما كانت الصدمات الكهربائية توجه له. وقبل الدراسة، قال مجموعة من الأطباء النفسيين استشارهم ميلجرام أن أقل من 1% من الأشخاص سيشغلون المفاتيح الكهربائية لما يعتقدون أنها صدمات خطيرة للمتعلم، لكن ميلجرام وجد أن ثلثي المعلمين قد شغلوا المفاتيح الكهربائية حتى وصلوا إلى أعلى مستوى من الصدمة، على الرغم من اعتقادهم بأن المتعلم كان يعاني من ألم وضيق كبيرين، ويعتقد ميلجرام أن المعلمين تصرفوا بهذه الطريقة لأنهم تعرضوا للضغوط للقيام بذلك من قبل شخصية السلطة.

تجربة سجن ستانفورد

في شهر أغسطس من عام 1971، نفذ عالم النفس «فيليب زيمباردو» تجربته الشهيرة، التي كانت تهدف لمعرفة تأثير الأدوار والبيئة على الأشخاص، إذ خلق بيئة سجن في أحد أقسام جامعة ستانفورد، وأعلن عن فرصة للتطوع في التجربة، فتقدم ما يقرب من 70 متطوعًا، واختير 24 منهم بعد المقابلات والاختبارات المعيارية للتأكد من سلامتهم النفسية وأهليتهم للتجربة.

وُزِّعت الأدوار على المتطوعين عشوائيًّا بين حراس وسجناء، وبدأت التجربة بإعطاء الحراس اللباس الخاص بهم، والنظارات السوداء لمنع التواصل البصري مع السجناء. ومن أجل تعزيز دور السلطة والقوة في الحرس، سلموهم العِصي الخاصة بهم.

أما السجناء فقد جُردوا من ملابسهم وهوياتهم، وأعطوهم أرقامًا عوضًا عن أسمائهم، وسلموهم لباس السجن. بذلك يتعامل الحارس مع رقم، وليس مع شخص لديه كرامته وحقوقه الخاصة. وكان الحراس يعملون في مناوبات خلال اليوم على مدى ثماني ساعات للفترة الواحدة.

التجربة -التي كان من المقرر أن تستمر لأسبوعين- أُنهيت في اليوم السادس، بعد أن أصبح الوضع لا يُحتمَل، وصارت الإهانات والضغط النفسي على المساجين بسبب الحراس لا تطاق، بداية بالعقوبات الجسمانية، مرورًا بالإهانات والقرارات العشوائية، كإيقاظ السجناء من نومهم وطلب عمل تعداد أو تمارين، وصولًا إلى إجبار السجناء على تطبيق تصرفات مؤذية على بعضهم بعضًا

النتائج

فسر ميلجرام الميل للطاعة التي ظهرت في تجربته على أنها مرتبطة بنظريتين، نظرية المطابقة، ونظرية حالة الوكيل، وتشير نظرية المطابقة إلى أنّ الشخص غير القادر على اتخاذ القرار يترك القرار للمجموعة المسؤولة، لأنه يعتمد على المجموعة، ولأنه يشعر أنّ المجرب يعرف أكثر مما يعرفه، أما نظرية حالة الوكيل فتشير إلى أنّ الفرد يطيع لأنه يرى نفسه وكيل للمجرب، لذلك فهو لا يتحمل مسؤولية شخصية عما يحدث، وبعبارة أخرى، فإن الأفراد حتى لو اعتقدوا أن ذلك كان خطأ، لكنه لم يكن ذنبهم.

نظرية المطابقة

تشير المطابقة إلى نوع من التأثير الاجتماعي الذي ينطوي على تغيير في المعتقد أو السلوك من أجل التوافق مع المجموعة، وهذا التغيير هو استجابة لضغوط المجموعة الحقيقية، التي تنطوي على الوجود المادي للآخرين، أو تأثير المجموعة المتخيلة، والتي تنطوي على ضغط المعايير أو التوقعات الاجتماعية، ويمكن أيضًا تعريف المطابقة ببساطة بأنّها الاستسلام لضغوط المجموعة؛ وقد يأخذ ضغط المجموعة أشكالًا مختلفة، منها على سبيل المثال البلطجة والحوار والإقناع والمضايقة والنقد وما إلى ذلك، وتعرف المطابقة أيضًا بتأثير الأغلبية أو ضغط المجموعة، وغالبًا ما يستخدم مصطلح المطابقة للإشارة إلى اتفاق على موقف الأغلبية، إما عن طريق الرغبة في التوافق والتكيف معهم، أو أن يكون الفرد محبوبًا أو بسبب الرغبة في أن يكون الفرد صحيحًا، أو ببساطة للتوافق مع الدور الاجتماعي.

نظرية حالة الوكيل

 استخدم ميلجرام مصطلح حالة الوكيل لشرح المستويات العالية من الطاعة في تجربته، و أوضح ميلجرام أنّ الناس يجرون التحول إلى وكلاء عندما يواجهون شخصًا يرون أنه يتمتع بسلطة شرعية ويبدأون في التصرف بمثابة وكيل، نيابة عن شخصية السلطة، ويضيف أنه عندما يعتقد الناس أنهم في حالة الوكيل، فهم يعتقدون أن شخصية السلطة هي المسؤولة عن أفعالهم؛ ويُعرف هذا بنشر المسؤولية، أما عندما لا يكون بحضور شخصية السلطة، فإن الناس يكونون في حالة تحكم بالذات وضبط النفس، وأنهم يتصرفون بشكل مستقل ويشعرون بالمسؤولية عن نتائج سلوكهم، ويتخذون القرارات وفقًا لممارستهم الحرة.

ونظرًا لأن الأشخاص غالبًا ما يرتكبون أفعال الطاعة السلبية عندما يكونون في حالة الوكيل، مثل إيذاء شخص آخر، وهو عمل لا يفعلونه عادةً، فقد يواجهون إجهادًا أخلاقيًا ويظهرون علامات القلق النفسي والجسدي عندما يتعارض سلوكهم بمعتقداتهم حول الصواب والخطأ، و يقول ميلجرام أن التحول في العوامل المعززة يتم تعزيزه في مرحلة الطفولة المبكرة، عندما يكافئ الآباء الأطفال على الطاعة، و يعاقبونهم على التحدي؛ وهذا جزء من عملية التنشئة الاجتماعية ، والتي تستمر أكثر عندما يتعلم الأطفال طاعة المعلمين في المدرسة، وأوضح أيضًا أن الطاعة يمكن أن ينظر إليها على أنها ذات قيمة للبقاء وأن الانتقاء الطبيعي يفضل تلك المخلوقات التي تتناسب مع التسلسل الهرمي الاجتماعي وتجنب المواجهة، ويوضح أن الدولة تطورت كوسيلة للحفاظ على الانسجام الاجتماعي؛ فالالتزام بالقواعد أمر مهم لخير المجموعة.

التأثيرات

واحدة من الافتراضات الرئيسية لأبحاث الطاعة هي أن التأثير ناجم فقط عن الظروف التجريبية، لكن بحث توماس بلاس يناقض هذه النقطة، ففي بعض الحالات، يمكن للعوامل المتعلقة بالشخصية أن تؤثر على النتائج. في إحدى مراجعات بلاس عن الطاعة، وجد أن شخصيات المشاركين يمكن أن تؤثر في كيفية استجابتهم للسلطة، فالأشخاص الذين كانوا في منتهى الخضوع كانوا أكثر عرضة للطاعة. وكرر هذا الاستنتاج في بحثه الخاص، كما هو الحال في إحدى تجاربه، إذ وجد عند مشاهدة أجزاء من دراسات ميلغرام الأصلية في الفيلم، أن المشاركين الذين سجلوا نتائج عالية في الاستبداد، وضعوا مسؤولية أقل على أولئك الذين يعاقبون المتعلم.

 بالإضافة إلى العوامل المتعلقة بالشخصية، كان لدى المشاركين الذين قاوموا طاعة السلطة مستويات عالية من الذكاء الاجتماعي.

أسباب الميل إلى العصيان 

هنالك العديد من الإشارات العلمية إلى أنه، وبغض النظر عن الإجراء التجريبي المستخدم، فإن جميع الدراسات حول الطاعة تشير دائمًا إلى نسبة مئوية من المشاركين الذين يتحدون السلطة ويبدون العصيان، ويبدو أن هذا القرار المتحدي، على الأقل في التجارب التي استعملت أسلوب ميلجرام، يبدأ على الأرجح في المرحلة الحرجة، عندما يطلب المشاركون لأول مرة إنهاء الدراسة، وهناك دراسات تحليلية أخرى لاحقة، تم إجراؤها تكشف أن الأشخاص الذين سبق بحثهم في بعض الدراسات، بدأوا في معارضة المجرب، إما عن طريق الاستجواب أو الاعتراض على مطالب الباحث، كلما زاد احتمال أن ينتهي بهم الأمر إلى العصيان، وهكذا يبدو أن توقيت أول معارضة قوية للمشارك هو توقيت هام في تشكيل النتائج النهائية، ويبدو أن المعارضة المبكرة شرط كاف للعصيان الناجح، وليس من المستغرب أنّ وجود مثل هذه المعارضة القوية هو شرط كاف لإنهاء الطاعة، ومن أهم أسباب العصيان، الدافع الأخلاقي الذاتي، والتقليد، وفيما يأتي بيان ذلك:

العصيان الأخلاقي

 أظهر إحدى التجارب التي أجريت في عام 2008 أن المتمردين الأخلاقيين – وهم الأفراد الذين يتخذون موقفًا مبدئيًا ضد الوضع الراهن، من الذين يرفضون الامتثال، أو يفضلون الصمت، أو ببساطة يمتلكون فروقًا فردية، تجعلهم لا يتماشون عندما يتطلب ذلك أن يعرضوا قيمهم للخطر- هم غالبًا لا يحصلون على الاحترام الذي يستحقونه، في سلسلة من الدراسات تبين أنّ سلوك المتمردين هذا يثير استياءً ورفضًا لدى المشاركين الذين لم يتخذوا هذا الإجراء الشجاع، الذي يُنظر إليه ضمنيًا على أنه اتهام بسوء سلوكهم، وهناك إثبات إضافي غير مباشر على صحة هذه النتائج، إذ ينشر المؤلفون التعليقات التي تم تحليلها في استخلاص المعلومات من قبل المشاركين المطيعين في تجربة ميليغرام، ومقارنتهم بالتعليقات التي أخذت من أولئك الذين عصوا، إذ علق الأفراد المطيعين على أنّ الرافضين كانوا سخيفين، أو أنّهم فقدوا كل سيطرتهم على أنفسهم، فقد جاؤوا إلى هنا للتجربة، وكان عليهم التمسك بها. وفي دراسة أخرى أجريت سنة 2011، في جامعة VU في أمستردام، طلب المجرب من المشاركين كتابة وتوقيع تعهد موجز، لإقناع زملائهم الطلاب والأصدقاء بالمشاركة في تجربة حول الحرمان الحسي، الذي يتعين القيام به في جامعة VU ، وقد بدت التجربة غير أخلاقية على الفور ولم يشارك فيها أحد، وتم وصف الحرمان الحسي، بإعطاء مثل لتجربة مماثلة، يُزعم أنها نفذت في روما -حيث لم يتم إجراء أي تجربة فعلاً- إذ أصيب الأشخاص فيها بالذعر، وعانوا من الهلوسة البصرية والسمعية، ووصفوا التجربة بأنها مخيفة، حتى أن اثنين من المشاركين طلبا من الباحثين التوقف بسبب أعراضهما القوية. 

العصيان بالتقليد

في دراسة شبيهة بدراسة ميليغرام، ارتفعت نسبة الطاعة في إحدى الحالات التجريبية إلى أكثر من 90٪ ، بينما في حالة متناقضة انخفضت الطاعة إلى 10٪ فقط، وذلك عندما تم إخبار المشاركين، الذين يلعبون دور المعلم، بمشاهدة شخص آخر مثلهم كان ينهي جلسته فورًا، ما لاحظوه يحدد ما إذا كانوا يطيعون أو لا يطيعون، إذا رأوا شخصًا يدير الحد الأقصى من الصدمة، فإن 92 ٪ يفعلوا ذلك أيضًا، وعلى النقيض من ذلك، فإن مشاهدة العديد من الأشخاص الآخرين يعصون ويرفضون الانصياع لتلك السلطة، تم التمرد بنسبة 90٪. وتعني هذه النتائج أن الطاعة والعصيان يتأثران إلى حد كبير بالمتغيرات الظرفية الاجتماعية – قوة الأفعال المرصودة للآخرين على الميل للسلوك- إن فعل الشيء الخطأ، أو الفعل الشرير، فإنّه يؤثر على المراقبين ليحذوا حذوه ويؤذوا الآخرين، وكذلك فإن فعل الشيء الصحيح، والعمل الأخلاقي، يؤثر على المراقبين لفعل الشيء الصحيح، ويلهمهم على التصرف بشكل بطولي.

عصيان الأذكى

يلعب التعليم والمعرفة دورا كبيرا في سيكولوجية العصيان. ببساطة فإنه كلما كنت ساذجا، زادت احتمالات طاعتك، ومع زيادة نسبة ذكائك، تتدرج قدرتك على مراجعة القواعد والقوانين، وخاصة السياسات الحكومية، وبدأت في توجيه النقد، واشتعلت داخلك الرغبة لا في كسر القوانين فحسب، وإنما في تغييرها كي تلائم «ذكاءك» و«معارفك». واستنادا لذلك يمكن إلقاء اللوم على المعرفة الجديدة، التي انتشرت مع ثورة الاتصالات وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، في تزايد الاحتجاجات والمظاهرات ونماذج العصيان المدني مؤخرا في جميع أنحاء العالم.

هذه الاحتجاجات التي تكسر القواعد، والتي أحيانا ما تخالف القوانين هي الناتج المنطقي لزيادة مستوى التعليم، حيث تتناسب نسبة المعلومات المتوفرة لدينا عن الأزمة المناخية العالمية وقضايا العدالة الاجتماعية مع رغبتنا في التغيير وإدراكنا أن القوانين لا تناسب ما نتطلع إليه. فنحاول أن نجذب انتباه السياسيين لقضايانا، بينما نشعر أحيانا أنهم “غير أكفاء” ولا تتناسب معلوماتهم ومعارفهم مع “معارفنا”، إلا أنه من أجل تصحيح ما نراه ظلما، يتعين علينا كسر بعض القواعد، فأنت كما يقول المثل “لا تصنع العجة دون أن تكسر البيض”. ومن الناحية النفسية نحن نشعر بأن معرفتنا تفوق الهرمية التقليدية، ويشمل ذلك علاقة الطفل بوالده، أو الطالب بمعلمه، أو المواطن بحكومته.

  • The Psychology of Obedience: Why Do Some People Obey While Others Don’t? Becky Storey, Leraning Mind. 
  • The Milgram Shock Experiment By Saul Mcleod, published in SimplePshycology.org 
  • What Is Obedience? Psychology, Definition, Theories, and Experiments. By Julia Thomas. 
  • Theories of obedience. Agency Theory Milgram (1974), psychologyrocksblog.wordpress.com, Retrieved 2020-07-15. Edited.
  • “how-would-people-behave-in-milgrams-experiment-today”, behavioralscientist.org, Retrieved 2020-07-15. Edited.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا