لطالما أرق موضوع تحديد طريق الوصول إلى السعادة والبحث عنها عامة البشر والفلاسفة على مرّ التاريخ، فهو البحث الأبدي عن الأشياء التي تجعل الحياة جميلة وتستحق المحاربة من أجلها، وتستحق الاستيقاظ كل يوم صباحًا لعيشها. 

وبالرغم من هذا الإعجاب والتوق لمفهوم السعادة، فإنه من الصعب جدًا تحديد معنى واحد ثابت لها، فإذا سألنا ألف شخص ماذا تعني السعادة بالنسبة لهم لربما حصلنا على ما يزيد على النصف منهم إجاباتٍ مختلفة. وفي دراسة عن السعادة أجريت في المملكة المتحدة شملت 80 ألف شخص، وجدت أن أكثر الدول سعادة هي الدنمارك وسويسرا والنمسا، لكن ماذا يعني هذا؟ هل يدُلّ على أن سكان هذه البلدان مبتسمون طوال الوقت؟ أو أنهم لا يبكون أبدًا؟ 

ما هي السعادة؟ 

في البداية يجب علينا أن نضع تعاريفًا محددةً ما، خطوطًا عريضة، وأن نميز بين الإثارة أو excitement أو المتعة pleasure والسعادة أي happiness.

في حياتنا اليومية كثيرًا ما نخلط المصطلحات بعضها ببعض فتنتج لدينا مفاهيم مشوهة للأشياء، وأحيانا حقيقة مشوهة أسوأ من غياب الحقيقة بشكل كامل. فركوب أفعوانية عملاقة مع الأصدقاء، وشرب الويسكي والرقص، وممارسة جيدة للجنس، كلها أشياء نصفها بالجيدة، ونستذكرها حينما نسأل عن لحظاتنا السعيدة، إلا أنها ببساطة، لحظات إثارة لا أكثر، يفرز الأدرينالين في دمنا بقوة في أثناء ركوب الأفعوانية كما يلعب السيروتونين لعبته بعقلنا، وإذ بنا نطلق على هذه اللحظات سعادة، وهنا تبدأ المغالطات. وكنتيجة طبيعية لتعريفنا السعادة كإثارة، تصبح الحالة المعاكسة للإثارة، أو غياب التنبيه والمثيرات الآنية هي الحزن.

وهذا يدخلنا في حلقة عقيمة، حلقة تجعلنا نستهلك صور الآخرين في لحظاتهم الأكثر نشوة وابتهاجا، صور الابتسامات العريضة والألوان الزاهية التي ينشرها الآخرون، فنعتقد أن حياتنا ناقصة وبائسة كونها ليست مماثلة لحياتهم، والنقطة الأخرى تتلخص في أن الحياة لا يمكن أن تقوم على اللحظات المثيرة والمبهجة فقط، حياة كهذه قد تؤدي لنتائج كارثية أو عكسية.

إن الكلمة happiness مشتقة من الجذر الإغريقي hap والذي يعني الحظ، إذ أن السعادة كانت ترفق سابقًا بالحظ وترتبط به بينما في الوقت الحالي يذهب المفكرون إلى اعتبار السعادة قرارًا أو مجموعة من الممارسات والعادات كما يوجد من يذهب إلى أن السعادة حالة عقلية داخليًا وهناك من يقول إنها حياة ناجحة وحافلة لصاحبها، كما أن للرواقيين نظرتهم الخاصّة والفريدة للسعادة. 

السعادة في الفلسفة الرواقية

ما هي الرواقية

الرواقية هي مذهب فاسفي وفكري أنشأه الفيلسوف زينون الشيسومي في أثينا في بدايات القرن الثالث قبل الميلاد، وتندرج الرواقية تحت فلسفة الأخلاقيات الشخصية التي تُستَمَدُّ من نظامها المنطقي وتأملاتها على الطبيعة. يرى الرواقيون أن الفضيلة هي الخير الوحيد وأن بقية الأشياء المادية والأرضية ما هي إلّا وسائل لتحقيق الفضيلة، وقد تكون وسائل جيدة أو خيرة أو وسائل سيئة. كما أنهم يؤكدون أن الله هو الخير الأعظم وهو الكل، وأن معرفة الله هي غاية الحكمة والمعرفة، كما يدعون إلى التناغم مع الطبيعة والصبر على المشاق، وقد سمي الرواقيون بهذا الاسم لأنهم اعتادوا عقد اجتماعاتهم في الأروقة في مدينة أثينا. 

أبرز الرواقيين هم زينون الرواقي وهو مؤسس الفلسفة، وكليانثس ومن ثم خريسيبوس، والفيلسوف سينكا الأصغر وهو الفيلسوف التي وصلت لنا أعماله الكاملة. 

الرواقية فلسفة طبيعية وفقاً لتعاليمها، فإن الطريق إلى اليودايمونيا (السعادة أو الراحة الدائمة) يكون بتقبل الحاضر، وكبح النفس من الانقياد للذة أو الخوف من الألم، عبر مَشُورَةِ العقلِ لفهم العالم وفِعلِ ما تقتضيه الطبيعة. وقد اعتبر الرواقيون المشاعر المختلفة كالخوف والغضب والحسد والكراهية والحزن رواسب وملوثات للنفس وأنها بعد عن الحقيقة والحكمة، كما يرى الرواقيون أن السعادة ليست غاية بحد ذاتها، بل هي منتج عرضي ونتيجة طبيعية لمن يبحث عن الحكمة والحقيقة بالتفكر وتهذيب النفس. 

ينطلق الرواقيون من إيمانهم المطلق بالقدر وبحتمية الأحداث لأن يروا أنه ما من جدوى للحزن والحداد في أوقات المصائب، فنحن ليس لنا أن نتحكم بما يجري حولنا بل نستطيع فقط أن نتحكم بردة فعلنا تجاه هذه الأحداث. 

يركز الرواقيون على فكرة عيش الحاضر كما هو، دون الرجوع والبقاء في الماضي أو الهوس بالمستقبل والتفكير والتخطيط له، وهذا السلوك يسهم في جعل الحياة أكثر سعادة وراحة. 

يرى الرواقيين أيضًا أن مصادر الغضب والحزن تكمن في عقولنا، وأنه حتى لو أصابت مصيبة ما شخصين اثنين، فإن طريقة تعاطيهما معها هي مسؤوليتهما وحدهما، أي أننا وحدنا القوامون على سعادتنا، دون تأثير عوامل خارجية. 

لا يتفق الرواقيون من الأبيقوريين في قولهم إن الحياة السعيدة هي الأكثر إمتاعًا، إذ أن السعادة من وجهة نظر زينون هي «التدفق الجيد للحياة» أو العيش في توافق مع الطبيعة أو «الاختيار العقلاني للأشياء»

ويؤكد الرواقيون على أهمية عيش كل لحظة والاستمتاع باللحظات الجيدة وأن هذا طريق جيد نحو السعادة. 

إن الرواقية حين تنصح بالقبول التام للقدر فهي لا تعني الاستسلام والجمود بل تنصح بالتسليم بدلًا من ذلك، وهي ليست فلسفة عدميّة. 

نقد السعادة الرواقية: 

ينظر إلى مفهوم السعادة الرواقي نظرة مشككة وناقدة بشكل لاذع، فنحن بشر ولسنا آلات تحتوي أدمغتها على زرّ للتحكم وإطفاء المشاعر السلبية، ويرى المفكرون أن الرواقية مثالية أكثر من اللازم وتتطلب التنسك والزهد والابتعاد عن كل ما يربط الفرد بالمادّة، كما يشبهها البعض بالبوذية التي تدعوا للتنسّك والزهد، إلا أن الرواقية لا تدعو لكل هذا، بل تدعو لإعمال العقل، والنظر بتجرد وموضوعية لما يحدث حولنا، وتفكيك الظواهر التي تبدوا مرعبةً أو مهولة لأحداث بسيطة يمكن التعامل معها بالعقل. كما أن الرواقية لا تغض البصر عن فكرة وجود شرّ وسوء طبيعيين، أي الكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وأوبئة، لكنها تدعونا لئلّا ندعها تدمرنا داخليّاً أو تجعلنا لها. 

تدعونا الرواقية لأن ننظر إلى تطلعاتنا وأهدافنا في الحياة بما يتناسب مع إمكاناتنا المتاحة، فنخفّض نستسلم سقف تطلعاتنا وبالتالي نشعر برضى أكثر عمّا نفعله، ونسعد أكثر، فهي ليست فلسفة انهزامية استسلامية، بل فلسفة منطقية موضوعية. 

ومن المهم معرفة أن الرواقية مجموعة أفكار تتطلب الممارسة ولا يمكن تحقيقها وتقمّصها في ليلة واحدة، بل هي فلسفة صعبة تحتاج قوة كبيرة وقدرة هائلة على جلد النفس وتهذيبها، بالإضافة لمعرفة طبيعية وثقافة ورجاحة عقل. 

السعادة مفهوم واسع وفضفاض جدًّا ويقبل الكثير من التحليلات والتأويلات، ويستطيع الجميع وضع تعريفات تتناسب معه ومع حياته للسعادة، وفي الواقع، الحياة السعيدة، لا تعني أن تكون سعيدًا طوال الوقت، بل هي أقرب لحالة من السلامة والسكينة والاطمئنان العقلي. 

المصادر: 

  • https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9
  • https://www.aljazeera.net/blogs/2020/6/24/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3
  • https://hekmah.org/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9/
  • https://www.aljazeera.net/blogs/2020/9/14/%D9%87%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%85%D9%83%D9%86%D8%A9%D8%9F

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا