أتاح لنا التقدم في العلوم والتكنولوجيا إمكانية إجراء عمليات الاستنساخ الجيني البشري وساعد في تأسيس الهندسة الجينية أو التعديل الجيني. ولا يعدّ الجدل حول التعديل الجيني جديدًا، لكنه عاد إلى الواجهة بعد اكتشاف قدرة تقنية كريسبر على جعل هذا التعديل أكثر دقةً مقارنة مع التقنيات القديمة. تعارض العديد من المنظمات الحكومية والعلمية والدينية الهندسة الوراثية بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة والنتائج الأخلاقية، إلا أن مؤيدي التعديل الجيني يجادلون بأن هذه التقنيات أساسية لتوفير العلاجات عبر الطب التجديدي من خلال استخدام خلايا أو أعضاء أو أنسجة بشرية متطابقة وراثيًا، ولإثراء المجالات الصحية الأخرى كالعمليات الجراحية التجميلية والترميمية، وتطوير علاجات العقم والحروق وأمراض القلب والسرطان والسكري.

تثير الهندسة الجينية بشكل عام وعمليات الاستنساخ بشكل خاص انتقادات بعض الأشخاص من مختلف الانتماءات، إذ ينظرون إلى تكوين الأجنة لأغراض البحث على أنه إجراء لا يحترم الحياة على الرغم من إظهار الأبحاث أن نصف الأجنة لا تنغرس أو تُفقد، ويحدث هذا الفقدان في حالات الحمل الطبيعي، إلا أنهم لا يوازنون بين فقدان الأجنة المختبري ووفيات الأطفال، معلنين قيمًا أخلاقية مختلفة أمام المجتمع.

يعتقد علماء الأخلاقيات الحيوية والباحثون عمومًا بعدم وجوب إجراء عمليات التعديل الجيني البشري للأغراض الإنجابية، وبأفضلية استمرار الدراسات بهدف جعل هذا العلاج الجيني آمنًا وفعالًا. بحلول عام 2014، حظرت حوالي 40 دولةً، بما فيها 15 دولة في أوروبا الغربية، إجراء أبحاث حول تعديل الخط النسيلي البشري بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة والأخلاق. تنسق الجهود الدولية بقيادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والصين تنظيم آليات لتطبيق التعديل الجيني، وقد بدأت هذه الجهود رسميًا في ديسمبر 2015 عند انعقاد القمة الدولية لتعديل الجينات البشرية في واشنطن العاصمة.

الاعتبارات الأخلاقية

السلامة

تعدّ السلامة أهم الاعتبارات الأخلاقية للتعديل الجيني، نظرًا لاحتمال حدوث تأثيرات غير مرجوة (كحدوث عمليات تعديل في مكان خطأ) والتَزَيُّق (عندما تتعدل بعض الجينات بينما لا تتعدل أخرى). يتفق بعض الباحثين وعلماء الأخلاق الذين تحدثوا عن التعديل الجيني، على عدم استخدامه لأغراض الإنجاب السريري حتى نتمكن من الاستمرار في توظيف التعديل الجيني من خلال الأبحاث، إذ لا يمكن تبرير المخاطرة بالفائدة المحتملة بنظرهم. يعتقد البعض الآخر بعدم إمكانية تفوق التعديل الجيني على الأجنة على التقنيات الموجودة مثل التشخيص الوراثي السابق للانغراس PGD والتخصيب المختبري IVF.

مع ذلك، يقر علماء الأخلاقيات الحيوية بإمكانية حل التعديل الجيني لبعض المشاكل التي لا يمكن للتشخيص الوراثي قبل الانغراس حلها، وذلك عندما يكون كلا الوالدين حاملين للمتغير المرضي ذاته مثلًا، فاحتمال إصابة جميع الأطفال بالمرض يكون كبيرًا، وكذلك الحال في الاضطرابات متعددة الجينات التي تتأثر بأكثر من جين واحد.

الموافقة الواعية

يعتقد بعض الأشخاص باستحالة الحصول على موافقة واعية أو مستنيرة بما يخص التعديل الجيني أو ما يسمى علاج السلالة الجرثومية germline therapy لأن الأجنة والأجيال اللاحقة هي من يتأثر بهذه التعديلات. بالمقابل، طُرحت حجة مفادها أن الآباء بالأساس يتخذون العديد من القرارات التي تؤثر مستقبلًا على أطفالهم، بما في ذلك القرارات المتعلقة بالتشخيص الوراثي قبل الانغراس، والتلقيح الاصطناعي على سبيل المثال. يشعر الباحثون وخبراء الأخلاقيات الحيوية بالقلق أيضًا حيال إمكانية الحصول على موافقة مستنيرة بالفعل من الآباء، طالما أن مخاطر التعديل الجيني بالنسبة لهم غير مفهومة بشكل كامل. 

العدل والإنصاف

تراود العديدَ مخاوفٌ بشأن التقنيات الحديثة المتعلقة بالهندسة الوراثية والتعديل الجيني كونها لن تكون متاحة إلا للأثرياء، الأمر الذي يعني مزيدًا من التفاوت في الوصول إلى الرعاية الصحية والتدخلات العلاجية بشكل عام. بينما تراود آخرين مخاوف بإمكانية التعديل الجيني -إذا ما استُثمر لأبعد حد- من خلق فئات من الأفراد تتحدد صفاتهم من خلال جودة الهندسة الوراثية.

تنظر العائلات التي شاهدت أطفالها يعانون من أمراض وراثية مدمرة بأمل إلى التكنولوجيا التي توفر حلولًا لتعديل الطفرات السيئة أو الشاذة من بين مجموعة الجينات الطبيعية.

 

طرح مدير مركز أخلاقيات البيولوجيا في كلية الطب بجامعة هارفارد روبرت تروغ السياق التالي: «يبدو أن سؤالنا هنا ليس جديدًا، فعملية التطور تمضي قدمًا من خلال الطفرات العشوائية في الجينوم، والتي تفعل ذات الفعل المختبري باستخدام تقنية كريسبر. تسبب هذه الطفرات العشوائية مشاكل خطيرة، ويولد الأشخاص بعيوب خطيرة. تلاعبنا ببيئتنا كثيرًا وعرضنا أنفسنا للكثير من المواد الكيميائية التي تسببت بتغييرات غير معروفة في جينومنا، وعلينا إيلاء هذا الأمر اهتمامًا استثنائياً إذا ما قررنا إجراء تدخلات دقيقة لعلاج الأمراض». يعتقد تروغ أن القلق يتمحور حول كيفية تنظيم المجتمع العلمي لنفسه مع وجود تقنيات سهلة الاستخدام نسبيًا مثل كريسبر. 

بينما يرى الرئيس المشارك لهيئة التدريس في كلية هارفارد للأعمال ومسرّعة كرافت للطب الدقيق (kraft precision medicine accelerator) ريتشارد هامرمش، أن «أمامنا طريق طويل لنقطعه قبل البدء بالعمل على الأجنة، ويجب على الحضارة أن تفكر مليًا في الأمر. فلا شك أنه من المحتمل أن يكون لتقنيات التعديل الجيني دور مفصلي، فلو استطعنا تصحيح -أو حتى حذف- الجينات المسببة للمشاكل كالجينات المتحولة أو الشاذة سيكون ذلك نقطة تحول بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من أمراض تسببها طفرة جينية واحدة، مثل فقر الدم المنجلي والتليف الكيسي»، ويرى أن تطوير طرق آمنة وفعالة لاستخدام التعديل الجيني لعلاج المصابين بأمراض خطيرة سيحمل الكثير من الإمكانيات المرتبطة بتخفيف معاناة البشر بطريقة يصعب لأي شخص أن يعارضها.

من الناحية القانونية: يشرح أستاذ كلية الحقوق في جامعة هارفارد، غلين كوهين، العواقب القانونية المترتبة على التعديل الجيني على السلالة الجرثومية البشرية، فيقول: «علينا أن نقلل من رد فعلنا على هذه القضية، فإدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) تمتلك بالفعل سياسة قوية بشأن التعديل الجيني. هناك فرق ين الحوكمة والحوكمة الذاتية، فعندما تستخدم الحكومة القانون، يستخدم المجتمع العلمي مراجعة الأقران والرقابة العامة والترقيات والانتماءات الجامعية والتمويل لتنظيم نفسه».

ينظر كوهين إلى ضرورة أن ترتبط السياسة العامة والمناقشة الأخلاقية بمعطيات تطور العلوم، إذ من شأن هذه العملية أن تؤدي إلى نقاشات فعالة. ورغم صعوبة التعامل مع التشريعات الوطنية، ينبغي السعي نحو إجماع دولي حول الموضوع، وقد لا تنجح هذه الجهود، لكنها تستحق المتابعة.

دعت المديرة المؤسسة لبرنامج العلوم والتكنولوجيا والمجتمع في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، شيلا جاسانوف، إلى تأسيس «مرصد عالمي» للتعديل الجيني، مكون من شبكة دولية من الباحثين والمنظمات المكرسة لتعزيز تبادل الخبرات عبر الانقسامات التخصصية والثقافية. تعتقد جاسانوف أن فكرة إيلاء الاهتمام فقط لموضوع الخطر الذي يلحقه التعديل الجيني على الأفراد هي فكرة أمريكية للغاية، لأن النقاش لم يتركز حتى الآن إلا على الضرر الجسدي المحتمل للأفراد، وتقول: «نحن لا نطلب من الطلاب تعلم الأبعاد الأخلاقية للعلوم والتكنولوجيا، ويجب تغيير ذلك. أعتقد أننا نواجه تحديات مماثلة في مجال الروبوتات والذكاء الاصطناعي وجميع أنواع المجالات الحدودية التي لديها القدرة على تغيير- ليس فقط الأفراد- ولكن تغيير معنى أن تكون إنسانًا».

رغم كل المخاوف الأخلاقية الحالية المتعلقة بالهندسة الوراثية واستنساخ البشر، بقي التعديل الجيني متمتعًا بإمكانيات هائلة في ظل الدراسات البحثية العلمية التي أُجريت حوله، ومن هنا تأتي الحاجة لتطوير المزيد من الأبحاث لمراجعة الاعتبارات الأخلاقية والمعنوية في ممارسات الهندسة الوراثية. 

المصادر:

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا