تكمن إحدى أعظم إسهامات العراق في تاريخ البشرية في تطويره هناك ، منذ أكثر من أربعة آلاف عام ، لأدب مكتوب متطور للغاية. يُعاد بناء هذا الأدب اليوم من عدة آلاف من الألواح الطينية المنقوشة بالخط المسماري. تم استعادة هذه الألواح القديمة في القرن ونصف القرن الماضي من التلال المدمرة التي دفنت المدن القديمة في بابل وآشور.

تحفة العراق القديمة التي لا شك فيها – وأحد أعظم أعمال الأدب العالمي – هي ملحمة جلجامش البابلية. ألهمت إحدى الترجمات المبكرة للملحمة الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه في عام 1916 لدرجة أنه أصبح مخمورًا بالسرور والاندهاش ، وكرر القصة لكل شخص قابله. قال إن ملحمة جلجامش مذهلة! كانت أهميتها واضحة بالفعل عندما كانت دراسة الحضارة البابلية والآشورية في مهدها. في عام 1872 ألقى جورج سميث محاضرة عامة عن جزء من الملحمة، قصة الطوفان البابلي الشهيرة، لجمعية الآثار التوراتية في لندن. ما كشف عنه أذهل جميع الحاضرين ، بمن فيهم رئيس الوزراء، السير جلادستون.

ربما يكون جلجامش أقدم بطل نعرفه. كانت ملحمة جلجامش أعظم عمل أدبي من بلاد ما بين النهرين القديمة، وتعود إلى التقاليد الأدبية في نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد، أي حوالي 2000 قبل الميلاد أو قبل ذلك.

عمّاذا تحكي ملحمة جلجامش

تحكي الملحمة قصة جلجامش، الفتى السومري، الذي أراد أن ينجز شيئاً بطولياً، يخلد ذكراه، ويجعله مثار إعجاب الأبطال، فقرر أن يفاتح (أنكيدو) صديقه، وندّه في القوة، باعتزامه تنفيذ مثل هذا الفعل الشجاع، الذي تمثل بقراره محاربة الغول (خمبابا) في غابة الأرز. وبعد مغامرة إقناع لأنكيدو، وكذا حكماء المدينة، ومن ثم رحلة سفر خطير، اجتازا، جلجامش وأنكيدو، المخاطر العظيمة.

فأفلحا في قطع رأس الغول في الغابة الغربية، وقدّماه قرباناً إلى الشمس، فتعشقت الآلهة عشتار جلجامش، وأرادت إغراءه. فرفض؛ ذلك لأنه يعتقد أنها خانت معشوقيها السابقين، ورداً على الإهانة، دبرت له عشتار مكيدة، وبعثت (الثور السماوي) ليعيث فساداً في مدينة أوروك، فتصدى له الصديقان: جلجامش وأنكيدو، وقتلاه، ثم قدّما قلب الثور السماوي قرباناً، ولكن الآلهة، غضبت فقررت وجوب موت أحد البطلين؛ لأنهما قتلا ثوراً سماوياً، واختير أنكيدو لذلك، وهكذا كان الموت من نصيبه، بعد تلك المغامرة.

وفي أعقاب ذلك، حزن جلجامش، وبدأ يفكر في الموت وسرّ الحياة، وازداد قلقه لهذه الفكرة، وانطلقت في حياته، مرحلة رحلة جديدة، وأخذ يطلب الحياة والشباب، ففكر في الوصول إلى الإله أوتنابشتم ليسأله عن سرّ الخلود، الذي هو فيه. وبدأ السعي الفعلي لهذه الرحلة الخطرة والعجيبة. فتعرف على ساقية الآلهة (سيدوري) التي تعرف الطريق إلى جزيرة أوتنابشتم.

وهكذا فإنها تخبره بوجود الملاّح الخاص الذي يعرف طريق الجزيرة التي يسكنها أوتنابشتم، مع زوجته، خالدَين. فيأتي جلجامش إلى الملاّح: أورشنابي، مسرعاً. فيتعثر ويدوس على الألواح السحرية التي تحتوي على الطلاسم والكتابات الحامية والحافظة لسلامة المركب بينما يمخر عباب المياه في بحر الموت، وبذا تتكسر الألواح التي فيها الطلاسم الحافظة للمركب من مخاطر الموت في البحر.

وحين يطلب من الملاح الوصول إلى أوتنابشتم، يجيبه: “إن الألواح الحافظة للرحلة تكسّرت. ولا يمكن الآن”. ولكن الملاّح، تخطر له فكرة: “أن يقود جلجامش المركب بطريقة تجعله لا يمس الماء المميت، وهكذا اخترع له أعواداً طويلة:

(وهي: المردي في أهوار العراق الجنوبية)، ليدفع بها المركب، وهكذا وصل جلجامش إلى (أوتنابشتم) وسأله عن سرّ الخلود، فحدّثه الثاني عن قصة الطوفان. وبعد إلحاح جلجامش في طلب سرّ الخلود، أشفقت زوجة أوتنابشتم، فناشدت زوجها أن يعلمه طريقة معرفة سرّ الخلود، فأطلعه على طريقة أخذ عشبة الخلود من قاع البحر. وبذا سارع جلجامش إليها، فوصلها وحازها، بعد آلام وجروح.

ولكنه وهو في طريق العودة، نزل ليستحم في النهر، جاءت أفعى وسرقت العشبة تلك. فخسر جلجامش الخلود بهذا، ذاك نتيجة تفريطه واستهتاره إلى حد ما، وشعر، متيقناً وحزيناً، أن مصير الإنسان، ولا بد، الفناء.

أهمية ملحمة جلجامش

خلص الباحث الأثري العراقي، الراحل طه باقر، إلى أن ملحمة جلجامش، والتي كان قد ترجمها من لغاتها الأصلية، ودرسها بعمق وتفصيل ودقة، أقدم نوع من أدب الملاحم البطولية في جميع الحضارات، وأنها أطول وأكمل ملحمة عرفتها حضارات العالم القديم، وليس هنالك ما يقرن بها أو ما يضاهيها من آداب الحضارات القديمة، قبل الإلياذة والأوديسة في الأدب اليوناني، اللتين ظهرتا بعدها بثمانية قرون.

لا تزال هذه الملحمة، التي دونت قبل أكثر من أربعة آلاف عام، مثار اهتمام واسع على الصعيد العالمي. إذ استوحت منها كل شعوب العالم، إبداعات شتى، مع اعتماد صياغات أدبية حديثة لحكاية الملك جلجامش، تحتفظ للنص الأصلي بعناصره الأساسية ومخزونه الثقافي الحضاري.

وكل شعب يرى في هذه الملحمة، جذور وصور تراثه في حيثيات وحقول تساؤل الإنسان وسعيه إلى الخلود، هذه الفكرة الكونية التي تخص الجميع بلا استثناء. وهكذا ظهرت المسرحيات والأفلام والأعمال الأوبرالية والمسرحيات الإذاعية، التي تنهل من هذا الينبوع الساحر، ذاك كون الملحمة تحتوي على جميع عناصر الحياة.

ويرى متخصصون، أن الملحمة تلك، تمثل وثيقة إنسانية كونية بامتياز، حملت لنا عبر العصور والأزمنة المتعاقبة، علامات بارزة في الابتكار والتوليف والسرد والبناء الدرامي والإيحاء الرمزي، التي كان يتمتع بها الكاتب العراقي القديم. كما أنها عكست لنا بأسلوب فني شيق، وببراعة مدهشة، شواغله الوجودية ورؤيته للحياة والموت والجمال والخير والعدل.

ويقال إن الفراغات في النص، تعطي مسحة من الغموض والإبهام الجليل الملهم والمستفز للخيال والإبداع، وكأن الملحمة تريد من خلال هذا البياض، أن تدفع القراء إلى إكمال النواقص.

تمتد وتتشعب ملحمة جلجامش لتبلغ مستويات رفيعة في رحاب عوالم الفكر والفلسفة، بشتى صنوفها. إذ يجد فيها الفلاسفة، البعد الصوفي الهيغلي، تحديداً ضمن شخصية جلجامش، وكذلك البعد الفاوستي والفرويدي.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا