احتل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (1889 – 1973) مركز الصدارة في العالم العربي في القرن العشرين، فقد كان بحق مالئ الدنيا وشاغل الناس. ويرجع ذلك لأسباب عدة لعل أهمها أنه هتك حجب الممنوع وأشرف على مساحات في الوعي العربي ظلت من المسلمات أو المسكوت عنها تحت هيمنة السلطتين السياسية والدينية، وهما تسوغان ما يحفظ مصالحهما البحتة، إضافة إلى قدرة لا حدود لها على المواجهة والمناورة بأسلوب ساحر مشوق يجمع بين عمق الفكرة ونصاعة البيان وقدرة على حشد الأشياع والمريدين.
لقد كان العميد سليلا شرعيا للشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801 – 1873) والشيخ الأزهري الآخر الذي بث بتعبير الدكتور لويس عوض (1914 – 1990) أقوى لغم من ألغام الديمقراطية الليبرالية في مصر أولا وفي العالم العربي ثانيا فقد كانت مصر السباقة إلى كل جديد.
وها هو العميد يسجل بقلمه السلس وأسلوبه الرائع مظاهر الجمود والتخلف في رائعته “الأيام” والتي تكتسي أهمية عظمى في توثيق الحياة الاجتماعية والسياسية لمصر في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وإذا كان الطهطاوي قد سجل مشاهدات وانطباعات شرقي يعيش في باريس في الثلث الأول من القرن التاسع عشر في “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، فسوف يصبح ذلك الكتاب ضياء تنبلج به الأصباح وجسرا للتواصل الحميم بين الشرق والغرب، تماما كما سوف تصبح سيرة طه حسين الذاتية جزءها الثاني.
لا مرية أن عميد الأدب العربي مدين في مشواره العلمي لمبادرة محمد علي باشا ولبعثاته العلمية التي أثمرت في النهاية الجامعة المصرية الحديثة يعلم فيها المستشرقون ولفيف من أبناء مصر الذين تعلموا في أوربا تعليما حديثا كأحمد لطفي السيد مترجم “فن الشعر” لأرسطو إلى اللغة العربية والذي اكتشف مواهب طه حسين وطموحه فيسر له بعد ذلك السفر إلى فرنسا للاستزادة من العلم وتوجت تلك الجهود بشهادة الدكتوراه عن الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون.
لقد كان طه حسين مدركا لنشر كتاب عن الشعر الجاهلي في ظل وجود سلطة دينية وصية على النص لها شرعيتها التاريخية في اللاوعي الجمعي المقهور والذي يعني رهابا وفصاما وهي يمكنها بجرة قلم تكفير رأي أو إهدار دم ولكن لا مفر من نشر الوعي وبذر بذور الفكر العلمي واحتمال الأذى بصبر وأناة ولقد كانت تجربة مريرة أن يعزل الكاتب من منصبه ويحاصر في بيته ويعير بعاهته ونظرا لقوة التحالف القائم بين السلطتين السياسية والدينية وإدراكهما للخطر المحدق بهما نتيجة بذر بذور التجديد والتغيير والاختلاف والشك الذي هو طريق إلى اليقين اضطر الكاتب إلى حذف فقرات أسخطت الساخطين عليه وهيجت المتظاهرين ولكن لا تراجع عن الكتاب وعن مبدأ الشك.
ربّما كان لغياب الفكر التنويري لفترة طويلة أثره الفعّال على مفهوم التنوير ذاته، حيث أصبح مراوغاً وزئبقياً، لا تستطيع معه أن تضع تعريفاً جامعاً مانعاً يمكن الاهتداء به في مواجهة كلّ الدعوات التي تقلل من شأن العقل في مواجهة الأزمات، وتقلل من شأن الاجتهاد حين يكون ضرورياً، ولذلك كان استحضار جواب التنوير عند طه حسين أمراً ضرورياً.
والتنوير لفظ يستدعي فور سماعه العقل والنور؛ يشير الأول إلى الثاني إشارة السبب إلى النتيجة، ويشير الثاني إلى الأول إشارة المعلول المتعدد الأبعاد إلى العلة الواحدة المتجددة. وهذا الترابط بين العقل والنور موجود في اللغة الإنجليزية التي صاغت من دلالة النور Light صيغة الفعل ينير enlighten. ومصدره التنوير، أو الإنارة enlightment. ولا تختلف هذه الدلالة الاشتقاقية في اللغة الفرنسية عنها في اللغة الإنجليزية أو الألمانية أو غيرها من اللغات الأوروبية. ولكنّ اللغة العربية قد سبقت غيرها في استعارة النور للمعرفة، ووصلت بين فعل المعرفة الإنساني ودلالة النور([2]). وهو في السياق الدلالي عند كانط “خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حقّ نفسه، وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر. ويجلب الإنسان على نفسه ذنب هذا القصور عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار إلى العقل، بل إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام العقل بغير توجيه من إنسان آخر. لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك! ذلك هو شعار التنوير”([3]). وعند مراد وهبة: “التنوير لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه”([4]). بينما يرى جابر عصفور أنّ التنوير “هو منح الأولوية للعقل في إدراك الوجود، وإبداع العالم، والنظر إلى العقل البشري بوصفه النور الذي يهتدي به الإنسان، ويصوغ به عالمه، متحرراً من أشكال الوصاية التي تحجر على العقل أو تقيد انطلاقه…، واقتران نور العقل بحرية الإنسان وحقه في اختيار فعله الخلاق وممارسته، في كلّ مجالات الفعل المعرفي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وذلك في مواجهة طوائف أخرى استبدلت بالعقل النقل، وبالحرية العبودية، وبالاختيار الجبر، وبالعدل الظلم، وبالمعنى العقلاني للتوحيد المعنى القمعي المفروض على الجماعة”([5]).
وحول هذه المعاني لمفهوم التنوير كان معناه عند طه حسين، فقد كانت حياته من بدايتها إلى نهايتها كفاحاً دائباً في سبيل الحريّة والتحرّر والانطلاق، والقدرة على استخدام العقل بعيداً عن كلّ أشكال الوصاية والتبعية. فقد كان دائماً في سعي حثيث دؤوب للابتعاد عن كلّ ما من شأنه أن يحدّ من الحرية والانطلاق والإبداع، في جميع المجالات الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية؛ إذ إنّ حرية الفكر والعقل ـ وهما أداتا الإبداع والابتكار ومصدر التنوير- هي الوجه الآخر للحرية السياسية، كما أنّها في الوقت ذاته هي السبيل المُعَبَّد للوصول إلى هذه الحرية السياسية والحفاظ عليها([6]). والكتابة أيّاً كان شكلها وقصدها عند طه حسين هي عملية تنويرية، لأنّها تطرح دائماً سؤال التنوير؛ سؤال الذات والعقل والتاريخ والثقافة والتعليم واللغة والخيال، وهي إذ تطرح فنّ السؤال تخلخل فكرة المعرفة بما هي حد، وتزحزح فكرة الحد بما هو معرفة، فتزعزع الحسّ اللغوي العام الزائف الذي يُدشن جميع صور الحقيقة في الثقافة والمجتمع، ومن ثمّ تخلخل فكرة الواقع بما هو نص، والنص بما هو واقع، فالكتابة مغامرة بانية، وزحزحة أصيلة، وخلخلة مؤسسة مشيدة، والكتابة إذ تطرح أسئلة اللغة والجمال تطرح في الآن نفسه أسئلة الذات والوجود والحريّة والحداثة والحضارة([7]).
ومن ثمّ ينجلي معنى التنوير عند طه حسين في الدعوة إلى العقلانية، وإعمال العقل، والتأكيد على الإبداع الذاتي للعقل في علاقته بالماضي والحاضر، أو في موقفه من “ميراث الأنا” و”إنجاز الآخر”. فالتنوير عند طه حسين عبارة عن وعي نقدي يُمَكِّن صاحبه من التوفيق بين الوافد من لدن الآخر المتقدّم، وبين الموروث الذي يمثل الهويّة الذاتية. ولذلك لا يمكننا القول إنّ طه حسين نسي الموروث الإسلامي ودوره في بناء الحضارة المنشودة، بل عمل على تعديله ونقده ليتخلص من كلّ الشوائب التي لحقت به فجعلته أقرب إلى الخرافات والأساطير.
فإذا كان التنوير في حاجة إلى العقلانية فهو أيضاً في حاجة إلى الحريّة التي هي أهمّ لزوميات التنوير، ولإحداث التنوير المنشود لا بدّ من إعادة النظر من منظور تنويري إلى موقع الحريّة في بلادنا، وحال التعليم، وواقع الثقافة، والعلاقة بين الدين والعلم، وحقيقة الموقف من مدنية الدولة….إلخ. وهذا ما سنلمحه جليّاً عند طه حسين.
اعتبر طه حسين قضية الحريّة مفتاحاً للتنوير، فلا تنوير بلا حريّة، ولا حريّة بلا تنوير، ولذلك كانت الحريّة مسألة أصيلة لديه، ملكت عليه كلّ أموره، ووقف عليها حياته، وصار شغفه بالكتابة مرهوناً بها، فهو القائل: “كلّ الناس يعلمون أنّ الأدب لا قيمة له إذا فقد الحريّة”([8])، فجاءت كتاباته ممارسة للحريّة، وتعميقاً للواقع بحثاً عن أصوله الدفينة، ورمياً إلى تغييره وتجاوز محنه ومشكلاته، فقد حلم بمجتمع سوي يستردّ وجهه الأصيل ممّن شوّهوه، وينتشل قيمه من مستنقع اللاقيم الذي فرض عليه التردي فيه، مجتمع يحيا فيه ويعمل ويأمل ويبدع إنسان سوي، يجد القدر المعقول من الحريّة والعدل، ويؤمن بقيمة العلم وسيادة القانون ويبتعد تماماً عن الجهل والتخلف والهوان والفوضى. ومن ثمّ نجده في جلّ كتاباته يجعل الحرية هدفه ومقصده، فيقول في مقدمة كتابه القيَّم “على هامش السيرة”: “وأحبّ أن يعلم الناس أيضاً أنّي وسعت على نفسي في القصص، ومنحتها من الحرية في رواية الأخبار، واختراع الحديث ما لم أجد به بأساً، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي، أو بنحو من أنحاء الدين، فإنّي لم أبح لنفسي في ذلك حرية ولا وسعة، وإنما التزمت ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث، ورجال الرواية وعلماء الدين”([9]).
وهكذا هو منهجه في الحرية، ليست هي الحرية الفوضوية، ولكنّها الحرية المسؤولة، والحرية المحدودة بحدود قواعد الدين، وما أثبته الثقات من رواة السيرة والحديث، وما ارتضاه علماء الدين الأكفاء. فإذا كانت الحرية لازمة من لوازم الإبداع فإنها تقف عند حدود ولا يجوز لها أن تتخطاها، حيث يقول: “فإذا اتصل الخبر بشخص النبي فإنّي أردّه إلى مصدره ليستطيع من شاء أن يرجع إليه، لا أحتمل في ذلك تبعةً خاصة، لأنّي لا أذهب فيه مذهباً خاصاً، إلا أن يكون تبسطاً في الشرح والتفسير واستنباط العبرة والوصول بها إلى قلوب الناس”([10]).