يرتبط مفهوم العبودية عند الكثير منا بمرحلة تاريخية عابرة شهدت عمليات استقدام الأفارقة عبر المحيط الأطلسي إلى القارة الأمريكية على متن السفن القادمة من القارة الأفريقية عبر المحيط الأطلسي إلى الأمريكيتين لبيعهم في المستعمرات الأوروبية في العالم الجديد واستخدامهم للعمل في مزارع البن والقطن والكاكاو ومناجم الذهب والفضة وفي صناعات البناء والعمل في المنازل. إلّا أن الاسترقاق لا يقتصر على مرحلة واحدة فقط من التاريخ بل تعود أصوله إلى أوائل المجتمعات البشرية، وما يزال مستمر حتى يومنا هذا.

نظرة عامة 

يمكن تعريف العبودية بأنها امتلاك شخص ما لشخص آخر، وحرمانه من أحد أهم حقوقه، الحق في الحرية. في عام 1981، أصبحت موريتانيا آخر بلد في العالم يمنع العبودية بشكلها التقليدي، وتم بذلك القضاء على الاسترقاق (على الورق) في كافة أنحاء العالم. أما على أرض الواقع، فالأمر مختلف إلى حد بعيد، إذ من الممكن تصنيف العديد من الممارسات، كالاعتقال السياسي وتجنيد الأطفال بالحروب وعمالتهم والزواج القصري والاستغلال الاقتصادي على أنها من أشكال العبودية الحديثة، كما أن الاسترقاق التقليدي، المتمثل ببيع وشراء وتوريث العبيد، لا يزال موجودًا في بعض دول العالم، ولكن بصورة غير قانونية. 

تنص المادة الرابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما يلي: «لا يجوز استرقاق أي شخص أو استعباده، ويحظر الرق وتجارة الرقيق بجميع أشكالها». مع ذلك، كشفت دراسة وضعتها منظمة العمل الدولية ومنظمة «ووك فري» بالاشتراك مع منظمة الهجرة الدولية عن أن عدد ضحايا العبودية الحديثة في العالم في عام 2016 فاق 40 مليوناً. وقد أرفقت منظمة العمل الدولية الدراسة بتقديرات عن عمل الأطفال أكدت أن نحو 152 مليون طفل بعمر 5-17 عاماً عرضة لعمل الأطفال. كما أظهر التقرير أن العبودية الحديثة أشد وطأة على النساء والفتيات فتؤثر على قرابة 29 مليوناً منهن أي 71% من إجمالي ضحاياها. وتمثل النساء 99% من ضحايا العمل الجبري في صناعة الجنس 84% من ضحايا الزواج القسري. 

تاريخ العبودية 

بدأت ظاهرة الاسترقاق مع تحول المجتمعات البشرية من الاعتماد على الصيد إلى الاعتماد على الزراعة المنظمة. يتناول كتاب «قصة الحضارة»، للمؤرخ والفيلسوف الأمريكي، ويل ديورانت وزوجته أريل ديورانت، كيفية تحول الإنسان من المساواة التامة في الجماعة البشرية حين كان نشاطه الاقتصادي الأساسي متمثلًا بالرعي أو الصيد، إلى المدنية مع توجهه للاعتماد على الزراعة التي قامت على مبدأي الاستعباد والملكية الخاصة. يرى ول ديورانت أن الصائد كان يعتمد على نفسه في تأمين الطعام الكافي له ولأسرته الصغيرة، ولم يكن بحاجة إلى فم إضافي لمساعدته، لكن، ومع تجمع الناس في البلدات والمدن وتأسيس المجتمعات البشرية، أصبح من الضروري تأمين كميات أكبر من الغذاء، وظهرت عندها الحاجة للأيدي العاملة، فلجأ البعض للاسترقاق كوسيلة لتوفير هذه الأيدي العاملة. يقول ديورانت: «وضعت الزراعة أسس المدنية، لكنها، وإلى جانب انتهائها إلى نظام المَلَكية، انتهت إلى نظام الرق الذي لم يكن معروفا في الجماعات التي كانت تعتمد في حياتها على الصيد الخالص».

مظاهر العبودية في القرن الواحد والعشرين

1 – العبودية التقليدية لم تختفِ بعد

لا تزال العبودية بمفهومها القديم أي «تملك الشخص لشخص آخر» موجودة في موريتانيا وعدة بلدان أخرى تقع غربي القارة الأفريقية، وقد لاقت الجهود الساعية للقضاء عليها بشكل نهائي في العقود الأخيرة فشلًا ذريعًا.

تقول المنظمة الدولية المناهضة للعبودية إن ما يصل إلى 600 ألف رجل وامرأة وطفل يعيشون في حالة استعباد في موريتانيا، وهي نسبة تصل إلى 20% من السكان، وتمثل هذه النسبة أعلى نسبة عبودية متوارثة في العالم، فيما يعيش ما يقرب من 500 ألف شخص آخر تحت وطأة العبودية الحديثة أو في ظروف تشابه ظروف العبودية.

2 – الاسترقاق في الوظائف

أصبحت الوظيفة المعاصرة في البلدان الرأسمالية الحديثة تعرف على أنها استقطاع لوقت الشخص لصالح مؤسسة أو شركة أو شخص ما مقابل تقاضي أجر معين أو مردود متفق عليه. يرى  كارل ماركس أن هذا النوع من الوظائف ما هو إلا تغير في شكل العبودية، من الاسترقاق الزراعي التقليدي إلى التوظيف، ويقول: «كان الناس في السابق يشترون العبيد ويؤجرونهم، أما اليوم، فقد أصبحنا نؤجر أنفسنا بأنفسنا»، ويقول الفيلسوف والناقد الثقافي الألماني، فريدريك نيتشه: «اليوم، وكما كان الوضع دائما، ينقسم الناس إلى مجموعتين: عبيد وأحرار. ومن لا يملك ثلثي يومه لنفسه فهو عبد، أيا ما كانت وظيفته: رجل دولة، رجل أعمال، موظف، أو عالم». 

3 – عمالة الأطفال

بعيدًا عن الوظائف التي قد يختلف الناس في تصنيفها على أنها عبودية حديثة أم توظيف عادل، يُرسل الآلاف من الأطفال في هاييتي بشكل سنوي للعمل كخدم في المنازل فيما يعرف باسم نظام ريستافيك لعجز الأهل عن تأمين أبسط مستلزماتهم، وغالبًا ما يحرم هؤلاء الأطفال من التعليم، ويجبرون على العمل لمدة تصل حتى 14 ساعة يوميًا، ومن الممكن لهم أيضًا أن يقعوا ضحايا للاعتداء الجنسي. 

4 – ظروف عمل لا تختلف العبودية

تسبب زيادة الاستهلاك العالمي الهائل للسلع الإلكترونية بتفاقم أعداد العمال في مناجم «كولتان» في جمهورية الكونغو الديمقراطية، الذين يعملون بظروف أقرب ما تكون للاستعباد، بحثًا عن الذهب، والكولتان، والموليبدنوم، والنيوبيوم، والقصدير، التي تدخل في صناعة السلع الإلكترونية التي تعتمد عليها أهم شركات الإلكترونيات والتكنولوجيا على مستوى العالم.
وفقًا لمنظمة «أنقذوا الأطفال»، يعمل ما بين 5 إلى 6 آلاف طفل في صناعة تعدين الكولتان، ويحيط بهم حراس مسلحون يمنعونهم من الهروب، في حين يذهب جزء كبير من ربح هذه التجارة لتمويل حرب الميليشيات القائمة وسط إفريقيا. 

5 – تجنيد الأطفال

تتشابه العبودية الحديثة مع العبودية التاريخية باستخدام العبيد في الجيوش خصوصًا الأطفال. يعود سبب انتشار محاولات زج الأطفال في الحروب إلى سهولة تخويفهم والسيطرة عليهم ولقابليتهم لإبداء الولاء لرموز السلطة وللأفكار «المقدسة» ولسهولة استقطابهم من خلال إطلاق وعود زائفة. تستغل الميليشيات في مختلف أنحاء العالم هذه السمات عند الأطفال لتدريبهم على حمل السلاح دفاعًا عن أفكار أو شخصيات معينة.

عرفت وثيقتا مبادئ باريس والتزام باريس في عام 2007 الطفل المجند بأنه كل طفل دون سن الثامنة عشر رتبط بقوة أو بجماعة مسلحة عسكري وكان أو لا يزال مجنّدا أو مُستخدَما بواسطة قوة أو جماعة عسكرية في أي صفة، بما في ذلك على سبيل المثال وليس الحصر، الأطفال والغلمان والفتيات الذين يتم استخدامهم كمحاربين أو طهاة أو حمّالين أو جواسيس أو لأغراض جنسية. جُند في عام 2019 وحده، وفقًا لتقديرات منظمة اليونيسيف، ما يقرب من 300 ألف طفل حول العالم من قبل جماعات إرهابية في نزاعات مسلحة، تدور رحاها على أراضي 30 دولة حول العالم.

خاتمة

مع اختفائها من دساتير وقوانين جميع أنحاء العالم في عام 1981، لم تنتهِ مظاهر العبودية حتى يومنا هذا، ومع أن مظاهر العبودية وبيع وشراء وتوريث العبيد قد انتهت بشكل رسمي في كل بلدان العالم، إلا أنها لا تزال تُمارس في بعض بلدان غربي أفريقيا عمومًا وفي موريتانيا خصوصًا، كما أنّ مفهوم العبودية الحديثة اليوم يشتمل على العديد من الممارسات الأخرى التي قد تكون أنت أحد ضحاياها. 

المصادر: 

  1. Haiti’s Restavec Slave Children: Difficult Choices, Difficult Lives…Yet…Lespwa fe Viv, by Janak, Timothy C, International journal of children’s rights. London: Children’s Rights Publications Foundation. Vol. 8, No. 4 (2000)
  2. Slavery was never abolished – it affects millions, and you may be funding it, October 17, 2018 4.16pm BST.
  3. The Concept of Modern Slavery: Definition, Critique, and the Human Rights Frame, by Janne Mende.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا