كثيرًا ما نسمع من يحاجج بتغير وتبدل النظريات العلمية وحل الجديد منها محل القديم لتبرير رفضه اتباع المنهج العلمي ، وعادة ما يستخدم هؤلاء مثال فيزياء نيوتن التي ظلت تعتبر حقيقة مطلقة لقرنين من الزمن، حتى جاء آينشتاين ووضع نظريات جديدة غيرت من فهمنا للكون وأثبتت أن فهم نيوتن لفيزياء الكون كان محدودًا. فهل حجج هؤلاء منطقية؟ وإذا كانت الحقيقة العلمية نسبية وقابلة للتغيير فكيف يصفها البعض بأنها مطلقة؟ ولماذا علينا إذًا أن نثق بالمنهج العلمي؟
المنهج العلمي
المنهج العلمي هو الأسلوب التجريبي لاكتساب المعرفة. ميز هذا الأسلوب تطور العلوم الطبيعية منذ القرن السابع عشر على الأقل. ويقوم المنهج العلمي على مجموعة من الخطوات، هي:
- الملاحظة.
- السؤال والبحث.
- الافتراض.
- التنبُؤ وفقًا للافتراض.
- الاختبار.
- ملاحظة النتيجة وإصلاح الفرضية لتتوافق مع نتائج الاختبار.
إعادة الخطوات من 4 إلى 6 عدة مرات حتى تتطابقَ الفرضيات مع النتائج.
بعد اتباع خطوات المنهج العلمي، تصبح النظرية إطار عمل تفسر من خلالها المشاهدات. يعد عدم التحيز الميزة الأهم للنهج العلمي، فلا داعي لنا أن نمنح ثقتنا للباحث، فبإمكان أي شخص أن يعيد التجربة والتأكد من صحة نتائجها (في حال توافرت له الأدوات اللازمة لذلك).
هل الحقائق والقوانين العلمية الناتجة عن اتباع المنهج العلمي نسبية أم مطلقة؟
الحقائق العلمية ليست نسبية، وإنما مطلقة في إطارها الخاص، تصدق على الظواهر وتفرض نفسها على كل عقل وبهذا المعنى تكون مطلقة. فعلى سبيل المثال، حقيقة أن جزيء الماء يتكون من ذرتي هيدروجين وذرة أوكسيجين واحدة، لا تنطبق على المياه التي أجريت عليها الدراسة فقط، بل أي مياه على الإطلاق، وهذه الحقيقة موجهة لجميع الأشخاص، وليس فقط للأشخاص الذين أجريت التجربة (أو الاختبار) أمامهم. مع ذلك من الممكن لصناعة الماء الثقيل مخبريًا أن يجعل من الحكم العلمي السابق حكمًا نسبيًا، لا بمعنى أنه يتغير من شخص إلى آخر بل بمعنى أنه يصدق فى إطاره الخاص. والقوانين العلمية ليست مطلقة بل نسبية، مع أن معظم المعرفة العلمية تكون دائمة. فتعديل الأفكار بدلًا من رفضها هو المعيار الأساسي للعلم، حيث تميل البُنى القوية إلى البقاء والتطور بشكل أكثر دقة وأكثر قبولًا. على سبيل المثال، عندما قام آينشتاين بصياغة قوانين النظرية النسبية لم يتجاهل قوانين الحركة النيوترونية، بل أظهرها على أنها مجرد تقريب للتطبيق المحدود ضمن مفهوم أكثر شمولية.
في المنهج العلمي ، يتم اختبار النظريات أو تحسينها على الدوام وبصورة مستمرة، سواءً كانت هذه النظريات قديمة أو جديدة. ويفترض العلماء أنه حتى لو لم يكن هناك مجال للوصول إلى الحقائق الكاملة والمطلقة، لكن يمكن القيام بتقديرات تقريبية متزايدة الدقة لتفسير ما يحصل حولنا وكيف يحصل.
هل تُخلق الحقائق العلمية بالتجربة، أم أنها موجودة بالفعل مُسبقاً؟
مثال: اختلاف أشكال المواد في الطبيعة.
بشكلٍ عام هناك ثلاث حالات رئيسية للمادة الصلبة والسائلة والغازية. ظهرت في العقود الأخير أشكال جديدة للمادة، بما في ذلك البلازما والمواد فائقة التوصيل والمواد الطبولوجية وغيرها، فهل كانت هذه المواد موجودة مسبقًا؟ أم أنها وجدت من خلال التجربة؟
نشأت هذه المواد نتيجة تعريض المواد الثلاث الرئيسية لظروف معينة. فعلى سبيل المثال: الموصلات الفائقة؛ هي مواد مقاومتها للتيار الكهربائي تقترب من الصفر المطلق عند تبريدها إلى درجات حرارة منخفضة للغاية، حيث تسمح الموصلات الفائقة بمرور الكهرباء خلالها دون أي مقاومة كهربية تقريباً. فلو لم نكشتف طريقة لتبريدها للصفر المطلق، لما كانت موجودة بالفعل، ولا يعني ذلك أنها غير موجودة.
هل يقبل العلم الشك؟
العلم لا يقبل إلا الشك، وبالرغم من أن هناك الملايين من المعلومات والحقائق الثابتة، والاكتشافات الحديثة المدهشة، إلا أنها لا يمكن أن تكون مطلقة، ويمكن أن نلخّص الحكاية بمجموعة من النقاط:
- العلم قائم على وضع النظريات والفرضيات واكتشافات وقوانين وحسابات رياضية صحيحة دائماً، إلا أنه ليس ثابتاً بمرور الزمن، فمن الممكن أن تتغير المفاهيم في لحظةٍ ما مع الوصول إلى اكتشاف جديد ما.
- يتمتع النهج العلمي بمرونة تعتمد على التجارب، ووضع القوانين الحديثة التي تُساهم في العثور على إجابات متعددة، وهو الأمر الذي سهل المهمة أمام الباحثين في إطلاق العنان لأبحاثهم بدلاً من تضييق المجال على أنفسهم بالتمسك بالاكتشافات القديمة.
- حتى الآن لم يتم العثور على كافة الأشياء -أو حتى جزء كبير منها- التي يمكن أن تتواجد في عالمنا، فهناك المزيد من الأسرار التي لم تُكتشف، ولم تفسر، ولم يظهر لها أي بوادر حتى لنبدأ عملية البحث فيها. لذا يجب أخذ وجود نواقص كثيرة في أي معلومة نتلقاها بعين الاعتبار.
ما الذي يدفع الناس للتشكيك بنتائج الأبحاث القائمة على المنهج العلمي ؟
نرى اليوم العديد من الناس، بمن فيهم السياسيين وحتى رؤساء البلاد يعبرون علنًا عن شكوكهم حيال صحة النتائج العلمية، وفي نفس الوقت، تعرب المؤسسات العلمية عن قلقها المتزايد بشأن تراجع الثقة بالعلم، فما السبب وراء ذلك؟
أجرى عالم الاجتماع الأمريكي غوردون غاوتشات بحثًا حول ارتباط الشك بالعلوم والتوجه السياسي، وخلص البحث إلى أن المحافظين السياسيين في الولايات المتحدة الأمريكية أقل ثقة بالعلم. وقد أظهرت مجموعة من الأبحاث الحديثة التي أجراها علماء النفس الاجتماعي والسياسي أن التشكيك في تغير المناخ على وجه الخصوص يوجد عادةً بين أولئك الموجودين على الجانب المحافظ من الطيف السياسي.
كما عمل مجموعة من الباحثين في علمي الاجتماع في جامعة كارنيغي ميلون في ولاية بنسلفانيا الأمريكية على فهم حالة التشكيك في نتائج الأبحاث العلمية، وخلصت أبحاثهم إلى ما يلي: «تمثل حالة عدم اليقين جزءًا طبيعيًا من البحث القائم على المنهج العلمي ، لكن، عند إسقاطها على العامة، يمكن استخدام حالة الشك بشكل انتقائي لرفض وتشويه النتائج غير المرغوب بها أو لتأجيل اتخاذ إجراءات معينة على المستوى الشخصي أو على مستويات أعلى في حال كان المشكك في موقع مسؤولية».
خاتمة
يبنى الاستنتاج في النهج العلمي بغض النظر عن الحالة النفسية أو الذهنية للعالم وبغض النظر عن آرائه الشخصية ومعتقداته، وبالتالي، لا يمكن رفض نظرية ما أو قبولها إلا من خلال التجربة وإعادة التأكد من النتائج. أما المعرفة العلمية فهي متغيرة، ولكن تغيرها يتم بشكل تراكمي، أي إضافة الجديد إلى ما هو قديم، ومن ثم فإن نطاق المعرفة التى تنبعث من العلم يتسع باستمرار كما أن نطاق الجهل الذي يبدده العلم ينكمش باستمرار.
العلم اليوم يتطور بوتيرة أسرع بكثير من ذي قبل، فإذا أخذنا أحد مناحيه، علوم البرمجة على سبيل المثال، سنجد أن هناك تطورات ونقلات نوعية يومية في هذا المجال، وقس على ذلك كافة العلوم، ليس العلوم الفيزيائية أو الكيميائية أو البيولوجية فحسب، بل كافة العلوم على الإطلاق. ومن هنا لم يكن انتقال العلم الى مواقع جديدة على الدوام علامة من علامات النقص فيه وإنما يكمن النقص فى النظرة التي ترى أن العلم الصحيح هو العلم الثابت والمكتمل.
المصادر:
- Broomell, S. B., & Kane, P. B. (2017). Public perception and communication of scientific uncertainty. Journal of Experimental Psychology: General, 146(2), 286–304. doi:10.1037/xge0000260
- Certainty vs. Uncertainty: Understanding Scientific Terms About Climate Change. (n.d.). Retrieved February 26, 2017.
- What makes people distrust science? Surprisingly, not politic