من منّا لم يشهد تقلّبات في حالة بعض الأشخاص ممن مرّوا في حياته؟

كأن يكون لديك صديق يتّسم بالطيبة والنزعة السلميّة، ما يلبث حتّى ينقلب به الحال ليصبح في حالة وحشية، وعدوانية وذو نزعة قتالية.

لقد تعددت صور عدوانية الإنسان وأشكالها، وتشابكت مع الكثير من المتغيرات والدوافع، وبالتالي تعددت معها النظريات التي تسعى لتفسير هذا السلوك العدواني؛ وبرغم أن علماء الإنسان لم يجدوا تفسيرًا دقيقًا حتى الآن لهذا التحوّل، يذهب البعض ليقول بأن عدوانية الإنسان هي صفة متأصلة في النفس البشرية، ومُقرّرة بيولوجيًا وموجودة في جيناتنا، وتؤثر على مراكز المكافأة في أدمغتنا، في حين يتجه البعض الآخر فيرى عدوانية الإنسان على أنها ظاهرة طارئة، اكتسبها في حياته بفعل مرارة الظروف، أو الحرمانية، أو كيفية معاملة وسطه المحيط، كأن يكون مُعنّفًا وبالتالي يصبح العنف مُكتسبًا بالتقليد.

لكن حتى هذه النظريات قد لا تكون مُبرَرة بحد ذاتها..

ألا يمكن إيجاد بعضًا من أولئك الأشخاص يتحدّرون من شرائح اجتماعية تتمتع بالرفاهية ورغد العيش، دون مصاعب ولا حرمان؟

في حالة البشر، إن ذكاءنا ناتج عن حقيقة أن أدمغتنا أكثر تعقيدًا بكثير من أدمغة أقرب أقربائنا (الشمبانزي). إذ يمتلك البشر القدرة على اختيار الطريقة التي سيتصرفون بها، بينما يتصرف الشمبانزي بدافع الغريزة. وإن المقصد هنا بالقدرة على الاختيار هو إمكانية اختيار البشر للتصرف بالطريقة التي تخدمهم أو تفني وجودهم! إذ نرى مثلًا كيف اخترع البشر الطب لإبقاء الناس على قيد الحياة، في حين اخترعوا أسلحة دمار شامل التي من شأنها أن تفني وجودهم كتدمير ذاتي. 

وهذا هو السبب في أن البشر فقط لديهم حضارات وقوانين لمعاقبة السلوك السيء. وهو السبب أيضًا وراء اختيار البشر لوسيلة الانتحار (سلوك التدمير الذاتي النهائي).

إذًا، ما اللغز الكامن وراء عدوانية الإنسان وانطلاق نزعته التدميرية؟ وهل فعلًا عدوانية الإنسان غريزة فطرية، أم قد تكون رد فعل اكتسبناه؟

لتحليل هذا الأمر اتجه الباحثون في عدة اتجاهات  بيولوجية، ونفسية، واجتماعية.

  • بيولوجيًا: صُنّف البشر من بين أكثر الأنواع عنفًا

خلصت دراسة أجريت في عام 2008 إلى أن البشر يتوقون إلى العنف تمامًا كما يفعلون مع الجنس أو الطعام أو المخدرات. ووجدت الدراسة، التي نشرت في مجلة Psychopharmacology، أنه في الفئران، تقف مجموعات من خلايا الدماغ المشاركة في مكافآت أخرى أيضًا وراء شغفها بالعنف.

يعتقد الباحثون أن هذا الاكتشاف ينطبق على أدمغة البشر، إذ يحدث العدوان بين جميع الفقاريات تقريبًا وهو ضروري للحصول على موارد مهمة والحفاظ عليها، مثل الحصول على زملاء أو أراضٍ، أوطعام.

وبحسب أراء الباحثين المشاركين في الدراسة؛ فقد وجدوا بأن مسار المكافأة في الدماغ يصبح منخرطًا في الاستجابة لحدث عدواني، وأن للدوبامين علاقة بالأمر أيضًا، فضلًا عن تطوّر السلوك العدواني في الأنواع التي يزيد فيها من بقاء الفرد أو تكاثره، لكنه في الوقت ذاته يعتمد على الظروف البيئية والاجتماعية والإنجابية والتاريخية المحددة للأنواع.

  • نفسيًا: عدوانية الإنسان قد تكون موجهة للخارج، لكنها في الوقت ذاته تتزايد نحو الداخل لتتناهى عند أقصى حد بالموت!

إن السجلات التاريخية مليئة بالأحداث والحروب منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا، فضلًا عن حوادث الإعتداءات وتعنيف الأفراد والجماعات التي لا يمكن إحصاءها. وإذا ما أضفنا إليها الممارسات التي تُجسّد عدوانية الإنسان في استهدافه ممتلكات أقرانه واستهدافه لسلامة الشعوب، وأخرى التي تستهدف الإيذاء النفسي بكل أنواعه، يتبين لنا بوضوح بأن ظاهرة العنف والعدوان هي أكثر الظواهر السلوكية الملازمة للإنسان على مرّ العصور.

يرى عالم النفس «فرويد» أن جميع الأفراد لديهم دافع أو نزعة عدوانية، لكن وحده الشخص السوي من لا يُعبّر عن دافعه العدوانيّ تجاه الآخرين، أو حتى تجاه نفسه. واعتبر فرويد عدوانية الإنسان بأنها ذات منشأ داخلي، وتستمر في ضغطها إلى الحد الذي يتطلّب تفريغها، لكننا قد نجد في بعض الحالات أن تفريغ هذه الضغوطات قد يتغلّب على الضوابط الدفاعية التي عادة ما تكبحها، وبالتالي يُطلق العدوان تلقائيًا، وهنا يُطرح سؤال آخر:

ماذا سيحدث إن كتمنا دافعنا العدوانيّ؟

بحسب فرويد، يجب أن تُفرّغ طاقة الشخص العدوانية بشكل أو بآخر، بدلًا من كبتها، وذلك خوفًا من وصولها لحد القتل أو الانتحار، لكن ليس بالضرورة أن تُطلق هذه الطاقة باتجاه تنفيذ عدوانٍ ما، إذ يمكن إزاحة عدوانية الإنسان عن مسارها الخطير، والقيام بنشاطات اجتماعية مثلًا كالرياضة والفن، وغيرها.

يتضّح من تفسير فرويد لعدوانية الإنسان إلى أنها طاقة ودافع غريزيّ يزداد ويضغط داخل الفرد، وإذا لم تُفرّغ تلك الطاقة، عن طريق تطهير الذات Catharsis Dactrive بالتعبير عن العدوان من خلال سلوك مقبول اجتماعيًا، يُعرف بالتعلية Sublimations أو الإزاحة Displacement، نحو هدف بديل مقبول اجتماعي مسخّر للحياة، ستتضخم وتُسخّرللموت بدلًا من ذلك.

يختلف نقّاد التحليل النفسي مع رؤية فرويد، كونه أعطى وزنًا للغريزة الفطرية أكثر مما يجب، في حين كان يجب عليه إبراز المتغيّرات السيكولوجية والاجتماعية التي تلعب دورًا هامًا في تشكيل الشخصية، وطالما أن عدوانية الإنسان ليست سلوكًا عامًا، فإنها ليس غريزة ولا حاجة فزيولوجية كالجوع والعطش، إذ يشترك جميع البشر في حاجاتهم الفيزيولوجية للأكسجين والطعام والشراب، لكنهم يختلفون في السلوك العدوانيّ.

  • عدوانية الإنسان وارتباطها بالإحباط

يمتاز الإنسان بطبيعته الطموحة، وإصراره على تحقيق أهدافه، فإذا ما فشل مرة في تحقيق ذلك، أُصيب بحالة من الإحباط، يعزز هذا الشعور لديه دافع التحدّي الذي من شأنه أن يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنزعة العدوانية والتدميرية.

كثيرًا ما نوقشت تلك النظرية بين الحكماء والمربّين، لذا لا يمكن اعتبارها افتراضًا جديدًا، لكن أول تأكيد على أن الحالة العدوانية ناتجة عن الإحباط عند فشل تحقيق هدف ما، كان من قِبل Dollard, J., Miller، في النطرية المُسمّاة (الإحباط والتعدّي) عام 1939، أي أن الإحباط من شأنه أن يؤدي للتمرّد.

تطرّق كثير من الباحثون إلى هذه المسألة، وتوسعوا في آفاقها لتشمل دوافع أخرى، مثل الضغوطات، والخذلان، لكن أحدث الأبحاث أفادت بأن ارتباط عدوانية الإنسان بالإحباط ليس ثابتًا، كأن يؤدي الإحباط إلى ممارسة العنف دومًا، وأن العدوان لا يأتي دومًا كنتيجة للإحباط، فليست كل الأمور المحبطة عنيفة، ولا العنف محبطًا.

  • اجتماعيًا:

يعزو الباحثون في المجال الاجتماعي السلوك المرتبط بعدوانية الإنسان، إلى طبيعة ونوع الثقافة السائدة في المجتمع، بالإضافة لما يتفرّع عنها من ثقافة الأسرة والمجتمع الذي يعيشه الفرد، ويرون بأن بعض العوامل الاجتماعية السائدة، تساعد على شيوع العدوان واكتسابه، كالصراعات، أو التغييرات الاجتماعية المفاجئة –كالهجرة الداخلية مثلًا-، والتغييرات الاقتصادية وما يترتب عنها من مشاكل. وهنا يتعزز السلوك بفعل تلك العوامل، نتيجة للتعرض لمثلها، والتعلّم من نماذجها.

نرى في المقابل، أن لهذا السلوك المكتسب أهمية خاصة، إذ يمكن أن يؤدي إلى التحكم بالعدوانية في الحياة الاجتماعية، عن طريق الحدّ من العوامل التي تساعد على اكتساب العنف وإثارته. 

تمهّد هذه الرؤية الطريق أمام امكانية السيطرة على العنف والعدوان وهذا ما يُعيدنا لفكرة ارتباط العدوانية بالمكافأة.

  • عدوانية الإنسان وارتباطها بمركز المكافأة في الدماغ

كثيرًا ما يُربط بين العدوان والمكافأة، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن العدوان، كممارسة، ينشأ من المكافأة، وإنما يفيد بأنه يمكن التأثير على المحفّز للعدوان عن طريق نتائجه. وتبعًا للنطريات التي تبحث فيما يترتب على أسلوب المكافأة من إيجابيات وسلبيات، فإن عدوانية الإنسان لا بد لها وأن تتأثر بدرجة وطبيعة المكافأة التي يحصل عليها نتيجة عدوانه، كأن يوقن الشخص بأن العدوانية ستوفّر له المكافأة وتمنحه السيطرة، وتخوّله الوصول أرقى المراكز الاجتماعية. 

 مصادر:

  •  Geller, J.(2009). “Of Snips… and Puppy Dog Tails”: Freud’s Sublimation of Judentum. American Imago66(2), 169-184. The Johns Hopkins University Press. Retrieved April 6, 2012, from Project MUSE database
  • Dollard, J., Miller, N. E., Doob, L. W., Mowrer, O. H., & Sears, R. R. (1939). Frustration and aggression. Yale University Press.
  • https://www.livescience.com/14152-destructive-human-behaviors-bad-habits.html
  • Merriam-Webster’s Encyclopedia of Literature. Merriam-Webster. 1995.
  • Sigmund Freud, ‘Civilization and Its Discontents‘ (1930) in The Standard Edition Of The Complete Psychological Works of Sigmund Freud – The Future of an Illusion, Civilization and its Discontents, and Other Works, trans. by James Strachey (Hogarth Press; London, 1961), vol. XXI, 79–80
  • علاقة حجم الأسرة بالاعتمادية والعدوانية لدى الأطفال (1990)- الهيئة المصرية العامة للكتاب

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا