في 24 فبراير 2022، شنت روسيا بقيادة فلاديمير بوتين حربًا ضد دولة مجاورة ذات سيادة، وصُنفت كجريمة ضد السلام وفقًا لاتفاقية محاكمة ومعاقبة كبار مجرمي الحرب في المحور الأوروبي وميثاق الولايات المتحدة. استيقظ العالم على أخبار الانفجارات في مواقع مختلفة من أوكرانيا وحاول أن يفهم البيان المتلفز والمنتشر على نطاق واسع من قبل بوتين، إذ غزت القوات العسكرية الروسية والطيران الروسي أراضي أوكرانيا من عدة محاور. لم يفهم الكثير أسباب هذه الحرب ولا الأسباب المؤدية إليها، ولكن يبدو أن جذور الخلاف الروسي الأوكراني أقدم من ذلك بكثير.

شهدت العلاقات بين روسيا وأوكرانيا مجموعة من الاضطرابات والتصعيد، ويعود تاريخهما المشترك إلى أواخر القرن الثامن عشر على الأقل، عندما أصبحت المنطقة- التي تسمى الآن أوكرانيا- جزءًا من الإمبراطورية الروسية بعد فترات وقعت فيها تحت حكم المغول والبولنديين والليتوانيين. أعلنت أوكرانيا استقلالها في عام 1918، بعد عام واحد من الثورة الشيوعية في روسيا، لكن الجيش الأحمر استولى في النهاية على معظمها في عام 1921، وحوّل أوكرانيا إلى جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي.

بلغ الأمر ذروته عندما عاقبت السياسات القاسية والقمعية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية المزارعين الذين تحدوا الأوامر الجماعية، وحصلت مجاعة هولودوكور «وباء الجوع»، الكارثة التي أودت بحياة 7 ملايين شخص، والتي زادت من إحساس الأوكرانيين بالهوية الوطنية في ثلاثينيات القرن العشرين، وافضت في نهاية المطاف إلى استعادة أوكرانيا لاستقلالها مع انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991.

كان لكل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا، طموحات مختلفة حول مستقبل أوروبا الشرقية، إذ أرادت روسيا أن يكون لها مجال نفوذ، وأراد الاتحاد الأوروبي جوارًا أوروبيًا مهيمنًا وموحدًا، وأرادت أمريكا أن تكون لاعباً رئيسياً في الحفاظ على المجتمع الأوروبي الأطلسي.

تطورت العلاقات بين الغرب وروسيا، في أعقاب «الثورة البرتقالية» في عام 2004 وما تبعها من إعادة توجيه السياسة الخارجية لأوكرانيا تجاه الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، خصوصًا خلال رئاسة فيكتور يوشينكو. في فبراير 2008، عارضت روسيا الاعتراف المدعوم من الغرب بإعلان استقلال كوسوفو، ووصفته بأنه انتهاك للقانون الدولي يقوض النظام الحالي للعلاقات الدولية، وبعد عدة أشهر، سلط الرئيس الروسي، دميتري ميدفيديف، الضوء على سابقة كوسوفو وغزو التحالف بقيادة الولايات المتحدة للعراق باعتبارهما مثالين قوضت خلالهما الدول الغربية القانون الدولي. تضمنت قضايا الخلاف الرئيسية بين روسيا والغرب إعلان قمة الناتو في بوخارست بشأن أوكرانيا وجورجيا في أبريل 2008 وخطط الدفاع الصاروخي الأمريكية في أوروبا.

بعد الأزمة الجورجية، وقع صدام آخر كبير بين الغرب وروسيا مرتبط بالطموح الروسي المتزايد بتحولها لمركزٍ للتكامل الإقليمي السياسي والجمركي والاقتصادي. إذ أوضح بوتين، عندما كان رئيسًا للوزراء عام 2011، الطموح الروسي لخلق سوق إقليمي بتشريعات موحدة وحرية تنقل رأس المال والخدمات والعمالة. اختلف الاتحاد الأوروبي مع روسيا عام 2013 حول مشاريع التكامل الإقليمي المتنافسة التي تشمل أوكرانيا، وسرعان ما تصاعدت هذه الخلافات وتحولت إلى حرب تجارية بين أوكرانيا وروسيا خلال صيف وخريف عام 2013.

حكم الرئيس فيكتور فيدوروفيتش يانوكوفيتش، وأنصاره من منطقة دونيتسك، أوكرانيا بين عامي 2010-2014. حاول بانوكوفيتش المناورة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بحثًا عن مكاسب سياسية، وخلق الأمل بين السكان للتوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، لكنه فشل في الحصول على ضمانات من أوروبا بتقديم مساعدات مالية كبيرة كتعويض عن الأضرار التي ستعانيها الصناعة الأوكرانية نتيجة للتقارب الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي. في نوفمبر 2013، علق يانوكوفيتش بشكل غير متوقع عملية توقيع لاتفاقية شراكة سياسية واقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، وتلقى مساعدات مالية واقتصادية سخية  من بوتين في ديسمبر من نفس العام.

أدى قرار تعليق الحكومة التحضيرات لتوقيع اتفاقية الشراكة واتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي إلى اشتعال احتجاجات حاشدة في وسط كييف أطلق عليها فيما بعد احتجاجات الميدان الأوروبي Euromaïdan، خرج خلالها ما يزيد عن 800,000  متظاهر إلى الشوارع. كان معظم المتظاهرين من الناس العاديين الفقراء وتأثروا بشدة بالفساد المستشري في أجهزة الدولة، الذي شاركت فيه أسرة يانوكوفيتش أيضًا، وقد بدا الارتباط مع الاتحاد الأوروبي وسيلة للخروج من الوضع في ذلك الوقت بالنسبة لهؤلاء المواطنين، وكان إغلاق الباب أمام أوروبا بمثابة صدمة لهم.

لم تكن الأحداث في أوكرانيا في البداية محور تركيز الإدارة الرئاسية الأمريكية، لكنها دعمت منذ البداية الحركة المؤيدة للغرب في أوكرانيا وكانت حذرة من خطط الكرملين للتكامل الأوراسي. قدمت الولايات المتحدة المساعدة لزعماء المعارضة اليمينية والغربية وشجعت جهودهم علانية، لمنع أوكرانيا من دخول مجال النفوذ الروسي.

أوقف رئيس أوكرانيا هجوم الشرطة على المتظاهرين، وبدأ حوارًا مع قادة المعارضة سرعان ما تحول إلى مفاوضات حول تقديم حكومته لمجموعة من التنازلات، لكنها انتهت في 21 فبراير 2014 باستسلام الرئيس. فر بعدها يانوكوفيتش من كييف، واختفت الشرطة من الشوارع، وكان بإمكان مثيري الشغب في الميدان الأوروبي الاحتفال بانتصارهم. بدأت أوكرانيا بتحويل نفسها إلى دولة يقودها تحالف من النخب الموالية للغرب والقوميين المناهضين لروسيا والفاشية والمعادين للسامية. وبحسب الكرملين، فإن هذا التغيير كان محفوفًا بتهديدين، أولًا: قمع اللغة والثقافة والهوية الروسية في أوكرانيا، وثانيًا: انضمام البلاد إلى الناتو. كان الهدف الرئيسي لروسيا هو منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو، والسعي لإعادة توجيهها لصالح مشروع التكامل الأوروبي الآسيوي، الذي كان العنصر الأساسي فيه هو إعادة توحيد ما يسمى «بالعالم الروسي».

حققت روسيا هدفها الأول في حماية شبه جزيرة القرم من خلال عزلها عن البر الرئيسي لأوكرانيا وتحييد القوات الأوكرانية في شبه جزيرة القرم بالقوات الخاصة الروسية ومساعدة العناصر الموالية لروسيا على فرض سيطرتها على الحكومة المحلية والبرلمان ووكالات إنفاذ القانون. أجري استفتاء حول إعادة توحيد شبه جزيرة القرم مع روسيا، في 16 مارس 2014، وجاء بأغلبية كبيرة لصالح إعادة التوحيد، ثم وُقّع اتفاق في موسكو بشأن ضم شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول إلى الاتحاد الروسي.

في عام 2014 بدأت القوات الروسية إجراء تدريبات على الحدود الأوكرانية، ما أعطى مؤشرات على استعدادها للغزو، لكنها لم تعبر الحدود. بدأ السكان الناطقون بالروسية في جنوب وشرق أوكرانيا مظاهرات جماهيرية تطالب بالحكم الذاتي الإقليمي والوضع الرسمي للغة الروسية، وبدأت المليشيات المنظمة باحتلال المباني الإدارية والسيطرة على المدينة. أجرت مجموعات الميليشيات استفتاءات إقليمية في أوائل مايو 2014 وأعلنت عن إنشاء جمهوريات مستقلة عن كييف في منطقتي دونيتسك ولوغانسك. لم تخف روسيا دعمها للانفصاليين، لكنها امتنعت عن الاعتراف بالجمهوريات وإرسال قوات روسية لحمايتها.

أطلقت الحكومة الأوكرانية المؤقتة «عملية لمكافحة الإرهاب» في منطقتي دونيتسك ولوغانسك، ما أسفر عن خسائر كبيرة في كلا الجانبين وأزمة إنسانية، لكنها لم تؤد إلى تدخل عسكري روسي.

لم تعترف روسيا بشرعية الحكومة المدعومة من الميدان الأوروبي، رغم أنها لم ترفض الاتصال بممثليها، بينما قدمت الولايات المتحدة الدعم السياسي إلى كييف بدعاية واسعة، وزعمت وسائل الإعلام الروسية أن الولايات المتحدة هي التي توجه تصرفات السلطات الأوكرانية.

اتخذت روسيا عددًا من الإجراءات الدبلوماسية لحل الأزمة في أوكرانيا، لكنها لم تسفر عن أي نتائج، إذ ظل إعلان جنيف الصادر في 17 أبريل 2014 وخريطة الطريق الصادرة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) في 8 مايو 2014 حبيس الورق.

أجريت انتخابات رئاسية مبكرة بنجاح في أوكرانيا في 25 مايو 2014، وفاز بيترو بوروشينكو الداعم للميدان الأوروبي بكرسي الرئاسة. وفي غضون أسابيع، أدت الإجراءات، المتخذة ردًا على تصرفات روسيا، إلى تغيير جذري في طبيعة العلاقة بين خصوم الحرب الباردة السابقين. تسببت سياسة روسيا بحدوث رد فعل سلبي للغاية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، إذ اعتُبرت روسيا معتدية وطُردت فعليًا من مجموعة الثمانية، وقلل الاتحاد الأوروبي اتصالاته مع روسيا وجمد الناتو التعاون معها. علق الوفد الروسي مشاركته في أعمال الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، وتباطأت عملية انضمام روسيا إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها لاحقًا، عقوبات على المسؤولين والشركات الروسية التي تغطي قطاعات كاملة من الصناعة الروسية. أدت موجات العقوبات اللاحقة، جنبًا إلى جنب مع العزلة السياسية المتزايدة المفروضة على روسيا، على الفور إلى انخفاض حاد في سوق الأوراق المالية، وهروب جماعي لرؤوس الأموال، وانخفاض سعر الروبل. نُظر إلى روسيا كخصم للغرب، وكثّف الناتو جهوده «لإبعاد الروس» وتحول النشر المؤقت لوحدات غربية صغيرة في بولندا ورومانيا ودول البلطيق إلى قواعد دائمة لقوات الناتو بما في ذلك القوات الأمريكية على الحدود الشرقية للحلف. وهكذا قُدم الوجه الجديد للحلف في قمة الناتو الحاسمة في ويلز في سبتمبر 2014.

شكل كل ماسبق مقدمات للحرب الروسية على أوكرانيا، وفي عام 2022، أعلن بوتين انتهاكًا آخر للقانون الدولي باعتراف روسيا بما يسمى بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين في 21 فبراير.

ردت إدارة بايدن في الأشهر التي سبقت الغزو، على التهديد المتصور بالهجوم الروسي على أوكرانيا بقرار نقل عدة آلاف من القوات الأمريكية لتعزيز الجناح الشرقي لحلف الناتو وزيادة المساعدة العسكرية الأمريكية لأوكرانيا. وبعد الحرب المدمرة، واجهت الجبهة الدبلوماسية قائمة من المطالب الروسية التي لم تترك مساحة كبيرة للتسوية، بما في ذلك إلزام أوكرانيا بالحياد، والالتزام بعدم الانضمام إلى الناتو، والاعتراف بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم، والاعتراف باستقلال ما يسمى بجمهوريات لوهانسك ودونيتسك الشعبية.

ستظل السنوات العديدة من فشل المصالحة وبناء السلام والقضاء على التطرف والديمقراطية في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي على قائمة نتائج المجتمع الدولي، ومن الواضح أيضًا عدم الاقتراب من مستقبل سلمي دون تغيير السرديات والمعتقدات التي استخدمت لإضفاء الشرعية على الحرب، وبدون بناء نظام جديد قائم على القواعد ونظام أمني.

في الختام، للصراع الأوكراني الروسي جوانب عدة تاريخية وسياسية واقتصادية وثقافية. تغيرت ديناميكيات القوة بين البلد بمرور الوقت، ولكن، كانت حوادث ضم شبه جزيرة القرم والثورة الأوكرانية والتهديد بانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو أهم الأحداث الحديثة التي تسببت بتأزم العلاقة بين البلدين وشن اروسيا لحربها العسكرية على أوكرانيا. لا يزال الوضع بين البلدين اليوم في غاية التأزم، وسيتطلب حل النزاع الحالي مقاربة متعددة الأوجه تأخذ بعين الاعتبار وجهات نظر الطرفين بهدف حقن دماء المدنيين الروس و الأوكرانيين وإنهاء النزاع الضارب في التاريخ.

المصادر:

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا