لطالما كان موضوع بيع الجسد، الدعارة ، البغاء، أو تقديم الخدمات الجنسية مقابل المال من أكثر المواضيع جدلية على مر التاريخ، إذ يرى البعض أن لكل شخص الحرية بالتصرف بجسده، وأن تقديم الخدمات الجنسية مقابل المال أخلاقي طالما لم يُجبر الطرف البائع (البالغ والواعي) على الممارسة، بينما يرى آخرون ضرورة في إدراج عملية دفع المال لقاء الخدمات الجنسية في قائمة الجرائم التي يعاقب عليها القانون لعدة أسباب، من بينها الآثار النفسية السلبية التي تعود على البغايا ولكونها تمثل شكلًا من أشكال العنف ضد المرأة وانتهاكًا لحقوقها، إضافة لأسباب أخرى دينية. فرض بعض المشرّعين على مر التاريخ عقوبات على جميع أطراف عملية بيع الخدمات الجنسية، بينما شرع مشروعون آخرون العملية، وقننوها. سنتطرق في مقالنا هذا للموقفين، ونترك الحكم للقارئ.

لمحة عن مشروعية البغاء في التاريخ

تعود أقدم المخطوطات التي تتحدث عن الدعارة كمهنة للسجلات السومرية التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد. من الممكن للبغاء، وفقًا لهذه المخطوطات، أن يكون مرتبطًا بخدمة المعبد، ولذلك، كانت الدعارة في العهد السومري مشروعة ومقبولة، وظلت على هذا الحال حتى القرن الثامن عشر قبل الميلاد في عهد الملك البابلي، حمورابي، في الذي قنن الدعارة وعاملها كمهنة مشروعة.

في اليونان القديمة، انخرط كل من الرجال والنساء في مهنة الدعارة، ويعود أصل كلمة porn في اللغة الإنجليزية إلى كلمة porne (Gr: πόρνη) اليونانية المشتقة من فعل pernemi، الذي يعني البيع. كانت مهنة الدعارة في اليونان القديمة منظمة بشكل عام، وكانت بائعات الهوى مطالبات بارتداء نوع مميز من الملابس، وكنّ يدفعن الضرائب. أسس رجل القانون، صولون، أول بيت دعارة في أثينا في القرن السادس قبل الميلاد، وبنى، من الأموال التي جمعها من التجارة بالجنس، معبدًا مخصصًا لآلهة الحب والجمال والنشوة الجنسية، أفروديت. لم تكن نظرة المجتمع اليوناني القديم لبائعات الهوى دونية، بل كان يُنظر إليهن على أنّهن يمارسن مهنة قانونية، ويقدمن للمجتمع خدمات ضرورية. بالمقابل، ازدرى المجتمع اليوناني القديم الذكور العاملين بالدعارة لتشبههم بالنساء، وذلك لأن عملاءهم كانوا من الذكور بشكل حصري تقريبًا.

رسم لبائعة هوى يونانية مع أحد زبائنها على إناء يوناني يعود تاريخه إلى عام 430 قبل الميلاد، موجود في المتحف الأثري الوطني في أثينا.
رسم لبائعة هوى يونانية مع أحد زبائنها على إناء يوناني يعود تاريخه إلى عام 430 قبل الميلاد، موجود في المتحف الأثري الوطني في أثينا.

كانت الدعارة في الإمبراطورية الرومانية قانونية وشرعية وواسعة الانتشار، وكان للرجال ذوي المكانة الاجتماعية المرموقة الحرية في استخدام البغايا من الجنسين دون تعرضهم لأي اعتراض أخلاقي بشكل عام. مع ذلك، نظر المجتمع الروماني للبغايا نظرة دونية، كما حرم القانون الروماني البغايا من الحماية التي أمنها لباقي فئات المجتمع.

حظر الملك لذريق الدعارة في إسبانيا في القرن السادس ميلادي لتعارضها مع القيم الكاثوليكية، وفرض عقوبتي الجلد أمام العامة والنفي على كل فتاة أو امرأة أدينت بممارسة مهنة الدعارة. بالمقابل، لم تكن عمليات شراء الخدمات الجنسية غير قانونية، ولم يعاقب قانون الملك لذريق أي عملاء من الذكور.

جاء الدين الإسلامي ليحرم الدعارة بشكل مطلق، وأشير إليها في القرآن بكلمة البغاء، وهناك العديد من الآيات القرآنية التي تحرم الدعارة، ويمكن أن تصل عقوبة ممارسي البغاء، وفقًا لبعض الفقهاء، إلى الإعدام رميًا بالحجارة، في حال كانوا متزوجين.

مع استقرار المجتمع الإسلامي في دولة حضرية، ظهرت آفاق اقتصادية جديدة، وأصبح الجنس في العصر الأموي عنصرًا أساسيًا من عناصر حالة الرفاه التي عاشها قاطنو الدولة الأموية، وانتشرت بيوت الدعارة في عاصمة الدولة الأموية. في العصر العثماني، أصبحت الدعارة مهنة مباحة ومقننة وتُفرض عليها الضرائب لصالح خزينة الدولة المركزية، وخضع العاملون فيها للرقابة الشرطية الرسمية. بدأت شرعنة مهنة الدعارة في الدولة العثمانية مع إصدار السلطان سليمان القانوني قانون الغجر في عام 1531 بهدف إخضاع القبائل الغجرية داخل الإمبراطورية العثمانية لإرادة الدولة، لأن الدعارة كانت واحدة من أبرز المهن التي امتهنتها النساء الغجريات في العصر العثماني، ولتحقيق أكبر استفادة مالية ممكنة من المهنة الموجودة أصلًا، حتى لو تعارضت مع أحكام الشريعة الإسلامية التي كانت مصدرًا للتشريع في الإمبراطورية العثمانية.

اتسم الموقف من الدعارة في العصور الوسطى بالتقلب، إذا رأى بعض الملوك بالبغاء سقوطًا أخلاقيًا، وحظروا كل أشكال الدعارة، وعاقبوا البغايا بالجلد في بعض الأحيان، وبالإعدام في أحيان أخرى، بينما ولاها ملوك آخرون أهمية قصوى، إذ أعلن المجلس الكبير لمدينة البندقية في عام 1358 ميلادي، أنه من «من غير الممكن إطلاقًا الاستغناء عن الدعارة». أنشأت إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر ميلادي العديد من بيوت الدعارة الممولة من الحكومة، وأعطت بائعات الهوى حقوق النساء العاديات حتى أصبحن في بعض الأحياء قادرات على التأثير على الظواهر السياسية من خلال مشاركة آرائهن السياسية مع عملائهن.

ظلت الدعارة في الولايات المتحدة الأمريكية شرعية فيدراليًا، وكانت منظمة من قبل الدولة فقط، حتى عام 1910. في عام 1900، أنشأ مجموعة من المواطنين الأمريكييين «اللجنة 15» لمناهضة الدعارة والمقامرة في نيويورك. اقترحت اللجنة في تقريرها الصادر في عام 1902 مجموعة من التوصيات للقضاء على الدعارة، كان من بينها تقديم تحسينات للسكن والرعاية الصحية وزيادة أجور النساء.

أصدر الكونغرس الأمريكي في عام 1910، قانون مرور الرقيق الأبيض الذي جرم عمليات نقل النساء والفتيات عن عمد عبر حدود الولاية أو عبر الحدود الفيدرالية من أجل استغلالهن للعمل بالدعارة أو بأي «أعمال غير أخلاقية أخرى»، كما جعل من إكراه النساء والفتيات على ممارسة أفعال غير أخلاقية جريمة فيدرالية.

بدأت السويد في عام 1999 منهجًا جديدًا للتعامل مع الدعارة، إذ أصدرت قوانين جرمت فيها عملاء الخدمات الجنسية وسماسرة الجنس، بينما أبقت على شرعية دفع الأموال مقابل الخدمات الجنسية. ظهرت في العديد من دول العالم ضغوطات داخلية لتبني نفس النموذج ما دفع النروج وآيسلندا لتطبيقه بحذافيره في عام 2009، وبات هذا الأسلوب بالتعامل مع الدعارة يعرف باسم «النموذج الشمالي». سعت الدول الثلاثة من خلال اتباعها لهذا النهج إلى تحقيق المساواة بين الجنسين، والتقليل من طلب الخدمات الجنسية مقابل المال حتى إنهائه بشكل كامل.

اتفاقية حظر الاتجار بالأشخاص واستغلال دعارة الغير

خلال القرن العشرين، ومع انتشار مفاهيم الفردانية وحقوق الإنسان، أصبح ينظر إلى الدعارة بشكل عام على أنها مهنة تنتهك حقوق الإنسان، وتتسبب بالأذى النفسي للبغايا، وانتشرت عدة حركات على مستوى العالم للمطالبة بتجريم العمل بها.

في شهر ديسمبر 1949 وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على اتفاقية قمع الاتجار بالأشخاص واستغلال بغاء الغير ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في 25 يوليو 1951، واعتبرت الدول الأطراف في الاتفاقية الدعارة «لا تتفقق مع كرامة الإنسان وقدره ويهددان رفاه الفرد والأسرة والمجتمع».

حلّت الاتفاقية محلّ عدد من الاتفاقيات السابقة التي غطت بعض جوانب الدعارة القسرية. يتحمل الموقعون ثلاثة التزامات رئيسية بموجب الاتفاقية هي: حظر الاتجار بالبشر، واتخاذ تدابير إدارية وتنفيذية محددة، واتخاذ تدابير اجتماعية تستهدف الأشخاص المتجر بهم.

أبدى عدد من الدول التي صادقت على الاتفاقية تحفظات على إحالة المنازعات إلى محكمة العدل الدولية، فيما لم تصدق دول أخرى على الاتفاقية بسبب اعتراضها على بعض موادها. إذ رفضت دول مثل ألمانيا وهولندا ونيوزيلندا واليونان التوقيع على الاتفاقية لاعتبارها الدعارة الطوعية قانونية، ولأنها تُنظم فيها بصفتها مهنة.

مشروعية الدعارة اليوم

تعد مواقف حكومات العالم اليوم من الدعارة متنوعة بشكل كبير، وتتراوح بين فرض عقوبة السجن والجلد على المنخرطين فيها، إلى تقنينها ووضع تشريعات لحماية العاملين فيها.

توضح الخريطة أدناه موقف دول العالم من البغاء.

خريطة توضح مشروعية العمل بالدعارة في بلدان العالم اليوم
خريطة توضح مشروعية العمل بالدعارة في بلدان العالم اليوم

يشير اللون الأزرق الفاتح للدول التي لا تفرض عقوبات جنائية على البغاء.

يشير اللون الأخضر للدول التي قننت الدعارة ونظمتها.

يشير اللون الأزرق الغامق للدول التي قننت البغاء لكنها لم تنظمه، وتفرض عقوبات على أنشطة الدعارة المنظمة.

يشير اللون البرتقالي للدول التي لم تقنن الدعارة باستثناء الأعمال الفردية.

يشير اللون الأحمر للدول التي ترفض البغاء بالمطلق وتعاقب عليه بالقانون.

تختلف شرعية الدعارة في البلدان الملونة باللون الرمادي حسب القوانين المحلية.

الحظر:  تعتبر الدول المتبعة لهذا النهج الدعارة غير قانونية (محظورة، وتعد جريمة) بصورة شاملة، وتعد عمليات بيع وشراء الجنس وتنظيمة (عن طريق بيووت الدعارة والقوادين) والحث عليه مقابل المال كلها عمليات ضد القانون. يعد هذا النهج شائعًا جدًا في البلدان شديدة التدين، لا سيما البلدان التي تحظر المواد الإباحية.

النهج الجديد لإلغاء الاتجار بالبشر: تعتبر فلسلفة النهج الجديد الدعارة نوعًا من أنواع العنف ضد المرأة. تعد الجنس أمرًا قانونيًا من الناحية العملية، لكنها وبنفس الوقت تعتبر عمليات شراء وتنظيم الجنس والحث على الحصول على خدمات جنسية مقابل المال أمورًا غير قانونية. لا تُحاكم البغايا عند ضبطهنّ متلبسات في عملهن، ولكن تتم محاكمة زبائنهنّ والقوادين، ووُضعت هذه «الثغرة العكسية» لتقليل الطلب على الخدمات الجنسية للحد الأدنى. اعتمد هذا النهج في دول السويد، والنرويج وآيسلندا.

الإبطالية: هو النهج الأكثر انتشارًا في جميع أنحاء العالم. تعد عمليات بيع الجنس وشرائه غير قانونية بشكل كامل. إضافة إلى ذلك، تعد عمليات الإغواء العلني وتشغيل بيوت الدعارة، والإكراه على هذا النوع من الأعمال محظورة في البلدان المتبعة لهذا النهج بشكل عام.

نهج التقنين: تعد عمليات بيع وشراء الجنس وحتى الترويج له قانونية ومنظمة، إذ تُطالب البغايا بالتسجيل في لوائح حكومية خاصة لضبط عملهن، ويسمح لهن العمل في مناطق معينة فقط.

نهج إلغاء التجريم: تعد عمليات بيع العمليات الجنسية وشرائها وتنظيمها والترويج لها كلا أمور قانونية (أو ببساطة، لم يتطرق لها المشرع على الإطلاق)، ويتطرق لها الحد الأدنى من القوانين التنظيمية، وتعد نيوزيلندا من أهم الدول التي تتبع هذا النهج حاليًا.

قد تمتلك بعض البلدان، بما في ذلك أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية قوانين إضافية تتعلق بالبغاء.

بين الحرية الفردية والعنف ضد المرأة

في شهر أغسطس من عام 2015، صوتت منظمة العفو الدولية لصالح الاعتراف بالدعارة كحق من حقوق الإنسان، وعدم تجريمها في حال تمت بالتراضي بين الطرفين ولم ينتج عنها أي خلافات بينهما، وأكدت المنظمة أن تقديم الخدمات الجنسية مقابل المال ما هي إلا مسألة مرتبطة بحرية الاختيار. تعرضت المنظمة، بعد تصويتها لصالح هذا القرار، للعديد من الانتقادات لتجاهلها (بحسب رأي المنتقدين) الحاجة الاقتصادية الملحة للعاملات في هذا المجال وإكراههنّ على العمل بالجنس من قبل القوادين إضافة إلى الاختلافات الجذرية في ممارسة السلطة المتأتية عن اختلاف الجنس والعرق التي تدوّر عجلة تجارة الجنس، والآثار السلبية طويلة المدى على العاملات بالجنس.

ترى أستاذة علم صحة المجتمع والخبيرة بالاعتداءات الجنسية والعنف، إميلي روثمان، أن لتجريم تجارة الجنس عثرات أخلاقية، لأنه قد يعرض صغار العاملين / العاملات في هذه التجارة لخطر متزايد، بينما ترى بأن «النموذج الشمالي»، الذي يجرم دفع مبالغ مادية لقاء خدمات جنسية والسمسرة الجنسية «يلغي العقوبة عن مقدمي الخدمة الجنسية، بينما يمنع فيه توسع سوق التجارة الجنسية، ويحد بشكل كبير من عدد الأشخاص المتاجَر بهم».

تقول روثمان: «هناك من يرى أن عمل الناس بالجنس لا يختلف كثيرًا عن عملهم بمختلف أنواع الوظائف الأخرى التي لا يطيقونها بسبب الضغوط المالية»، إلا أن العديد من العاملين في البغاء يرفضون هذه المقارنة، إذ يرون اختلافًا جوهريًا بين اختراق خصوصية جسدهم من قبل العملاء والوقوف (مكروهين) خلف ماكينة عد النقود.

في الوقت الذي يمكن فيه لتجريم تقديم الخدمات الجنسية مقابل المال أن يقلل من احتمالية الاتجار بالبشر، من الممكن ألا يضع هذا الحل حدًا لحالة تعرض مقدمي الخدمات الجنسية لخطر العنف والاستغلال في حال تقنينه. إذ، وخلافًا للتوقعات، لم يؤد إضفاء الشرعية على الدعارة في كل من نيوزلندا وهولندا وألمانيا إلى خلق ظروف أكثر أمانًا للعاملين فيه، أو لتأسيس نقابات ناجحة لهم، أو لإزالة وصمة العار عنهم

المصادر:

1- The Origin of Prostitution in Ancient Mesopotamia by Gerda Lerner, and Published By: The University of Chicago Press

2-  Hornblower, S. The Oxford Classical Dictionary. Oxford University Press, 2012

3- Prostitution in Ancient Athens. An article by Joshua J. Mark, published in World History Encyclopedia in 02 July 2021

4- Prostitution, Islamic Law and Ottoman Societies, an article by James E Baldwin, published in Journal of the Economic and Social History of the Orient in 2012

5- Convention for the Suppression of the Traffic in Persons and of the Exploitation of the Prostitution of Others

6- Decriminalizing Prostitution Won’t Solve Social, Ethical Problems. School of Public Health

7- Sex, conditions safer but prostitute stigma remains. An article by Michelle Cooke published in 2012

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا