من النادر أن يخلو أي نقاش سياسي حديث أو أي عملية انتخابية في أي بقعة من بقاع العالم من استخدام أحد الأطراف لمصطلح «الشعبوية» أو الديماغوجية لوصف أساليب تجييش الطرف الآخر لأتباعه وترويجه لأفكاره. فما الذي يعنيه هذا المصطلح؟ وكيف يمكن أن يسيطر المؤثرون على الناس بمحتوى فارغ أو مغلوط، بالاستعانة بأساليب خطابية رنانة بعيدة عن المنطق؟
الشعبوية والديماغوجية
الشعبوية والديماغوجية هما مصطلحان مترادفان ومتداخلان يستخدمان بكثرة في الخطاب الإعلامي والسياسي المعاصر. يشير المصطلحان إلى المحتوى السياسي السلبي المتعلق بالسطحية في التفكير وسيادة العواطف والغرائز واستثارة الجماهير بالاستعانة بعناوين جذابة وبراقة، ويمكن لنا أن نختصر العوامل الأساسية للشعبوية والديماغوجية بما يلي:
- فكرة ديماغوجية أو شعبوية يمكن للجمهور تقبلها.
- جمهور قابل للثوران، ولا سيما في أوقات الشدة أو التعصب.
- قائد كاريزمي أو مجرّد محرّض محرّك.
أصل الديماغوجية
كان اليونانيون القدامى أول من استخدم مصطلح ديماغوجية demagogia لوصف طبقة جديدة من قادة العامة. يتكون المصطلح من قسمين، demos بمعنى الشعب، و agogos بمعنى القائد. كان المصطلح بحد ذاته إيجابيًا ويعبر عن فن الخطابة وموهبة إقناع الناس واستمالة عواطفهم.
كانت أثينا محكومة بالعائلات الارستقراطية المتصارعة التي استعانت بالجماهير لتقوية موقفها، فازداد بذلك نقوذ العامة في الحياة السياسية. خلال القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد تحول بعض أفراد العائلات الارستقراطية إلى مصلحين صاغوا بعض الشعارات الديموقراطية. انقسم الارستقراطيون بعدها إلى معسكرين اثنين، تبنى الأول الشعارات الديموقراطية، فيما رفض الآخر التغيير.
ظهر الديماغوجيون في الديموقراطيات في أثينا القديمة واستغلوا نقطة ضعف أساسية في الديموقراطية لأن السلطة المطلقة موجودة في يد الشعب، ولا شيء يوقف الناس عن إعطاء هذه السلطة لشخص يخاطب العوامل المشتركة بين كثير من الطبقات الأدنى من الشريحة الواسعة من السكان. في نهاية المطاف، تسبب السعي للحصول على دعم الشعب بظهور الديماغوجية كنموذج من نماذج السلوك السياسي، ويمكن العثور على بعض خصائص الديماغوجية في زمن القائد الأثيني البارز كليون (ت 422 ق.ب)، كما يمكن استشفافها من سلوك أريستيدس (ت 465 ق.ب) أحد مؤسسي الإمبراطورية اليونانية، وبيريكليس (ت 429 ق.م) صاحب الإصلاحات الديمقراطية.
تحدث أرسطو عن دور الديماغوجيين في إشعال الثورات في الديموقراطيات اليونانية، وفي مصادرة أموال الارستقراطيين والتعرض لهم والتحريض عليهم، وقال إن كون أي شخص زعيماً للشعب وجنرالاً عسكرياً في الوقت نفسه، فمن المعتاد أن يغيّر الدستور من الديمقراطية إلى الاستبداد. ومعظم المستبدين كانوا زعماء الشعب وجنرالات عسكريين، ولم يكونوا يمتلكون مهارة الخطاب، لكن بعد تطوّر مهاراتهم الخطابية، أصبح الخطباء زعماء مع انعدام الخبرة العسكرية، فلم تكن لهم سلطة على المسائل العسكرية إلا بحدود معينة.
الشعبوية
ظهر مصطلح الشعبوية لأول مرة كمفهوم أكاديمي قبل تحوله للاستخدام العام في سياق المفردات السياسية في نهاية القرن التاسع عشر في روسيا لوصف مرحلة معينة من مراحل تطور الحركة الاشتراكية المحلية. تحدث المؤرخ ريتشارد بايبس عن استخدام مصطلح «شعبوي» لوصف موجة العداء للثقافة التي انتشرت في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، والاعتقاد السائد حينها بأن على الاشتراكيين أن يتعلموا من الشعب أكثر من محاولتهم أن يكونوا أدلّاء له. بعد ذلك بسنواتٍ قليلة، بدأ الماركسيون الروس باستخدام المصطلح بشكل مختلف وسلبي للإشارة إلى الاشتراكيين الذين يعتقدون بإمكانية أن يكون الفلاحون فاعلين أساسيين في الثورة، وأن التقاليد الريفية يمكن أن تكون أسساً يُبنى عليها المجتمع الاشتراكي المستقبلي. هكذا، تحوّل هذا المصطلح في روسيا وفي الحركة الاشتراكية العالمية للإشارة إلى الحركات التقدميّة التي تناهض الطبقات العليا في المجتمعات.
الشعبوية وسايكولوجيا الشعوب
إن التطرق للجماهير وقابليتها للانقياد وراء كاريزما وخطابات القائد هو جزء لا يتجزء من دراسة الشعبوية. يرى لوبون، مؤلف كتاب «سايكولوجيا الجماهير»، أن للجماهير دور سلبي في الحراك السياسي خصوصًا عقب ما شهدته الثورة الفرنسية (1789) من اضطرابات وعنف دموي. يرى لوبون أن الفرد المنخرط في الجمهور لا يعود واعياً بأعماله، وحالته تشبه المنوّم مغناطيسياً. تُدمّر بعض مَلَكاته فيما يستثار بعضها الآخر إلى الحد الأقصى. ويمكن لكل اقتراح أو تحريض أن يمثل قوة طائشة لا يمكن ردها من أجل تنفيذ بعض الأعمال، وأحياناً عندما تتعرض الجماهير لمحرض معين، يمكن لها أن تقترف أبشع الأعمال الدموية. أما الأفراد، محدودي العدد، الذين يملكون شخصية قوية جدّاً ومقاومة، فيحاولون مقاومة المحرّض، لكن جل ما يمكنهم فعله هو محاولة تحويل الأنظار باتجاه آخر عن طريق تقديم حلول مختلفة للجماهير التي قلما تستمع لهم.
يلخّص لوبون خصائص الفرد المنخرط في الجمهور بما يلي:
- تلاشي الشخصية الواعية وهيمنة الشخصية اللاواعية.
- الانقياد بالتحريض وعدوى الأفكار والعواطف.
- الميل لتحويل الأفكار المحرّض عليها إلى فعل وممارسة مباشرين.
يرى لوبون أن الجمهور دائما ما يكون أدنى مرتبة من الإنسان المفرد فيما يخص الناحية العقلية والفكرية، لكن يمكن لهذا الجمهور أن يسير نحو الأفضل أو نحو الأسوأ بالاعتماد على الطريقة التي يحرض بها، ويصفه بالصفات التالية:
- سريع الانفعال.
- متعصب ومستبد وذو نزعة محافظة.
- يحترم القوة ويرفض الطيبة التي يعتبرها أحد أشكال الضعف.
- سيطرة العاطفة على قراراته والابتعاد عن الموضوعية ومحاكمة العقل.
أما الأساليب التي يستخدمها القادة للتأثير في الجماهير فتركز على الترابط الظاهري بين الأفكار، وعلى تعميم الحالات الفردية، وعلى استخدام الصور؛ فالجوانب السحرية والأسطورية من الأحداث هي التي تدهش الجماهير دائماً وتؤثر فيها وليس الوقائع بحد ذاتها.
يتطرق لوبون في كتابه «سايكولوجيا الجماهير» إلى المنحى الإيماني غير الطقوسي في ميول الجماهير من خلال تحويل كل اعتقاد إلى إيمان ديني، إذ غالبًا ما يتحول التعاطف عند الجماهير إلى عبادة، والنفور إلى حقد، ولهذه العاطفة خصائص بسيطة جداً، تتمثل بالخوف من قوة الشخص المُقدّس والخضوع الأعمى لأوامره، والامتناع عن مناقشة أفكاره، والسعي لنشر عقائده، والميل لاعتبار كل من يرفضون تبنّيها أعداء، وسواء أسقطت هذه العاطفة على الإله أو على صنم أو على بطل أو فكرة سياسية، فإنها تبقى ذات جوهر ديني.
القيادة الكاريزمية
للقائد دور هام جدًا بالنسبة للجماهير، فإرادته هي المركز الذي تتمحور حوله الآراء. غالبًا ما يكون القائد شخصاً منبهراً بالفكرة التي تهيمن عليه إلى حدّ اختفاء كل شيء آخر، مع أنه من النادر أن يكون القادة، حسب لوبون، رجال فكر ولا يمكنهم حتى أن يكونوا كذلك، وإنما هم في الغالب رجال ممارسة قليلو الفطنة. لا يفكر أغلب القادة إلا بمصالحهم الخاصة ويعملون على إقناع الجماهير بالعمل لتحقيق هذه المصالح من خلال دغدغة غرائزهم باستخدام الخطابات.
تنمو كاريزما القائد مع نجاحه في إزالة مخاوف أتباعه مختلفي التوجهات ومع ازدياد مرونته في الوصول إلى مختلف التوجهات، على الرغم من تفضيلاته وخصائصه الخاصة. يعمل القادة على إدخال الأفكار والعقائد إلى قلوب الجماهير بأساليب التكرار والتأكيد البعيد عن البراهين و المحاججات العقلانية، ويمكن لعدوى الانقياد وراء القائد أن تنتشر بسرعة بتأثير أحداث معينة. تمتلك الآراء المنتشرة القوة السرية المدعوة بالهيبة (prestige)، وهو المصطلح الذي استخدمه ماكس فيبر في سعيه لدرس العلاقة التفاعلية بين القائد صاحب الجاذبية القوية وأتباعه المنبهرين به، بدلاً من مصطلح الكاريزما ذو المدلول الديني الذي استخدمه لوبون.
خاتمة
دائمًا ما يسعى السياسيون والقادة وأصحاب الأفكار التبيشيرية إلى حشد أكبر عدد ممكن من المؤيدين من حولهم، وغالبًا ما تكون الجماهير –التي عادة ما تتسم بالميل للعاطفة والتأثر بالخطابات الرنانة- متعطشة لتبني آراء من يتمكن من كسب تعاطفها وتأييدها، ليس بالحجة والدليل المنطقي والعقلي، وإنما بالأسلوب الخطابي ودغدغة المشاعر.
المصادر:
- Ernesto Laclau, Populism: What’s in A Name? in Populism and Mirror of Democracy.
- Francisco Panizza, introduction in Populism and Mirror of Democracy, London, New York, Verso, 2005.
- Joseph V. Femia, Against the Masses, Varieties of anti-democratic thought since the French revolution, New York, Oxford University Press.
- The Crowd: A Study of the Popular Mind by Gustave Le Bon.
- Michael Paschen, Erich Dihsmaier, The Psychology of Human Leadership, How to develop Charisma and Authority, Berlin, Springer.
- Chanoch Jacobsen, Robert J. House, The Rise and Decline of Charismatic Leadership, (revised Jan26, 1999).