الإبداع والرقابة الفكرية عند أفلاطون

اتّخذ أفلاطون في نظرياته الفلسفية طابعًا أخلاقيًا واضحًا ورقابة شديدة على الأفكار، مُعتمدًا في ذلك على فكرته في المحاكاة، كالفن مثلًا، إذ توجّب عليه أن يتّصف بصفات الأشياء ذاتها التي يحاكيها، وينبغي أن يخضع للقيود نفسها التي تخضع لها الأشياء في حياة الناس الواقعية. فإذا كنّا في حياتنا نجرّم القتال ونعتبره ضرر في حق المجتمع، فمن الواجب علينا أيضًا أن نمنع الشِعر الذي يمجّد القتال لجعله يبدو أمرًا محببًا للنفوس.

 ولمّا كان الفن والأدب أقرب صلة للانفعال لدى البشر، فتوجّب إخضاعه لقيود تشريعية صارمة كالرقابة عليه، بحيث يُطبّق على الفنّان والأديب نفس الأحكام التي تُطبق على نظيره في الحياة الواقعية، وبهذا يكون أفلاطون أول من وضع تشرّيعات الرقابة على الفن والأفكار الأدبية. لكنه، وبرغم ما يبدو عليه من مظهر سياسي، فإن جوهره يستند على رؤىً عقلية؛ إذا لا يجب أن يقوم الفن على أساس المظهر أو الحِس، وإنما على الحقيقة والعقل، إذ يرى أفلاطون بأن السبيل لتحقيق الحياة الخيّرة لا يصلح إلا في ضوء العقل، فلن تأتي بخيراتها من تلقاء نفسها، أو باختيار لا عقلاني، وبالتالي يجب إخضاع كل ما نقوم به من نشاطات لرقابة العقل، وإن وُجدت أي نشاطات سعت لتقويض دور العقل، فمن الواجب استهجانها أخلاقيًا، لما تحمله من شقاء للأفراد، وعدم استقرار للمجتمع ككل.

ولكن على الطرف المقابل، يمكننا ملاحظة كيف غالى في الرقابة حين تعرّض في كتابه «الجمهورية» لموضوع تربية الشباب، عند إشارته بصورة خاصة إلى ضرورة طرد الشعراء والفنانين من المدينة الفاضلة، لأن ما يُقدّمونه من فنون وشعر، ما هي إلا محاكاة للمحاكاة، أي أن الفن يُقلّد الطبيعة، والطبيعة تُحاكي بظلال وهمية تلك الموجودة في الواقع، فكأنما الفن والشعر تقليد أو محاكاة الشيء المقلد، ولهذا لا يجب أن نجعل منه موضوعًا لتربية الشباب.

قد يُعتبر هذا حكمًا جائرًا من قِبل أفلاطون، لكنه في الواقع لم يُطلقه على كل أنواع الشعر، بل خص برقابته على الشعر التمثيلي، واستثنى منه الشعر الملحمي والتعليمي والغنائي، لأن المحاكاة التي تُقدمها هذه الأنواع هي تعبير صادق عن قيم الحق والخير والجمال، وبخاصةٍ عندما تتخذ موضوعاتها من التغني بأمثلة المجد والبطولة ومدح الآلهة والأبطال، كونها تُرشد إلى المثُل العليا.

أما عن هجومه على الشعر التمثيلي، فقد ندد أفلاطون به لما يُقدم للناس من تصوير لمأساة الأبطال وانهزاماتهم، أو لأنه يُقدم ما يجري من هزل في حياة الناس اليومية، أو لتصويره أحاسيس وانفعالات وشعور الفرد العادي.

وكونهم يغالون في المدح والنفاق بأشعارهم للحكّام بغية الحصول على مزيد من العطاء، بالتالي فإنهم يشعيون الفساد، بإثارتهم حسد الفقراء على الأثرياء، ودفعهم لفئات التجار إلى الشره في اكتناز الأموال ليصبحوا أكثر ثراءً، فتفسد المدينة بانتشار الخداع والغش والتدليس بين سكّانها وتقل جودة الأعمال، والسبب وراء ذلك هؤلاء الشعراء.

نرى من كل تلك الرقابة التي فرضها أفلاطون في فلسفته، بأن الشعر يحتل الصدارة إن اجتمع فيه حسن الصياغة الفنية، والإلهام السامي. وأين سيجد الشعر منبعًا وفيرًا وأرضًا خصبة أكثر من الفلسفة بحد ذاتها؟

أما عن الموسيقى، الآلية منها أو الصوتية، فقد فُرضت عليها الرقابة أيضًا كونها تؤدى مهمة أساسية في الدولة، إذ يعتبرها أفلاطون بأنها حِصن المدينة أو حارستها. وبالتالي لا بد من أن تكون مهذبة وراقية لكي تهذّب الأخلاق. والسبيل وراء ذلك حين تخضعها الرقابة للبساطة المطلقة، وأن يصبح الإيقاع نقيًا إلى أبعد حد، وذلك على نحو يجعل الموسيقى معتمدة كل الاعتماد على السياسة والأخلاق.

وعلى أية حال؛ فقد أزال أفلاطون جميع الفنون التي تتعلّق بالخطابة، وخداع البصر أو الزيف والوهم، لأنها كانت تبدو له غير جديرة بإدراجها تحت مسمى الفن. كما رفض أفلاطون كل أنواع التجديد في الفن، كونه من أشد أنصار الفن التقليدي، ودائمًا ما كان يقف صفًا إلى جانب القدماء في كل معركة تدور بينهم وبين المُحدّثين.

كان للرسم أيضًا نصيب من رقابة أفلاطون، إذ عارض الأساليب الفنية في التصوير التي يتلاشى فيها معنى الصورة الظاهر عند النظر إلى ألوانها عن قرب. ومنه، يكاد يكون الرسم منبع الأخطاء بحسب أفلاطون كونه خادع عن بعد، ومبهم عن قرب

————-

الآن، وإذا ما انتقلنا بالزمن إلى القرن العاشر الميلادي، سنجد اسمًا لامعًا في تاريخ الفلسفة، وهو أبي نصر الفارابي. إذ تطلبت الأوضاع العاصفة في الدولة العباسية في زمنه لأن يستند في فلسفته السياسية إلى الأفكار الهيلينية المتنوعة وتوسع فيها، وخصّ بذلك آراء أفلاطون وأرسطو، وذلك  في استجابة منه للأوضاع المترامية الأطراف للدولة آنذاك، ليُحقق بذلك قدرًا من التوازن لمواجهة ما تتعرّض له الدولة من خلل وظيفي كونها أصبحت نسخة واهنة من نفسها،  حثّ من خلال فلسفته السياسية على الفضائل، والعدل، وسعادة الفرد والمجتمع.

الإبداع والرقابة الفكرية عند الفارابي

طرح الفارابي العديد من الحجج الفلسفية، دعى فيها بالرقابة والتحكم بالإبداع الفكري، في طريق مكمّل الذي بدأه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان في تحريم التجسيد أو التصوير. ولربما يبدو ملاحظًا بأن الخط كان وما زال من أعظم أشكال الفنون الإسلامية، يعود سبب ذلك للنهج الذي تبنّوه الخلفاء سكّ صورهم الشخصية على القطع النقدية إذ قام الخليفة الأموي في أواخر القرن السابع الميلادي، بسكّ عملات معدنية تحوي على رسومات لا تصويرية ولا تجسيدية وإنما مكتوب عليها «أمير المؤمنين»، و«خليفة الله»، ووضعت أولى الزخارف بخط يدويّ على قبة الصخرة لتكون أول نُصب في الإسلام الذي شكّل لحظة انفصال عن التقليد اليوناني الروماني التصويري، وكان للعباسيون الفضل في إضفاء الأهمية على تشرّب الكلام المكتوب واستيعابه، في أعمالهم بالترجمة من اليونانية إلى العربية.

توسع الفارابي لاحقًا بموضوع الرقابة الفكرية لبضع قيودًا جديدة على التمثيل بالكلام، إذ رأى بأن التخيّل اللفظي للرموز والمقدسات الدينية تدنيسًا لها، مستمدًا ذلك من المفاهيم الأفلاطونية الراسخة.

القيود على الكلام
ذهب الفارابي إلى ضرورة فرض قيود على الكلام أيضًا، ليُحافظ على نهج المشروع الإسلامي الكبير المتمثل في الدولة العباسية.

لم يُشكل التمثيل الصوري إشكالًا لدى المسلمين في زمن الفارابي، لأنه وفي عام 632 كان الفن والتعبير الإبداعي مُنقسمان في خطين متوازيين حسب المجال الذي وُضع الفن لأجله، فتجد مثلًا فنًا خاصًا في قصور الأمويين، والمعالم في زمنهم كالحمّامات، وآخر ملائم للأماكن الدينية كالمساجد كقبة الصخرة مثلًا.

إن ما يربط بين الرقابة الفكرية عند الفارابي وأفلاطون، خصوصًا بالفلسفة السياسية، هي وضع نهج ليتّبعه الكتّاب في مؤلفاتهم، لذلك نرى الفارابي يستخدم الحجج الأفلاطونية بفرض الرقابة الفكرية على الكتّاب بدافع المصلحة الاجتماعية للمجتمع. فإذا ما تم التحكّم بالكلمة، سيؤدي ذلك لبناء قاعدة يستند عليها في بناء الهوية الإسلامية، وربما أثر الفارابي في بعض أفكاره على بقية المفكرين المسلمين البارزين، كابن سينا، والغزالي. ومن المؤكد أن الحجج التي طرحها من أجل التحكم في الكتابة الإبداعية قد مهّدت الطريق لإنكار شرعية أي تفسير الجديد.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا