الدول الاسكندنافية بين الماضي والحاضر

شهد تاريخنا المعاصر ذروة حالة التنمية المستدامة في الدول الاسكندنافية فترى كيف أصبحت دول النرويج والدنمارك والسويد، حلمًا لكل من أراد أن يحظى بالعيش الكريم، لكننا إن عدنا بتاريخها إلى زمن ليس ببعيد جدًا، سنرى بأنه يروّعنا بالمجازر البشعة والحروب الدامية، راسمة بذلك صورة من الدماء ارتبطت بسكّانها.

شعوب الفايكنج

استوطنت شعوب جرمانية نوردية مناطق شمال أوروبا، وأُطلق عليهم تسمية (نورثمان) أي الشماليين، واشتهروا بركوب البحر والقرصنة، ويقسمون لثلاثة فروع:

1- النرويجيون ممن احتلّوا أراض من شرق إنجلترا وأيرلندا.

2- السويديون ممن عبروا بحر البلطيق وتوغلو في روسيا.

3- الدنماركيون الذين هاجموا القسطنطينية، وأغاروا شمال المغرب وجنوب الأندلس وإيطاليا.

وامتدت فترة حكمهم من القرن الثامن وحتى القرن الحادي عشر، وعاشوا تحديدًا في بلدان اسكندنافيا (النرويج والسويد والدنمارك)، وعُرف عنهم كثرة تجوالهم وقطعهم البحار لمسافات كبيرة، بهدف الاستكشاف وتوسيع نطاق أراضيهم، وذلك بعد أن كان اعتقادهم السائد آنذاك بأن العالم ينحصر حولهم، ولا وجود لأي عالم وراء البحر.

صوّرت سجلّات إنجلترا في القرون الوسطى شعوب الفايكنج على أنهم ذئاب مفترسون بين الخراف، إذ بزغ فجرهم بمجزرة وحشية قاموا بها في إحدى الجزر الواقعة في شمال شرق إنجلترا، عندما اقتحموا ديرًا وقتلوا المصلين ونكّلوا بالرهبان، وسلبوا مقتنيات الدير الذهبية والفضيّة اعتبارًا منهم بأنها كنوز وغنائم.

كتب فيهم العالم اللاهوتي والشاعر (آلكوين-Alcuin) بعد المجزرة: «لم يحدث من قبل وأن ظهر مثل هذا الإرهاب في بريطانيا كما نعاني الآن من هذا العِرق الوثني، ولم يكن يُعتقد أنه يمكن صنع ممر كهذا من البحر. ها هي كنيسة القديس كوثبرت ملطخة بدماء كهنة الرب، مسلوبة من جميع زخارفها. هذا المكان الأكثر تبجيلًا من كل شيء في بريطانيا، يعطى كفريسة للشعوب الوثنية».

عمل معظم شعوب الفايكنج بالزراعة وتربية المواشي في المرتبة الأولى فكان اقتصادهم الأساسيّ اقتصادًا زراعيًا، وامتهن البعض صيد الأسماك وبناء السفن، وآخرون التجارة، وهؤلاء من جابوا البحار، وبالتالي لعبت تجارة البحر دورًا مهمًا في حياتهم حتى قبل حملات الفايكنغ الهجومية، كانت أسواق أوروبا مهتمة بالسلع القادمة من بحر الشمال والبلطيق، كالخشب والفراء، فضلًا عن تجارة العبيد الذين كانوا يُجلبون غالبًا من المناطق السلافية، وهنا شهدت تجارة العبيد ازدهارًا بين شعوب الفايكنج الذين كانوا يأخذون الناس من الطبقات الدنيا من الجزر الأوروبية التي قاموا بغزوها، ولا فرق إن كانوا رجالًا، ونساءً، وأطفالًا، سيبُاعون كعبيد بأية حال.

ارتبطت المعتقدات الدينية لشعوب الفايكنغ بالأساطير القديمة للدول الاسكندنافية، التي تعود إلى آلاف السنين، وانتهى عصرهم الدموي بعد أن هُزموا على يد بريطانيا عام 1066م، ليبدأ من بعدهم عصور الاستيطان، التي جعلت من شبه الجزيرة الاسكندنافية دولًا مرتبطة بالدين المسيحي، مما ساعد الكثير من رجال الدين المسيحي القادمون من الدول المجاورة الأخرى من نشر دينهم في شتى أصقاع البلاد، لتصبح الديانة الرسمية في شبه الجزيرة.

 بعد انتهاء العصور الوسطى، شهدت المنطقة عديدًا من الانقلابات التي عملت على توحيد الدول الاسكندنافية لتصبح تحت حكمٍ واحد يسمى «اتحاد كالمار-Kalmar Union»، الذي لم يُكتب له الاكتمال نتيجة المعارك التي اندلعت فيما بين دول شبه الجزيرة الاسكندنافية التي عملت على تفكيكه، لتبرز بعدها الدولة السويدية، وتسيطر على العديد من المناطق المحيطة بها. في الوقت الذي كانت فيه الدولة الدنماركية ضعيفة نتيجة استنزاف قوتها بسبب حرب كالمار، ومشاركتها في كل من الحرب العالمية الأولى والثانية.

استطاعت جميع دول شبه الجزيرة الاسكندنافية التي تم استعمارها من النهوض والتطوّر بسرعة لتنتقل من التاريخ الدموي المليء بالحروب، إلى مرحلة حملت معها الطموح الأول للفلاح الإسكندنافي البسيط في الحياة الكريمة، حتى أصبحت مع تقادم الأيام واحدة من الدول الأكثر تطوّرًا في العالم.

 كان هذا عن الماضي، ف ماذا يحمل لنا الحاضر؟

في سبتمبر 2008، ضربت أزمة مالية هزّت العالم بدءًا من الولايات المتحدة الأمريكية، لتمتد لبقيّة الدول الأوروبية، والآسيوية، والخليجية والدول النامية التي يرتبط اقتصادها مباشرة بالدولار الأمريكي، واجهت فيه اقتصادات العالم ركودًا كبيرًا ومشاكل استمرّت لفترات طويلة، وانهارت العديد من البنوك حينها، واعتُبرت الأسوأ من نوعها منذ الكساد الكبير عام 1929، لكن وبالرغم من ذلك، أثبتت اقتصادات الدول الاسكندنافية مرونة عالية إبان تلك الأزمة المالية العالمية، وحققت معدّلات نمو إيجابية بنسب متفاوتة، في الوقت الذي كانت فيه اقتصادات كبرى دول العالم تعاني من معدّلات نمو سلبيّة بعد الأزمة.

الرفاهية والسعادة في الدول الاسكندنافية

تعيش شعوب الدول الاسكندنافية حياة مرفهة جدًا مقارنة مع بقية الدول، وبالتالي فإنها لا تترك مجالًا للشك بأن المعيشة والحياة في بلدان الشمال من الأمور الميسّرة جدًا، برغم أنها ليست من أغنى البلدان في العالم، لكن ما ساعدها في ذلك هي القوانين والتشريعات التي تسنّها الحكومات هناك، والتي بفضلها تربّعت على عرش الرفاهية.

تصدّرت الدول الاسكندنافية قائمة الدول الأكثر سعادةً في العالم، لإيمانها بأن الاهتمام بالإنسان يشكّل إحدى اللبنات الأساسية للنجاح، تُعد مقومات السعادة لدى المواطن الاسكندنافي شبه مؤمّنة وبأفضل المعايير. يحصل المواطن الدنماركي مثلًا على مخصصات اجتماعية، ورعاية صحية حتى وإن فقد عمله. 

لكن ما هي العوامل التي ساعدت الدول الاسكندنافية في الوصول إلى حياة الرفاه؟

1 – النموذج الإسكندنافي، واقتصادات دول الشمال

ربما قد مرّ على مسامعكم مصطلحٌ اقتصاديٌ يدعى بِ «النموذج الإسكندنافي»، وذلك في إشارة مباشرة إلى اقتصادات الدول الاسكندنافية. وُضع هذا النموذج ليعبّر عن المزيج المتفرّد الذي يجمع  بين ميزات الرأسمالية كاقتصاد السوق والكفاءة الاقتصادية من جهة، وبين بعض ملامح الأنظمة الاشتراكية الديموقراطية من جهة أخرى؛ لتُحقق بذلك الرفاهية الاجتماعية للأفراد، وتهتم بالأبعاد الاجتماعية كالمساواة في توزيع الدخل فيما بينهم.
وفي وصف هذا النموذج، قالت الاستشارية في منظمة التعاون الاقتصادي جورجي استون: « إننا أمام نموذج متفرّد في ملامحه».

بالفعل إنه متفرّد، إذ يقوم هذا النموذج الاقتصادي على دعم وتطوير القطاع العام، ليحقق إصلاحات جديّة، مما يجعله أكثر كفاءة واستجابة لتوجهات الدولة. كان ذلك أولى الميزات التي تتحقق فيها العدالة والمساواة للمواطنين من حيث التعليم والرعاية الصحية والتمتع بالخدمات المجتمعية، على عكس ما نرى عليه بلدان العالم الثالث مثلًا، بتخلّيها عن القطاع العام وتوجهها نحو خصخصة مؤسساتها.

2 – الضرائب

يعتمد النظام الاقتصادي في الدول الاسكندنافية في تمويله بشكل رئيسي على الضرائب، ويمكننا القول بأنها تسجّل أعلى معدلات ضرائب في العالم، إذ تبلغ في الدنمارك (%55.9)، وفي السويد (52.9%)، وفي النرويج (38.2%)، حيث تشير الاحصائيات إلى أن الإيرادات الضريبية من الناتج المحلي الإجمالي وضريبة الدخل الشخصي، وضرائب الرواتب تصل إلى (22.1%) في السويد، وإلى (34.5%) في الدنمارك، وإلى (19.7%) في النرويج لتكون أعلى مما تحصل عليه الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة الأمريكية من  ضرائب الدخل الشخصي والرواتب والتي تمثّل نسبة (15%).

إذًا، تعتمد آلية الاقتصاد الأساسية في الدول الاسكندنافية على القيم الرأسمالية التي تتسم بملامح اشتراكية، وبالتالي نكون أمام نظام اقتصادي مختلط، تلعب فيه الدولة دورًا استراتيجيًا، لتحمي الممتلكات الشخصية، والشركات الخاصة على حد سواء.

تُعد الدول الخمس من أكثر الدول مساواة من حيث توزيع الدخل، وتحتل النرويج والدنمارك المرتبة الأولى والخامسة في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، وتُعد كلًا من الدنمارك والنرويج، وفنلندا، والسويد من الدول الأقل فسادًا في العالم.

لكن ما كان لهذا النموذج أن ينجح لولا وجود القبول الشعبي لهذه المعدلات الضريبية المرتفعة، كونه خفّض الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويركّز بشكل هام على الاستثمار في الخدمات المرتبطة برأس المال البشريّ، والتعليم ورعاية الأطفال، ويحقق لهم رفاهية عالية، فضلًا عن تعزيز دور النقابات وشبكات الأمان الاجتماعي لحماية ومساندة القوى العاملة من المواطنين على التكيّف مع أي تغيير في الاقتصاد الكليّ الذي ينجم من زيادة المنافسة العالمية على الخدمات والسلع.

يمكن أن تعزى أسباب النجاح الاقتصادي في دول الشمال الأوروبي إلى عوامل مرتبطة بالقيم الثقافية السائدة في المجتمع، أكثر مما هي عليه من أسباب اقتصادية محضة. لكننا يجب أن نأخذ بالحسبان أن تلك الدول صغيرة ومتقاربة على المستوى التاريخيّ، والثقافي، والعرقي، الأمر الذي مهّد الطريق أمام ترسيخ الأفكار والأخلاقيات التعاونية، وانتاج عقليّة مؤيدة واسعة النطاق، وقدرة عالية على تحمل المسؤولية الشخصية.

خلاصة القول

عندما نتحدث عن الرفاهية والسعادة في الدول الاسكندنافية، هذا لا يعني أننا نصفُ مدًنًا فاضلةً معصومة عن الخطأ، إذ لا توجد دولة إلا وتتعرض لأزمات ونكسات اقتصادية، ومشاكل داخلية، لكن ما يهمنا فعلًا هو الطريقة التي تميّز تلك الدول في تعاطيها مع تلك الأمور، كتعزيز منظومتها التعليمية التي تقوم على زرع روح الانتماء للوطن والأسرة في نفوس طلابها، والاعتزاز بالهوية، وتحمّل المسؤولية وإشاعة الثقة بين مكوّنات المجتمع كافة، فضلًا عن الأساس المتين الذي قامت عليه لتتمتّع باقتصادٍ مرن، قادر على تحمّل أزمات داخلية وعالمية. كل ذلك جعل من الدول الاسكندنافية مثالًا يحتذى به بين دول العالم

المصادر

  •    The Developmental Welfare State in Scandinavia, Lessons for the Developing World. Stein Kuhnle, Sven E. O. Hort
  • https://www.norden.org/en/information/social-policy-and-welfare
  •   Baldwin, P. (1989). The Scandinavian Origins of the Social Interpretation of the Welfare State. Comparative Studies in Society and History, 31(1), 3-24. doi:10.1017/S0010417500015644.
  •  The Relational Nordic Welfare State Edited by Sakari Hänninen, Kirsi-Marja Lehtelä, and Paula Saikkonen
  • Britannica, The Editors of Encyclopaedia. “Kalmar Union”. Encyclopedia Britannica, Invalid Date, https://www.britannica.com/place/Kalmar-Union. Accessed 13 May 2022.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا