اتسعت رقعة دولة الخلافة في العصر العباسي، وامتزج الفكر الغربي بالفكر الغربي واليوناني، وسادت حالة من الرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي. أثرت هذه الظروف بشكل مباشر على الفنون بشكل عام والموسيقى بشكل خاص في الدولة العباسية، إذ شهدت الفنون الموسيقية في العصر العباسي نهضة غير مسبوقة، وازدهرت خلال هذا العصر فنون الغناء وانتشرت الذائقة الموسيقية بين العامة بعد أن كانت حكرًا على طبقات المجتمع العليا. وإن كانت النهضة الموسيقية والغنائية عند العرب قد بلغت ذروتها في العصر العباسي إلا أن تاريخ الموسيقى والغناء عندهم يعود إلى قبل ذلك، فالاستمتاع بالموسيقى والطرب والتمايل مع إيقاع سمة بشرية رافقت الإنسان منذ لحظة ظهوره على وجه الأرض. 

الموسيقى العربية ما قبل العصر العباسي 

العصر الجاهلي:

بلغت النهضة الموسيقية العربية أوج ازدهارها خلال العصرين العباسي والأندلسي، إلا أن جذور هذه النهضة تعود إلى العصر الجاهلي الذي شهد رقيًا في الغناء والموسيقى، لا سيما على يد القيان (جمع قينة)، أي الجواري اللاتي أتقنّ الغناء، غنت القيان في شبه الجزيرة العربية في القصور المترفة وفي الخيام الجافية، وكنّ يمتلكن مكانة خاصة ومتميزة في حياة عرب الجاهلية عامة والشعراء خاصة.  

العصر الأموي:

تفاوت خلفاء الدولة الأموية بدرجة مرونتهم بالتعامل مع الغناء والموسيقى، وكان الخليفة الشاعر الوليد بن يزيد الأكثر تسامحًا معها، ووصل الغناء في عهده أوج مراحل الازدهار. تنوعت أهداف نسج الشعر والأغاني في عصر الوليد بن يزيد من مدح للخلفاء الأمويين إلى الغزل والرثاء. صدر خلال العصر الاموي أول كتاب عربي يتحدث عن موضوعات الأصوات والغناء حمل عنوان «كتاب النغم» للمؤلف يونس الكاتب، الذي سبق كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. ومن أشهر موسيقيي هذا العصر إبن مسجح، و بديح مولى عبد الله بن جعفر (المعروف باسم بديح المليح) اللذان حظيا بتشجيع ودعم من الخليفة الأموي عبد الملك، الذي كان بدوره ملحنًا جيدًا حسبما يذكر المؤرخون. 

عند التحدث عن أبرز المغنين في بداية فترة الحكم الأموي لا بد من ذكر سائب خائر أحد أئمة الغناء والتلحين عند العرب والذي يُعتقد بأنه كان أول من أضفى الروح العربية على الغناء الفارسي، وأول من استبدل قضبان الدق على الأرض بأداة العود في الغناء، وسار على نهجه جميع من تتملذ على يده، من أمثال ابن سريج ومعبد وعزة الميلاء وجميلة، وبقي العود الأداة الموسيقية السائدة في العصر الأموي رغم ظهور وانتشار العديد من الآلات الأخرى بما في ذلك الدف والقيثارة. 

اتسم العصر الأموي بظهور الأغاني الفردية المصحوبة بالغزف على العود الخشبي، خصوصًا خلال عهد الخليفة يزيد الأول. يُرجع الفضل في وضع قواعد العزف والتلحين والأداء إلى ابن سريج (أبي الموسيقى العربية) الذي استفاد من خبراته التي اكتسبها في مجال الموسيقى خلال جولاته في سوريا وبلاد فارس. أما فيما يتعلق بتطور الآلات الموسيقية فقد بقي العود سيد الآلات خلال العصر الأموي رغم بروز آلات أخرى.

الموسيقى في العصر العباسي

مع انهيار الدولة الأموية، وإقامة العباسيين لدولتهم، أسس الخلفاء العباسيين دورًا كبيرة للغناء واجتذبوا المطربين والمطربات من كل حدب وصوب، وأغدقوا عليهم بالأموال والجوائز والهداية. 

علاقة الخلفاء العباسيين بالموسيقى

اشتهر أول الخلفاء العباسيين، أبو العباس السفاح، بتشجيعه للموسيقى ودعمه للمغنيين والموسيقيين، وعشقه للفنون بمختلف أنواعها، واستمر أخوه الخليفة الثاني، أبو جعفر المنصور المنصور، بابتاع نفس نهج أخيه بدعم الموسيقى والموسيقيين، وكان لحفيديه الجعفر والفضل وابنه يحيى دورًا كبيرًا في نشر ثقافة الموسيقى في الدولة العباسية. استمر هذا الحال في عهد الخليفة الثالث، أبو عبد الله المهدي، الذي كان مغرمًا بالموسيقى، والذي عرف عنه ازدحام قصره بشكل دائم بالموسيقيين، وكان من أهمهم، سياط وحكم الوادي ويزيد حوراء وابراهيم الموصلي وغيرهم. 

ازدهرت الموسيقى أيضًا في عهد الخليفة هارون الرسيد، وكان الغناء في عصره على طريقتين، طريقة شيخ الصناعة إبراهيم الموصلي، واتسمت مدرسته بالمحافظة على أصوات القدماء كما رُويت، والالتزام بالأداء دونما زيادة أو نقصان. أما الطريقة الثانية فكانت طريقة إبن جامع، التي كانت سماتها مناقضة لسمات المدرسة الأولى، إذ أعطى إبن جامع نفسه الحق بالتصرف والانطلاق بصوته إلى أقصى مدى بحيث يطّوع أو يخضع النغم لصوته متوخياً استحسان السامعين لهذه الطريقة التي لا يقدر على الإتيان بها إلا من امتلكوا ملكات وموهبة مقومات التنغيم والقدرة على التصرف في مقامات الطرب.

شجع الحليفة المأمون على النهل من الثقافة الموسيقية الإغريقية ورعى الفنون بشكل عام، وكان عم المأمون، ابراهيم المهدي، من أهم موسيقيي عصره. بعد المأمون، تابع الخليفة المعتصم نهج سلفه بالتعامل مع الموسيقى، وصادق المعتصم الفيلسوف والعالم الموسيقي الشهير الكندي، الذي لا تزال أبحاثه تُدرس حتى يومنا هذا.كان الواثق أكثر الخلفاء العباسيين ولعًا بالموسيقى، ووصفه حماد بن إسحاق الموصلي بأنه أعلم الخلفاء بالموسيقى، وبأنه كان بارعًا بالعزف على آلة العود، وكان من بين أشهر الموسيقيين في عهد الواثق كل من إسحاق الموصلي (الذي وصف بأنه عبقري زمانه وأشهر موسيقيي العصر العباسي) ومخارق وعلوية وعمرو بن بانة ومحمد بن الحارث. 

وفقًا لأبحاث المستشرق والباحث في مجال الموسيقى البريطاني، هنري فارمر، انتهى بعد الخليفة الواثق العصر الذهبي لموسيقى العصر العباسي وبدأت بعده مرحلة التراجع والانحطاط والسقوط. 

تأثير العباسيين على الموسيقى

تمكن العرب في العصر العباسي، وابتداءً من القرن التاسع الميلادي، من ترجمة معظم البحوث المتعلقة بالموسيقى الإغريقية إلى اللغة العربية، بما في ذلك البحوث المرتبطة بالسلم الموسيقي اليوناني والنظريات الموسيقية بشكل عام. وقد اقتبس العرب الكثير من النظريات الموسيقية اليونانية، حتى أن طريقة العزف على العود تغيرت بناء على ما أحدثه هذا الإقتباس من تغيير جذري في الأداء.تمكنت الموسيقى العربية في العصر العباسي من التفوق على الموسيقى الإغريقية بعد أن أضاف العرب قواعد جديدة وأساليب جديدة في العزف والتلحين والأداء.

تعترف اليوم الدوائر الموسيقية الغربية بتمكن العرب بين القرنين التاسع والثالث عشر من وضع حوالي مئتي مصنف متفرع في سائر الفنون والعلوم الموسيقية، كما اعترفوا بالأهمية البالغة والخاصة التي تتمتع بها أربعة من هذه المصنفات التي كان لها أثر كبير على الموسيقى الغربية، وهي: 

رسالة في خبر تأليف الألحان للكندي: ويوجد هذا المخطوط الآن في المتحف البريطاني، ويشتمل على أول بحوث في نظرية الموسيقى العربية.

 كتاب الموسيقى الكبير للفارابي: الذي يعد أحد أعظم الكتب الموسيقية على الإطلاق.

 الجزء الخاص في كتاب الشفاء للرئيس ابن سينا وفيه جزء هام للغاية عن النظرية الموسيقية العربية.

 كتاب الأدوار لصفي الدين البغدادي.

فضائل الفارابي والكندي وإبن سينا الموسيقية

كان الطبيب والفيلسوف أبو يوسف يعقوب ابن إسحاق الكندي من أهم المنظرين المجددين العرب في مجال الموسيقى في العصر العباسي، وقد تناول في دراساته السلم الموسيقي في ضوء إلمامه بالمصادر اليونانية، مع أن عرضه الموسيقي اعتمد على المصطلحات المستعملة في المقطوعات الموسيقية الخاصة بالعود العربي.

خصص الكندي جانباً كبيراً من دراساته لآلة العود من خلال التدقيق في وصفها وذكر مقاييسها وخصوصياتها النغمية. ففي رسالته المنشورة بعنوان «رسالة في اللحون والنغم» تناول الكندي الصناعة الخاصة بالعود، وكيفية استخراج النغمات وصناعة الأوتار انطلاقاً من دساتين العود، أما الجزء الأهم في الرسالة فهو الذي نظّر فيه لقواعد ومنهج تدريس العود.أما الفارابي فكان صاحب العمل الموسوعي الضخم «كتاب الموسيقى الكبير» المكوّن من جزأين رئيسيين، لكن جزءه الثاني المخصص لتحليل تاريخ نظرية الموسيقى مازال مفقوداً، علماً بأن المخطوط الأصلي للكتاب محفوظ ضمن مخطوطات مكتبة جامعة ليدن، وقد خصص العالم الفرنسي البارون رودولف ديرلانجي مجلدين اثنين من موسوعته «موسيقى العرب»، المكونة من ستة أجزاء، لدراسة كتاب الموسيقى الكبير للفارابي.تناول الفارابي في الجزء الأول من كتاب الموسيقى الكبير تعريف اللحن، وأصل الموسيقى، واختلاف هيئاتها، العملية والنظرية في الإنسان وتعدد أصناف الألحان، وغاياتها، ونشأة الآلات الموسيقية، ومبادئ المعرفة بصناعة النغم، ومناسبات النغم واتفاقاتها، وعدد النغم المتجانسة في الألحان، وطبقات الأصوات الطبيعية. كما تناول الفارابي بإسهاب دقيق الآلات الموسيقية البغدادية في عصره وأهمها العود ذو الأوتار الأربعة، وأضاف لهم وترًا خامسًا، ووثق هذه الإضافة في كتابه «الموسيقى الكبير» نفسه.

خصص أبو الطب الحديث، إبن سينا، خصص فصلاً مهماً في كتابه «الشفاء» حول أثر الموسيقى في العلاج. ويرجع الفضل لأخوان الصفا في تفسير الموسيقى بأسس رياضية، فهم من بث قواعد الأنغام على الرياضيات وتحدثوا عن النغمات الصوتية (الذبذبات) المنبعثة من الأجرام السماوية. ووضعوا قوانين الغناء على ثلاثة أصول: السبب، والوتد، والفاصلة.وكان صفي الدين الأرموي الذي عاش في عصر انهيار الدولة العباسية أول منظّر موسيقي مهم بعد إبن زيلة، وكان من أشهر مؤلفاته «كتاب الأدوار في معرفة النغم والأدوار» و«الرسالة الشرفية في علم النسب التأليفية والأوزان الإيقاعية». كما كان الأرموي من أمهر العازفين على العود، وقيل أنه بدّل السلم الموسيقي العربي الذي كان معمولاً به قبله.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا