اكتسب السؤال المتعلق بدور اللوثرية بظهور دول الرفاه الاسكندنافية زخمًا متزايدًا في العقود الأخيرة. يرى بعض المؤرخين والباحثين أن أسس دولة الرفاه الاسكندنافية مبنية بشكل مباشر على التراث اللوثري. سنناقش في هذه المقالة أسس الحركة الإصلاحية التي أطلقها لوثر في القرن السادس عشر، وتأثيرها على بناء نموذج دولة الرفاه الاسكندنافية.

مارتن لوثر، وانطلاق عصر الإصلاح

ولد الراهب الألماني، مارتن لوثر، في 10 نوفمبر 1483، درس في جامعة إيرفورت وقرأ فيها الإنجيل لأول مرة، ونال درجة الدكتوراه في اللاهوت من جامعة ويتنبرغ. سيطر على لوثر، حسب المؤرخ غلين سنشاين، إحساس بالذنب لإيمانه بأنه لم يكن قريبًا كفاية من الرب. كرد فعل على هذا الشعور، انهمك لوثر في عباداته، وخرج برحلة حج إلى روما للتقرب من الله، إلا أنه تفاجأ خلال رحلته هذه بالفساد المستشري في جميع مفاصل السلطة الدينية.

خلال فترة زيارته لروما، شهد لوثر عمليات بيع ما عرف ب «صكوك الغفران» بهدف إصلاح كنيسة القديس بطرس. زعم البابا ليون العاشر أن الخطاة سيواجهون عقابًا طويل الأمد بعد الموت، ويمكن تقصير مدته من خلال شراء صكوك الغفران من الكنيسة بمباركة من البابا الذي جنى أرباحًا طائلة من هذه التجارة. ردًا على ذلك، نشر مارتن لوثر، في عام 1517، وثيقة «القضايا الخمسة والتسعين» التي اتهم فيها الكنيسة بالإقدام على العديد من الانتهاكات المالية والعقائدية وطالب بإصلاحها، وأرسل نسخًا عن الوثيقة للعديد من العلماء والمؤثرين.

لم تكن محاولات لوثر الإصلاحية الأولى من نوعها، إذ سبقه لها القس التشيكي يان هس الذي عارض البابا المزيف جون الثالث والعشرين، وأُحرق بعدها حيًا بتهمة الهرطقة. لكن، كان لوجود مطبعة جوتنبرغ في ألمانيا دور كبير في انتشار أفكار لوثر وتقبلها. كما فعلت الكنيسة مع أسلافه، هدد البابا ليون العاشر لوثر بالحرمان الكنسي في حال رفض إعلان توبته أمام العلن، فما كان من الأخير إلا أن أحرق المرسوم البابوي علانية، ونشر أعمالًا إضافية تحث على الإصلاح رغم معارضة البابا الذي أصدر مرسومًا بطرده من الكنيسة. اعترض لوثر على إدانته دون استجوابه، فاستدعاه الإمبراطور تشارل الخامس للمثول أمام المجلس التشريعي في مدينة وورمس. وقف لوثر أمام الإمبراطور والأمراء رافضًا الإقرار بخطئه، وتوجه بعدها إلى فيتنبيرغ بحماية من الإمبراطور فريدريك، أمير ساكسونيا. خلال رحلته إلى فيتنبرغ، اختطفت مجموعة من الفرسان التابعة لفريدريك لوثر، وأودعوه في قلعة الفارتبورغ وغيروا اسمه لحمايته، وظل فيها قرابة عام، وخلال هذه الفترة بدأ بترجمة الكتاب المقدس، لنقل نصوصه من الكهنة إلى عموم الناس.

قدم القس مارتن لوثر العديد من المؤلفات المُهمة، منها أعمال ساهمت في انطلاق ثورة الإصلاح الديني التي غيرت وجه أوروبا وأنهت عصورها المظلمة وساهمت بظهور المذهب البروتستاني الإصلاحي الذي شمل العديد من الجماعات الدينية التي انفصلت عن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.

تأثير الحركة اللوثرية الإصلاحية على ألمانيا والعالم

قسمت الحركة الإصلاحية، التي أطلقها مارتن لوثر، المجتمع الألماني إلى معسكرين اثنين، في الوقت الذي كانت فيه السيادة الدينية في أغلب البلدان الأخرى لمذهب دون آخر. رسم الانقسام الكاثوليكي البروتستانتي معالم التاريخ الألماني لحقبة طويلة من الزمن. في نفس الوقت، ساهمت ترجمة لوثر للإنجيل إلى اللغة الألمانية في نشر ثقافة القراءة في المناطق البروتستانتية، الأمر الذي زاد من وعي وثقافة الأقاليم البروتستانتية مقارنة مع بقية المناطق الألمانية، وظل هذا الأمر ملحوظًا حتى القرن العشرين. كان كتاب لوثر، المعنون «عن حرية الإنسان المسيحي»، والذي يتحدث عن الحرية الدينية، الكتاب الأكثر طباعة والأوسع انتشاراً في ألمانيا إبّان القرن السادس عشر. على صعيد الفن، ترك لوثر بصمات بارزة إذ كتب بنفسه العديد من الأناشيد الكنسية، وشهد عهده تأليف أروع الترانيم البروتستانتية.

انطلقت البروتستانتية من أوروبا الشمالية وانتشرت في مختلف أنحاء العالم. يوجد اليوم مئات ملايين المسيحيين على مستوى العالم يتبعون المذهب البروتستانتي، وانعكست معتقداتهم على الحياة الاجتماعية والاقتصاد في الدول التي يسكنونها.

اللوثرية وسياسات الرفاهية

وضع مارتن لوثر نظام رعاية اجتماعية منظم من خلال جمعه عدة صناديق صدقات تابعة للأبرشيات والجمعيات في صندوق واحد يديره مجلس المدينة. كان وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ في أنظمة مدن شمالي ألمانيا بمثابة بداية للعمل المجتمعي المستقل عن بالكنيسة.

أرست أفكار لوثر أسس شرعية دولة الرفاهية الحديثة من خلال السماح بتدخل الدولة في حالة رفاهية الشعب، الأمر الذي لطالما كان حكرًا على الكنيسة، وأصبحت بعدها سلطة جميع قضايا العقل العملي تابعة للسلطة العلمانية، أما الكنيسة فقد اقتصرت مسؤوليتها على القضايا الدينية فقط. مع ذلك، رفض لوثر مبدأ توزيع السلطة على الشعب بشكل قاطع، ما منح الحكّام إمكانية استغلال حالة الإصلاح لأغراضهم الخاصة. تمخض عن عصر الإصلاح تطبيق مبدأ quius regio, eius religio (من له الحكم، فالدين دينه) الذي منح الحاكم الحق في إقرار دين رعاياه بمعزل عن رأي الكنيسة الكاثوليكية، ومنح الحماية للأقليات الدينية. أصبحت بذلك الكنائس اللوثرية جزءًا لا يتجزء من النظام البيروقراطي للدولة، وأطلقت العديد من الحملات لإغاثة الفقراء في المجتمع من خلال الأبرشيات المحلية.

كانت حرب الثلاثين عامًا، التي اشتعلت في عام 1618 في أوروبا الوسطى بين البروتستانت والكاثوليك، نقطة تحول أخرى في التاريخ الأوروبي، إذ خلفت تيارًا شعبيًا رافضًا للدوغمائية ولسيطرة الكنيسة رفع شعاري التقوى (الإخلاص الفردي للرب)، والتنوير (الذي ركز على أهمية إخضاع كل شيء للعقل والمنطق ومحاربة الخرافات)، وانتهت مع توقيع الطرفين لصلح فستفاليا عام 1648، الذي تضمنت بنوده إقرار المذهب البروتستانتي كعقيدة معترف بها إلى جانب المذهب الكاثوليكي، وعدم السماح للأمراء الألمان يفرض أي دين أو مذهب على أتباعهم أو رعاياهم. وفقًا لعالم الاجتماع الدنماركي، آجي بي سورينسن، كان لتطبيق مبدأ التقوى تأثيرات عدة على المجتمع الأوروبي، أولًا تعزيز تدخل الدولة في المجالات التي كانت سابقًا حكرًا على الكنيسة، كالتعليم والشؤون الاجتماعية الأخرى: كان مارتن لوثر أول المنادين بتطبيق مبدأ التقوى من خلال تركيزه على حق جميع الأفراد بقراءة وفهم الإنجيل بطريقتهم الخاصة، الأمر الذي نتج عنه ترجمة الإنجيل إلى عدة لغات، وزيادة معدلات محو الأمية وانتشار المؤسسات التعليمية التي مولتها الدولة. ثانيًا: ترسيخ تقليد إنشاء المنظمات البروتستانتية المستقلة والمنتديات الصغيرة غير الربحية. وثالثًا: تراجع اعتماد المؤسسات التابعة لجامعة هاله على النبلاء من ملاك الأراضي من خلال تأمين كادر من الموظفين المدنيين المتعلمين الذين وضعوا أسس مشاريع دولة الرفاهية.

تمثال للقس المصلح، مارتن لوثر، في مدينة كوبنهاغن الدنماركية.
تمثال للقس المصلح، مارتن لوثر، في مدينة كوبنهاغن الدنماركية.

ترافق ظهور التيار الشعبي الرافض للدوغمائية ولسيطرة الكنيسة في القرن السادس عشر في أوروبا بتراجع أهمية الجامعات لمعاناتها من الحروب الدينية ولعدم قدرتها على تطوير مناهجها الكلاسيكية، فأخذت الأكاديميات التي ترعاها الدولة زمام المبادرة في المجالات العلمية، وتزايدت أهمية مؤسسات جامعة هاله في شمالي ألمانيا في تطوير نماذج جديدة للتعليم وأنظمة الحكم، والرفاه، وإغاثة الفقراء.

كان ظهور دولة بروسيا البسماركية، التي عادة ما ينظر إليها بصفتها نسخة مبكرة عن دولة الرفاهية، بمثابة ثمرة تطبيق مذهب التقوية (Pietism) اللوثري الذي رفع شعار القضاء على الفقر من خلال التعليم.

أدى تركيز المذهب اللوثري على مبدأ المسؤولية الاجتماعية إلى إنشاء نموذج الشمال الأوروبي لدولة الرفاه الذي تلعب فيه الدولة الدور الرئيسي الفاعل في أنظمة الرعاية الصحية والاجتماعية وأنظمة التعليم. وظهر النموذج النهائي لسيادة الدولة بعيدًا عن الكنيسة في السويد مع تطبيق مفهوم folkhem (بيت الشعب) في عهد سيطرة الحزب الاشتراكي الديموقراطي بعد الحرب العالمية الثانية وفي الفترة الممتدة بين ستينيات وثمانينيات القرن العشرين.

المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركيل، خلال إحتفال ألمانيا بمرور 500 سنة على ذكرى حركة المصلح الديني مارتن لوثر، في كنيسة "شلوسكيرشه" في في مدينة فيتنبرغ الألمانية بتاريخ 31  أكتوبر 2017
المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركيل، خلال إحتفال ألمانيا بمرور 500 سنة على ذكرى حركة المصلح الديني مارتن لوثر، في كنيسة “شلوسكيرشه” في في مدينة فيتنبرغ الألمانية بتاريخ 31 أكتوبر 2017

تمثل الاختلاف الرئيسي بين أنظمة دول الشمال الأوروبي (نموذج الشمال) وبقية دول العالم في أسلوب النظر للدولة، إذ تعتبر بقية دول العالم الدولة خارج المجتمع المدني أو فوقه، بينما تمثل الدولة في دول الشمال الأوروبي المجتمع المدني بحد ذاته بعيدًا عن أي سلطة دينية، وهو ما سعى المصلح مارتن لوثر لتطبيقه في ألمانيا في القرن السادس عشر. وصف الكاتب الأمريكي، روبرت نيلسون، الاشتراكية الديموقراطية، في كتابه «اللوثرية والروح الاسكندنافية للديموقراطية الاشتراكية»، بأنها «لوثرية علمانية».

المصادر:

  • Luther and the roots of Nordic welfare states by Martti Muukkonen on January 18, 2021.
  • Reformationstag: Der Unbeugsame. Martin Luther war Spalter und Erneuerer. Was die Reformation verändert hat und wie sie bis heute wirkt.

Ralf Zerback / 25.09.2017

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا