الزواج هو أحد تجارب الحياة الاجتماعية والإنسانية، وهو محكوم بنتائجها، فإما أن ينجح ويستمر، أو أن يفشل بشكل كارثي وينتهي حتى ولو بعد فترة زمنية قصيرة من بدايته. لكن، من المعروف أن حالات فشل الزواج منتشرة بكثرة في بعض الأوساط المهنية أكثر من غيرها.. فكيف يفسر علم النفس التطوري هذا الموضوع؟
قد يرى البعض في الزواج الكلاسيكيّ سببًا لإنهاء الزواج في بعض الأحيان، كونه لم يُبنى على حُب وتفاهم مُسبق، مما يجعل الشعور السائد في العلاقة هو القلق وعدم الأمان، ويجعل مستقبل الحياة الزوجية مبهمًا ومهددًا بالانهيار، لكنها ليست بقاعدة ثابتة، فحتى في الزواج المبني على العاطفة قد يؤول لنفس النهاية لأن الحب عاطفة متغيّرة، فهو في نهاية المطاف اختيار رومنسي، قد يزول بزوال أسبابه.
ومن هنا أتى علم النفس التطوري ليُدلي بدلوه في هذا الشأن، كونه منهج في العلوم الإنسانية والطبيعية، ويدرس سماتنا النفسية، وكيف تطوّرت لتتكيف مع العالم المحيط، إذ يجادل علماء النفس التطوري بأن السلوك الإنساني هو من مخرجات التكيّفات النفسية التي تطوّرت لتحل مشكلات متكررة في بيئات أسلاف البشر، ويتمسكون بفكرة أنه مهما اختلفت الثقافات المجتمعية، فإن جميع سمات وسلوكيات البشر مرشّحة لأن تتكيّف وتتطور، ويشمل ذلك المشاعر تجاه الآخرين، وإدراك الجمال، وأنماط الزواج وما إلى ذلك.
قد نتصور أن لا قاعدة عامة تحدد من خلالها عقولنا معايير الجمال عند البشر، لكن يبدو أن الأمر موجود بيولوجيًا، إذ يخضع الإنجذاب بين الجنسين لعدة معايير ثقافية، واقتصادية واجتماعية، وقد تتدخل المعايير السياسية في بعض الأحيان لتحدد العوامل الرئيسية لتفضيل أحد الأشخاص على آخر.
كيف ذلك؟
يحاول علم النفس التطوّري أن يعطي إجابات ممكنة لأسئلة ربما لن نجد لها إجابة إلا عن طريقه، كونه يستند إلى فكرة تمكن البشر الأوائل -قبل أن يهاجروا من السافانا- من تطوير بعض النقاط الإدراكية لديهم، كاللغة، والحذر والخوف، والمحاباة، لذا يتصوّر علماء النفس التطوري، أن هناك نقاط مشابهة تطوّرت في مجال اختيار الأزواج، ولربما كانت من أهم النقاط لخصوصيتها كون أن البشر كائنات تتزاوج جنسيًا، وحتى ينجح هذا النوع ويستمر، يجب أن تنتقل جيناتك إلى نسلك.
لم يكن أسلاف البشر قادرين على استكشاف وجود خلل في التركيب الجيني لديهم من عدمه، لكنهم ربما تمكنوا من ابتكار أدوات يستطيعون من خلالها رصد جودة هذه الجينات لديهم، عبر مراقبة السلوك، والشكل الظاهري للطرف الآخر، ومن هنا يأتي قول عالم النفس التطوري ديفيد باس: «إننا نحمل آليات التأقلم التي أدت لنجاة أسلافنا»، أي تلك التي توارثناها جينيًا، والتي هي بالأصل حلول ناجحة لمشاكل بيئية مرّت في عصور مضت، وبالتالي يسعى علم النفس التطوري لكشف مسببات تطوّر الآليات النفسية التي يحملها الإنسان، ليؤسس قاعدة علمية لتفسير دوافع السلوك البشر، كالغيرة، واختيار الشريك، والزواج، وحتى الهجران مثلًا.
لكن علينا في البداية أن نتعمّق أكثر من نظرية الانتقاء الجنسي، لنرى كيف توصل علم النفس التطوّري لتفضيلات كل من الذكر والأنثى لبعضهما البعض.
ماذا تُفضل الأنثى؟
طوال تاريخ التطوّر البشري، كان للأنثى الحصة الأكبر في انتقائية التزاوج أكثر من الذكر، كونها العنصر الأبرز في عملية التكاثر، فهي من تحمل الجنين لشهور عدة، مصارعةً التعب أثناء الحمل وآلام الولادة وما بعدها من ارتباط وثيق مع طفلها لإرضاعه لسنتين تقريبًا. كل هذا لعب دورًا في تطوّر تفضيلاتها لحل المشاكل البيئية التي تُهدد حياتها أثناء الحمل وما بعد الولادة، كتوفير الموارد اللازمة للمعيشة وتأمين الحماية لنفسها ولطفلها. وبالتالي يبدو وكأن هذا السرد التطوّري يُطالبنا بتخيّل الأنثى قبل ملايين السنين كانت عاجزة عن توفير الطعام وحماية نفسها من خطر الحيوانات الضارية، من هذا التصوّر يزعم علماء النفس التطوري بأن الوضع البيئي هذا تسبب بتطوير آلية نفسية عند الأنثى تدفعها لانتقاء جنسي تفضّل به الذكر ممكن يمتلك البنية الجسمانية القويّة، ووفرة في الموارد، أو عالأقل يملك القدرة على تأمينها، لأنه سيوفّر كل احتياجاتها خلال فترة الحمل وما بعد الولادة ومنه يتحقق هدف التكاثر والبقاء.
وتبعًا لمبادئ الانتخاب الطبيعي المبنيّ على أساس التوارث الجيني، يرى العلماء أن هذه التفضيلات أصبحت متأصلة في طبيعة النساء ككل، أي أن بحث المرأة عن الأمان في الشريك، ينعكس لحل مشاكلها البيئية سواء كانت حلولًا مباشرة أو غير مباشرة، فإنها لا تفضل الرجل الثري بالضرورة، لكنها تفضّل من يملك الصفات والوضع الذي يؤدي للثراء، كطموحه المهني، ومكانته الاجتماعية، وبل وطوّرت أيضًا تفضيًلا للبنية الجسمانية القوية، الذي انعكس بدوره على انجذابها لمظاهر الذكورة، البنية العضلية، والطول وخشونة الصوت مثلًا.
استخلصت عشرات الدراسات انتقائية المرأة التي دفعتها للبحث عن التفاصيل النفسية والجسمانية التي تدل على سلامة جينات الرجل، كاستقراره العاطفي، وجاذبية ملامح وجهه، لأنها تُدرك نفسيًا –دون أن تعلم ما هي الجينات- أن جينات شريكها تلعب دورًا رئيسيًا في تحديد جودة أطفالها، فالرجل الذكي سيورّث ذكاءه، والقوي سيورّث قوته.
ماذا يُفضّل الذكر؟
على الطرف المقابل، نرى علماء النفس التطوري يرسمون صورة مختلفة لتحدّيات الذكور البيئية، التي تُهدد من استمرارية نسلهم، إذ تتمحور تلك التحديات حول الأنثى، وتحديدًا فيما يتعلّق بخصوبتها، إذ لا تكمن مكاسب الذكر حين يتنافس مع أقرانه على الأنثى بالارتباط فحسب، بل أن ينفرد بالتخصيب، الأمر الذي يعطي معيار الخصوبة قيمة عليا عند اختيار الشريك، وبالتالي نجد بأن الذكر قد طوّر آلية تأقلم نفسية فضّل من خلالها العلامات التي تدل على خصوبة الأنثى، والتي تركّرت في سماتها الفسيولوجية الظاهرة في جسدها، كآثار البلوغ الجنسية، أي أن سبب انجذاب الرجل لجسد المرأة يُمكن تفسيره من وجهة النظر التطورية على أنه انجذاب لخصوبة الجسد، لأن سعي الرجل نحو البقاء والاستمرارية، لم تكن لتتحقق دون آلية البحث عن علامات الخصوبة.
من هذا المنطلق، ربط علماء النفس التطوري بين علامات الخصوبة ومعايير الجمال التي تجذب جميع الرجال، والتي أصبحت متأصلة جينيًا في طبيعتهم، فمهما اختلفت شخصية وثقافة الرجل، سيبقى يُفضّل وينجذب لصغيرات العمر كون أن مرحلة التبويض لدى النساء تتوقف في مرحلة بين الأربعين والخمسين من العمر وبالتالي سيفضّل ذوات البشرة الصافية، والخصر النحيل، والشفاء الممتلئة، والشعر الكثيف كمؤشرات لمستوى الحيوية المرتفع.
الزيجات القصيرة من منظور علم النفس التطوري (المدرّسون وممثلو هوليود مثالًا)
قِلة هي المناصب والمهن التي تمنح بعض الرجال فرصًا أكثر من غيرهم للتواصل مع النساء في سنوات شبابهنّ، فمدرسو المرحلة الثانوية وما بعدها مثلًا، هم أكثر خلطة مع الشابات الجذّابات اللائي وصلن إلى ذروة خصوبتهن وقيمتهن الإنجابية، فتجدهم غير راضين عن شريكاتهم، وأكثرهم عرضة للطلاق، وأقلهم احتمالًا بالزواج مرة أخرى، مقارنة ببقية الرجال من المهن الأخرى، إذ يقتصر الأمر على المعلمين في مرحلة الثانوية للإناث والجامعات، أولئك الذي يحيط بهم الشابات المحبوبات طوال الوقت. إذ لا يمكن ملاحظة الأمر ذاته بين معلمو رياض الأطفال أو مدارس الذكور مثلًا.
أيضًا تكثر حالات الطلاق في الوسط الفني، ويُعزى ذلك لوجود جيل جديد من النجمات الأصغر سنًا اللاتي ينجذب إليهن الممثلون مع استمرار تقدم زوجاتهم في السن. قد يكون المثال العمليّ والأبرز هو المسيرة الزوجية للممثل الشهير توم كروز:
- زواجه الأول (ميمي روجرز): عندما كان توم كروز في الرابع والعشرين من العمر، تزوج من روجرز التي كانت تكبره بست سنوات، الأمر الذي يوضّح أمرًا، أنه في الوقت الذي يُفضل فيه الرجال عمومًا النساء الأصغر سنًا، يُفضّل المراهقون النساء الأكبر سنًا، لأن من يصغرنه سيكونن بالنسبة له أقل خصوبة.
- زواجه الثاني (نيكول كيدمان): كانت تصغره بخمس سنوات.
- صديقته التالية ( بينيلوبي كروز): كانت تصغره بإثني عشر عامًا.
- زواجه الثالث (كاتي هولمز): وهي زوجته الحالية، أصغر منه بستة عشرة عامًا.
وإذا ما قرر الانفصال مرة أخرى، لربما ستكون زوجته التالية أصغر منه بأربعة وعشرين عامًا مثلًا! من يدري؟
خلاصة القول
عندما طوّرت الأنثى عبر آلاف السنين تفضيًلا ما، تطوّر معها الذكر على الأساس ذاته لينافس أقرانه، وكأن الرجال هم نتيجة تجربة تناسلية تقوم بها النساء والممتدة عبر تاريخنا البشري، فإن كانت طبيعة البشر قد تشكّلت جرّاء تلك التجربة بين أسلاف النساء والرجال، فهل يمكننا العودة لبداية تلك التجربة لنختبر صحة ما يفترضه علم النفس التطوري ؟
لقد استخلصت دراسات عالمية صحة تلك الفرضيات فعلًا، ورأينا كيف يمكن لتأثير التباين أن يُفسر سبب شهرة ممثلي هوليود بزيجاتهم وعلاقاتهم القصيرة وغير المستقرة، تمامًا كما هو الحال مع مُدرّسي المرحلة الثانوية وأساتذة الجامعات، فهم محاطون دومًا بشابات جذابات.
- Buss DM. Sex differences in human mate preferences: Evolutionary hypotheses tested in 37 cultures.Behavioral & Brain Sciences 1989; 12:1–49.
- Weisfeld GE. Evolutionary principles of human adolescence.New York: Basic Books; 1999.
- Betzig, L. Causes of conjugal dissolution: a cross-cultural study. Current Anthropology 1989; 30:654–676
- Quale GR. A history of marriage systems. New York: Greenwood; 1988.
- https://www.psychologytoday.com/us/basics/evolutionary-psychology
- https://www.psychologytoday.com/us/basics/mating