قُنبلتان نوويتان في عام واحد، أسفرتا عما بين 50 و85 مليون قتيل، وحربٌ تشارك فيها أغلب الأقطاب العالمية العظمى. قد يظن البعض أننا نتحدث عن حربٍ خارجةٍ من أحد أفلام المآسي والكوارث العالمية التراجيدية، لكنها ببساطة الحرب العالمية الثانية بين عامي 1939 و1945، حربٌ وُصِفت بأنها الأوسع في التاريخ والأكثر ضررًا بشريًا وماديًا. ومع ذلك، يجادل ستيفن بينكر بأننا نعيش في فترة زمنية تعد من أكثر الفترات سلامًا بالنّظر لتاريخ البشرية الحافل بالعنف والدموية من وجهة نظره.
لكن من هو ستيفن بينكر؟
ستيفن بينكر، عالم نفس معرفي أمريكي كندي من مواليد 1958، وعالم لغويات ومؤلف وأستاذ في قسم علم النفس في جامعة هارفرد، معروف بدفاعه عن علم النفس التطوري والنظرية الحاسوبية للعقل. لبينكر نظريات مهمة جداً في اللغويات وتحديدًا في الطريقة التي يتعلم بها الأطفال اللغة ويفهمونها، كما يجادل أن اللغة أساسية تطورية وأنها سلوك فطري، كما يقتبس ويتبنّى الكثير من أفكار عالم اللغويات والمُنظّر الشهير نعوم تشومسكي. اختير بينكر من بين أكثر مئة شخصية مؤثرة عام 2004، وانتُخب في عام 2016 لعضوية الأكاديمية الوطنية للعلوم، وحصل على درجة الدكتوراه الفخرية من عدة جامعات مهمة في أنحاء الولايات المتحدة. كما له عدة مؤلفات منها كتاب «الملائكة الأفضل لطبيعتنا البشرية: لماذا تراجع العنف» الذي يناقش فيه فكرة أن الحضارة اليوم في أكثر فتراتها سلامًا.
الملائكة الأفضل لطبيعتنا البشرية:
الملائكة الأفضل لطبيعتنا البشرية هو كتاب لبينكر صدر عام 2011، يجادل فيه أن العنف في العالم تناقص سواء على المدى الطويل أو في المدى القريب ويذكر حججًا تفسر حصول ذلك، كما يذكر بياناتٍ تدعم فكرة تناقص العنف بكل أشكاله عبر الزمن والمناطق الجغرافية.
إن عنوان الكتاب مأخوذ من خاتمة خطبة تنصيب الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولين الأول، ويستخدم بينكر جملة «الملائكة الأفضل» للإشارة إلى أربع دوافع إنسانية هي: التعاطف، وضبط النفس، والحس الأخلاقي والمنطق. يؤمن بينكر بقدرة هذه الدوافع على توجيهنا بعيدًا عن العنف باتجاه التعاون والإيثار، ويجادل بأن التراجع في مستويات العنف الذي شهدته البشرية في القرون القليلة الماضية استثنائي، ويشمل مناحٍ عديدة كالنواحي العسكرية، والعنف المنزلي، والإبادة الجماعية، والتعذيب وإساءة معاملة الأطفال، بالإضافة لحقوق الإنسان والحيوان على حد سواء. كما يؤكد بينكر أن هذا التراجع في العنف لم يقضِ على العنف تمامًا، وليس من المؤكد أنه سيستمر.
ستة مظاهر لتراجع العنف:
يرى ستيفن بينكر أن تناقص العنف في مجتمعاتنا تجلى من خلال عدة فترات وتحولات تاريخية وفكرية هي:
- مرحلة إرساء السلام: وهي الفترة التي انتقلت فيها الإنسانية من حياة الصيد والجمع المشاعية، إلى أولى الحضارات الزراعية، وظهور المدن والحكومات منذ خمسة آلاف سنة. إذ كان هناك جدل بين المفكرين حول ما إذا كانت حياة الإنسان البدائي في الطبيعة مسالمة أم أنها كانت عنيفة كما جادل توماس هوبز، وتبين فيما بعد بالنظر لدراسات علم الآثار والأحفوريات أنها كانت عنيفة وعشوائية عكس ما هي عليه الآن.
- عملية التحضّر: التي اشتملت الانتقال من العصور الوسطى للعصور الحديثة، وظهور الممالك، ومفهوم «عدالة الملك»، ونمو مفهوم التجارة والنقود، بالإضافة للتطور التقني والاهتمام بالوقت والانتقال من مفهوم النهب السلبي لمفهوم التجارة الإيجابي.
- الثورة الإنسانية: مفهومٌ ينسبه بينكر لعالم التاريخ Lynn hunt والذي يصف هذه الثورة بأنها ألغت أشكال العنف الغير مبرر والغير إنساني كالتعذيب والعبودية والعقوبات السادية التي تفنن البشر بها قديمًا، والإساءة للحيوانات. ومن الأسباب المباشرة للثورة الإنسانية اختراع الطباعة وانتشار الكتب، والتي جعلت البشر يشعرون أكثر بارتباطهم ببعض واستبدلت الجهل بالمعرفة والتي بددت العديد من الخرافات التي أججت الحروب في وقت من الأوقات.
- السلام الطويل: وهو مصطلح للفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أن هذه الفترة مرتبطة بالقوى العظمى في العالم والتي تملك العتاد العسكري الأكبر، والتي توقفت عن القتال فيما بينها.
- السلام الجديد: وهو مصطلح مرتبط أكثر بالدول النامية، والتي أصبحت كما الدول المتقدمة، أقل عنفاً، وانخفضت أعداد ونسب القتل والإرهاب إجمالاً.
- الثورة الحقوقية: إذ كانت فترة ما بعد الحرب فترة حرب على القمع والاضطهاد وظهور مفاهيم كحقوق الإنسان والمرأة والمثليين والأطفال وحتى الحيوانات.
لا يقول بينكر أن هذه الحركات نجحت بشكل كلي في تحقيق أهدافها، لكنها تذكير لنا بالشوط الطويل الذي قطعته الإنسانية فيما يخص السلام في العالم.
قال بينكر أن التطور شكّل خصائص أدمغتنا البيولوجية وعليه ملكاتنا الإدراكية والعاطفية، وجعلنا نملك ميلًا للعنف أو كما أسماه «شياطيننا الداخلية» وميلًا للسلام والتعاون أو «ملائكتنا الأفضل» وأنّ ظروفنا المادية والثقافية ترجح الكفة لأحدهما.
خمسة شياطين داخلية:
يجادل بينكر أن النزعات العنيفة ليست مفردة متأصلة في نفسية البشر، أو أنها تعطش فطري للدماء لدى البشر، بل يرى أنها اجتماع عدة عوامل نفسية وبيولوجية، كالعوامل البيئية والعصبية والاجتماعية، ويحدد خمس منظومات تحرض على العنف يسميها الشياطين الداخلية وهي:
- عنف الافتراس أو العنف العملي: وهو استخدام العنف لتحقيق غايات محددة.
- الهيمنة: وهي النزعة للسلطة، والمكانة والنصر والقوة إذ يرى بينكر أن حب السلطة قد يبرز لدى الأفراد أو التجمعات وينتج آثار كارثية وعنيفة.
- الانتقام.
- السادية: وهي إلحاق الأذى العمدي بالآخرين، وبدافع المتعة الشخصية فقط.
- المنظومات الفكرية: أي منظومة فكرية تحرّض على العنف زعماً أنه في سبيل خير أكبر أو غاية عظمى، سواء كانت منظومة دينية أو سياسية أو اجتماعية.
المسببات التاريخية لحالة السلام:
يعزو بينكر السلام الذي يشهده العالم إلى عدة عوامل وتغيرات تاريخية هي:
- نشوء الدولة الحديثة واحتكارها لمشروعية استخدام القوة وإمساكها بزمام الحكم وتنظيمها إيّاه، والذي من شأنه أن يقمع النزعة العنيفة أو الإجرامية لدى الأفراد لإدراكهم بوجود عواقب قانونية جرّاء أفعالهم.
- التجارة وتبادل البضائع والذي أعطى قيمة أكثر للبشر الأحياء كونهم مفيدون اجتماعيًا كونهم منتجين أو مقدمي خدمات، الأمر الذي قلل معدل الجريمة وزاد من أهمية الحياة البشرية.
- حركة التأنيث والتي هي تقدير القيم الأنثوية والجانب الأنثوي في البشر ذكورًا وإناثًا كالحب والعطف والاهتمام.
- ظهور مفهوم المجتمع الأممي أو المواطنة العالمية، والناتجة عن انتشار القراءة والتكنولوجيا التي اختصرت المسافات وقرّبت وجهات النظر مما زاد التعاطف والتقدير المتبادل بين البشر.
- تصاعد الاهتمام بالمنطق وتطبيق المعرفة العقلانية على العلاقات الإنسانية، الأمر الذي جعل البشر يدركون أكثر عُقم وعدم جدوى النزاع والعنف والبحث عن طرق لحل النزاعات بالطرق السلمية.
أسهمت جميع هذه العوامل بشكل مباشر وغير مباشر في تقليل مستويات العنف والحد منه وإيصالنا إلى المظاهر الستة سابقة الذكر التي وصلنا لها.
ملائكتنا الأربعة الأفضل:
يشير هذا المصطلح إلى الخصال الموجودة فينا والتي يرى بينكر أنها تؤهلنا لنصبح أكثر سلامًا وهي:
- التعاطف الذي يجعلنا نشعر بألم الآخر ونساعده.
- ضبط النفس الذي يجعلنا نفكر في عواقب أفعالنا ونتصرف بناءً على ذلك.
- الحس الأخلاقي الذي يضع لنا محظوراتٍ وقوانين تنظم ما هو مقبول وغير مقبول في علاقاتنا وحياتنا.
- والمنطق.
انتقادات:
لم يسلم بينكر في كتابه هذا من نقد المفكرين، وأبرزهم نسيم طالب الذي كتب مقالة يتناول كيف يعارض استنتاجات بينكر ويصفها بالإحصائيات الطنانة والوصفية والتي تذهب سريعًا للاستنتاج أن العنف حاليًا مستحيل أو مستبعد.
كما أن عالمة الحاسوب Aaron Clauset اختبرت البيانات حول سوء الحروب الأخيرة ورأت أنه من المبكر أن نستنتج أننا في فترة هي الأكثر سلامًا وعلينا أن ننتظر على الأقل مئة عام أخرى لنصل لاستنتاج دقيق معقول.
كما أن عالم الأنثروبولوجيا R. Brian Ferguson تحدى نتائج بينكر المبنية على دلائل أحفوريّة والتي تتناول تكرارية الحروب عبر التاريخ وجادل أنها مختارة بشكل انتقائي ولا تعبر عن التاريخ ككل.
وكأي عمل يتناول الطبيعة البشرية، يبقى الأمر موضع جدل ودراسات، ومع ذلك، فنتائج بينكر مبشرة ومطمئنة، تجعلنا نؤمن أكثر بإنسانيتنا ونقدرها، ونسعى فعلًا لخلق عالم سلمي بلا عنف ونظهر الملائكة الأفضل لطبيعتنا البشرية.
المصادر:
- 1- https://en.wikipedia.org/wiki/The_Better_Angels_of_Our_Nature
- 2- https://www.nytimes.com/2011/10/09/books/review/the-better-angels-of-our-nature-by-steven-pinker-book-review.html
- 3- https://fourminutebooks.com/the-better-angels-of-our-nature-summary/#:~:text=1%2DSentence%2DSummary%3A%20The,caused%20this%20global%20reduction%20in
- 4- https://www.youtube.com/watch?v=GEa-hd5zfqk&t=1152s