يخطر ببال العديد منا، بمجرد سماع مصطلح الديمقراطية ، نظام حكم يعيش أتباعه برخاء ورفاهية يتقبل الفرد فيه الآخر، ويحصّل فيه صاحب الحق حقه، حتى أن البعض يصورها على أنها الدواء الشافي لجميع أدواء مجتمعاتنا الشرقية. بالمقابل، تلقت الديمقراطية انتقادات لاذعة من قبل المفكرين والفلاسفة على مر العصور، فما هي مآخذهم على الديمقراطية؟ وهل علينا فعلًا أن نخفض سقف توقعاتنا حيال هذا الشكل من أشكال الحكم؟ لنجد إجابات هذه الأسئلة علينا أوّلًا أن نعرّف الديمقراطية وأنواعها..

الديمقراطية

الديمقراطية هي كلمة يونانية مكونة من قسمين Demos ومعناها الشعب وKratos معناها السلطة أو الحكم، صِيغ المصطلح لأول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد ليشير إلى الأنظمة السياسية الموجودة آنذاك في بعض المدن اليونانية ولا سيما أثينا. عرّف الرئيس الأمريكي السادس عشر، إبراهام لنكولن، الديمقراطية بأنها «حكم الشعب، من قبل الشعب، ومن أجل الشعب»، ويتحقق ذلك عندما يكون المحكومون هم الحكام، أو عندما يشترك أكبر عدد من المحكومين في ممارسة السلطة (1). تأتي الديمقراطية بعدة صور، منها:

الديمقراطية المباشرة: يشارك فيها جميع المواطنين باتخاذ القرارات السياسية ويكون القرار بحكم الأغلبية. اتبع نظام الحكم هذا في أثينا القديمة، إلا أنه اقتصر على الذكور البالغين المتمّين للتدريب العسكري، واستثنى النساء والعبيد والعوام. تعد سويسرا الدولة الوحيدة التي تتبع نظام الديمقراطية المباشرة حاليًا، إذ لا يمكن تمرير أي تعديل دستوري في البلاد دون الحصول على الموافقة من مستويين، الوطني والكانتون (المقاطعة). يتعرض هذا النوع من الديمقراطية للكم الأكبر من الاعتراضات، وسنأتي على ذكرها لاحقًا.

الديمقراطية التمثيلية: يمارس الشعب في الديمقراطية التمثيلية الحكم بطريقة غير مباشرة من خلال النواب الذين انتخبهم ليمثلوه في البرلمان. كان ديكاناويدا (زعيم هندي أحمر) أول من أسس حكومة ديمقراطية تمثيلية (نيابية) في القرن السادس عشر حين شكّل عصبة أمم آيروكواس الخمسة من خمس قبائل هندية في المنطقة التي تعرف الآن باسم ولاية نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية. كان لنموذج حكومة الهنود الحمر التمثيلية هذه تأثير عميق على الفلاسفة البريطانيين، وعلى السياسي الأمريكي بنجامين فرانكلين، إذ ألهمت الأمريكيين والفرنسيين ليؤسسوا نظامين قائمين على الديمقراطية التمثيلية.

الديمقراطية شبه المباشرة: يجمع هذا النوع من الديمقراطية بين آليات الديمقراطيتين المباشرة والتمثيلية. يحتفظ المواطنون في الديمقراطية غير المباشرة بالحق في السيادة وبالقدرة على توجيه الحكومة من خلال أشكال مختلفة من العمل الشعبي، منها الاستفتاءات الملزمة.

الديمقراطية الرقابية: طُرح هذا المفهوم في محاولة لتجاوز الديمقراطية التمثيلية ومعالجة مساوئها. يمنح هذا النوع من الديمقراطية بعض المؤسسات (مثل منظمات حقوق الإنسان أو الصحافة أو منظمات المجتمع المدني) الحق في مراقبة عمل الدولة والهيئات الحاكمة بهدف تدقيقها وتصحيحها (2).

فلاسفة ومفكرون انتقدوا الديمقراطية

يستند منتقدو الديمقراطية إلى العديد من النقاط في حججهم، منها البطء في اتخاذ القرارات، والتكلفة الباهظة، وضرورة مشاركة نسبة كبيرة من المعنيين بالقرارات في كل عملية تصويت، والتمييز ضد الأقليات، وتبنيها من قبل الطبقات البرجوازية لخداع الفقراء، وغيرها. تمثلت أعظم مساوئ الديمقراطية ، من وجهة نظر الفلاسفة، في منح جميع الأفراد الحق في اتخاذ القرار على قدم من المساواة بغض النظر عن أهليتهم.

تفترض الديمقراطية المباشرة أن رأي جميع الأفراد متساوٍ في جدارته. نشأ هذا المفهوم من الفلسفة السفسطائية في اليونان القديمة، إذ وصف الفيلسوف السفسطائي، بروتاغوراس، الإنسان بأنه مقياس لجميع الأشياء، ما يعني أن الأفراد هم من يشكلون الحقيقة، وإذا كان إدراك الأفراد يمثل الحقيقة، فإن السياسة المثلى تتحقق بأخذ الحقيقة المشتركة بين الأغلبية بعين الاعتبار.

لم يقتنع سقراط، الذي يعد أحد أهم الفلاسفة في التاريخ، بالديمقراطية، وكان جهل الشعوب أحد أبرز حججه عند انتقاد بيئة النظام الديمقراطي، إذ رأى في تثقيف الناخبين وتعليمهم أمرًا ضروريًا حتى لا تكون قراراتهم المتخذة مجرد ضربة حظ أو لعنة تودي بمصير البلاد والعباد.

تحدث أفلاطون في كتابه «الجمهورية» عن حوار أجراه سقراط مع إدمانتوس. حاول سقراط إظهار عيوب الديمقراطية لإدمانتوس، فضرب له مثال اختيار قبطان سفينة ما، إما من خلال تحديد الراكب الأكثر دراية بقواعد الإبحار أو ترك حرية الاختيار للركاب الذين قد لا يكونون ملمين بإمكانات كل قبطان وقدرته، وأسقط هذا المثال على حكم البلاد.

لم يعتبر سقراط عامة الشعب أذكياء بما فيه الكفاية لإدارة الأمور، فقال «هناك شيء واحد صالح، هو المعرفة، وشر واحد، هو الجهل». كان التعليم بنظر سقراط أفضل أمل لتحقيق ديمقراطية فعالة، فالشعب الذي يفهم السمات المطلوبة للقيادة، يميز الفرق بين الممثل المخادع والقائد المشروع.

لم يكن انتقاد سقراط لذكاء عامة الشعب الانتقاد الوحيد الذي شهدناه منذ وضع أسس الديمقراطية. ففي أجزاء من كتاب (الجمهورية)، أشار أفلاطون إلى أن الديمقراطية «واحدة من المراحل الاخيرة في انحطاط الدولة المثالية، مرحلة رديئة جدًا وتدفع الشعب في نهاية المطاف إلى التوسل من أجل ديكتاتور ينقذه من الديمقراطية التي تجلب الطغاة» (3).

في عام 399 قبل الميلاد، حكمت هيئة من مواطني أثينا بإعدام سقراط بتهمتي الزندقة وإفساد عقول الشباب، ونفذ الحكم بتجرعه لسم الهيلموك القوي. مثلت هذه الحادثة أهم نقطة سوداء في تاريخ الديمقراطية.

لحظة إعدام سقراط. لوحة بريشة الفنان الفرنسي، جاك لوي دايفيد
لحظة إعدام سقراط. لوحة بريشة الفنان الفرنسي، جاك لوي دايفيد

 

وصف فلاسفة لاحقون الديمقراطية المباشرة بأنها غير عملية وغير أخلاقية فهي تلغي عقد لوك الاجتماعي الذي ينص على مفهوم مقايضة الحرية مقابل الأمان.

حذّر العالمان السياسيان آرثر لوبيا وماثيو دي ماكيوينز في كتابهما الذي يحمل عنوان «المعضلة الديمقراطية»، من عدم التطابق بين حاجات ومتطلبات الديمقراطية وقدرة الأشخاص على تلبيتها. واعتبرا أنه: «من الممكن أن يعجز الأشخاص المدعوون لاتخاذ خيارات مدروسة عن فعل ذلك. يمكن لهذا الجهل أن يتيح فرصة للأشخاص ذوي النوايا غير الحسنة في خداع الأشخاص البسطاء والجاهلين والتلاعب بهم». (4)

رأى لورنس لودوك من جامعة تورونتو في بحث له نُشر عام 2015 (5)، أن أحد مخاطر الاستفتاء تكمن في أن: «ينتهي المطاف بتصويت من المفترض به تناول مسألة عامة مهمة، أن يقرر شعبية حزب أو قائد معين من عدمها، أو سجل أداء الحكومة، أو مجموعة من المسائل أو الأحداث غير المرتبطة بموضوع الاستفتاء».

أبدى الفيلسوف الفرنسي، جاك رانسيير، اعتراضات أخرى على الديمقراطية، فقد وضح في كتابه «كراهية الديمقراطية» كيف تنبذ الحكومات الديمقراطية بقدر ما تعلن تبنيها الزائف لها فيقول: «ليست الديمقراطية شكلًا للحكم، ولا للمجتمع، وتتطلب ممارستها أن تتبلور خلال الصراع من أجل تحرير المجال العام، وتحتاج مؤسسات مستقلة، وقوانين تنظم عملها، وثقافة يتصرف وفقها الأفراد. لا يمكن تلخيصها في صندوق الاقتراع في غياب كل ما سبق». رأى رانسيير في كتابة دستور الولايات المتحدة مثالًا كلاسيكيًا على جهد المشرعين الأرستقراطيين لاستخلاص ما يمكن استخلاصه من الواقع الديمقراطي، مع احتوائه بصرامة من أجل الحفاظ على «منفعتين مترادفتين، وهما حكم من هم أفضل، والدفاع عن نظام الملكية»

جدل حديث حول مساوئ الديمقراطية

يجهل نصف الأمريكيين حيثيات ما يصوتون عليه

أثبتت الدراسات والأبحاث الاستقصائية في الولايات المتحدة الأمريكية قبيل الانتخابات البرلمانية لعام 2018، أن نصف البالغين الأميركيين لا يعرفون حصة كل ولاية من المقاعد في مجلس الشيوخ، ولا يعرفون إن كانت ولايتهم قد أقرت دستورًا خاصًا بها أم لا، ولا علم لهم فيما إذا كان برلمان ولايتهم مكونًا من مجلس واحد أو مجلسين، في حين فشل ثلثهم في تحديد مسؤوليات إدارة الغذاء والدواء (6). استشهد العديد من الباحثين بهذه الإحصائية كونها تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك محدودية ثقافة العوام بالأمور المتعلقة بالانتخابات التي يشاركون فيها.

جدل حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي

اعترض العديد من المثقفين وأعضاء البرلمان البريطاني على إجراء استفتاء شعبي للخروج من الاتحاد الأوروبي، لاعتبارهم أن جزءًا كبيرًا من الشعب البريطاني لا يعرف بالأساس ما إذا كان للخروج من الاتحاد عواقب إيجابية أم سلبية، ورأوا أن مثل هذه القرارات يجب أن تتخذ من قبل لجنة من المتخصصين بالاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية وغيرها من الاختصاصات المشابهة، لأنه من غير الممكن للعوام أن يتوقعوا عواقب هذا الإجراء (7).

مواطنة بريطانية تطالب بالتنفيذ السريع لنتيجة استفتاء يونيو 2016 التي جاءت مؤيدة لخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. مصدر الصورة: keystone.
مواطنة بريطانية تطالب بالتنفيذ السريع لنتيجة استفتاء يونيو 2016 التي جاءت مؤيدة لخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. مصدر الصورة: keystone.

خاتمة

وصف المنظر السياسي الأمريكي، توماس بين، الحكومات بأنها «شر ضروري، وقد تكون الديمقراطية هي أفضل أنواع الحكم، لأن الديكتاتور المقنع أفضل من الديكتاتور العلني» (8).تعاني الديمقراطية، خصوصًا المباشرة منها، من العديد من المشاكل، أهمها عدم إلمام الناخبين وصانعي القرار من عامة الشعب بجميع جوانب القرارات التي يصوتون عليها وبعواقبها المباشرة وغير المباشرة، ما قد يؤدي إلى إسكات صوت النخبة الواعية بحيثيات القرار على حساب صوت الأغلبية الجاهلة به، والتي قد تكون منقادة بشكل أو بآخر وراء بروباغندا إعلامية ما أو شخصيات مؤثرة لها مصالحها الخاصة في القرار المتخذ، أو قد تكون منحازة ضد الأقليات، وعادة ما يصوت العوام لصالح ما يعتقدون أنهم يصب في مصلحتهم دون أن يضعوا في اعتباراتهم الاحتياجات المختلفة للآخرين، إذ من المستبعد جدًا أن تدعم مجموعة ما فكرة تطلب منها تضحية من نوع ما لصالح المجتمع. مع ذلك، تبقى أنظمة الحكم الديمقراطي أقل سوءًا من أشكال الحكم الأخرى مثل الديكتاتورية والأوتوقراطية التي تنحصر فيها سلطة اتخاذ القرارات بيد شخص واحد أو كيان سياسي واحد بعيدًا عن رغبات المحكومين وتطلعاتهم.

المصادر:

1 – What Is Democracy (and What Is Its Raison D’Etre)? Published online by Cambridge University Press: on 19 June 2015.

2 – Types of Democracy: From Classical to New Institutionalism, by André Kaiser.

3 – Why Socrates Hated Democracy، and What We Can Do about It.

4 – The Democratic Dilemma: Can Citizens Learn What They Need to Know? (Political Economy of Institutions and Decisions).

5 – Referendums and deliberative democracy, by LawrenceLeDuc.

6 – JHU Survey: Americans Don’t Know Much About State Government. A survey by Johns Hopkins University.

7 – Brexit: MPs vote against giving public fresh referendum on EU withdrawal, by the Independent The independent.

Thomas painem، common sense، 1776.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا