مر الوعي البشري عبر التاريخ بعدة صدمات لا يزال يتعافى من آثارها حتى الآن، فبعد عشرات القرون التي اعتقد فيها الإنسان بأن الأرض التي يقطنها البشر مركز الكون، وبأن السماء والشمس والنجوم توابع لهذه الأرض، جاء كوبرنيكوس لينفي مركزية الأرض ويؤكد، في كتابه «حول دوران الأجرام السماوية» أن الكرة الأرضية ما هي إلا كوكب صغير في مجموعة كواكب تدور حول الشمس، وسبّب بذلك أول صدمة لكبرياء البشر الذين لطالما رأوا في أنفسهم أسيادًا للكون، أما الصدمة الثانية فكانت مع تدمير الأبحاث البيولوجية، التي قام بها داروين ووالاس وأسلافهما، لمكانة البشر المفترضة بين الكائنات الحية، والتي أثبتت انتماءهم لمملكة الحيوان، وتطورهم عبر ملايين السنين ليصلوا للشكل الذي هم عليه الآن، وتثبت أن ما من شيء يميزهم عن بقية الحيوانات سوى تطور إبهامهم وحبالهم الصوتية بالشكل الذي سمح لهم باستعمال الأدوات والتواصل بسهولة ونقل الخبرات وتدوين الابتكارات (1). مع ذلك، بقيت مسألة تميز البشر عن بقية الكائنات بالوعي، محل جدل بين العلماء والباحثين حتى يومنا هذا.
يستخدم العديد من المدافعين عن حقوق الحيوانات حجة الوعي لدى الحيوانات لتدعيم آرائهم المناهضة لإجراء التجارب العلمية المختلفة عليها، كما يستخدمها النباتيون والخضريون للترويج لأفكارهم التي تمنعهم من تناول لحومها أو حتى الاستفادة من حليبها وبيضها. فهل حججهم منطقية، وهل الوعي من سمات الحيوانات؟ أم أنه حكر على البشر؟
للإجابة على هذا السؤال علينا أولًا أن نجيب على أحد أكثر الأسئلة الفلسفية تعقيدًا..
ما هو الوعي؟
بذل الفلاسفة جهودًا مضنية للوصول إلى مفهوم الوعي، ووضعوا فرضيات متناقضة غير متناهية حول ماهيته، إذ يرى أتباع الفلسفة الروحية الشاملة أن جميع الموجودات، بما فيها الجمادات، واعية (2). بالمقابل، وعلى النقيض من ذلك، يرى بعض الماديين أن جميع الكائنات، بما فيها البشر، لا تمتلك قدرًا كبيرًا من الوعي.
ظل اختصاص تحديد طبيعة الوعي حكرًا على الفلاسفة فقط لعدة قرون، إلا أن العلماء دخلوا هذا المضمار أخيرًا في القرن الماضي، وتحولت بذلك قضية تحديد طبيعة الوعي من قضية فلسفية بحتة إلى قضية علمية يمكن التعامل معها من خلال التجارب المخبرية. مع ذلك، ما تزال البيانات الموثقة حول هذه التجارب محدودة للغاية. سهّل تطور علوم الأعصاب والنفس والأحياء في القرن الحادي والعشرين، عمليات وضع تصورات لمفهوم الوعي، ما ساعد على وضع أجوبة أكثر منطقية للأسئلة الغامضة المرتبطة بالوعي.
الوعي من وجهة نظر علم الأعصاب
وضع عالم النفس والأعصاب الأمريكي، مايكل ستيفن أنتوني جرازيانو، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين «نظرية مخطط الانتباه» في محاولة منه للإجابة على الأسئلة الكبرى المتعلقة بالوعي. تفترض نظرية جرازيانو أن الوعي تطور ليحل المشكلة الأساسية التي يعاني منها أي جهاز عصبي والمتمثلة بتدفق كم هائل من المعلومات التي عليه معالجتها بشكل كامل، وهو ما دفع الدماغ ليتطور ويزيد من آليات المعالجة التي يتبعها في محاولة منه للتركيز على بعض المعلومات ومعالجتها بشكل عميق على حساب المعلومات الأخرى الأقل أهمية (3). يمكننا، وفقًا لهذه النظرية، أن نعتبر بأن الوعي قد تطور تدريجيًا عند الكائنات الحية خلال الخمسمئة مليون سنة الماضية، وأنه من الممكن أن يتواجد عند بعض الأنواع من الفقاريات.
تطور الوعي عند الكائنات الحية
يمكننا فهم بداية تطور التعزيز الانتقائي للإشارات من خلال دراسة أنواع مختلفة من الحيوانات. تمتلك الهيدرا، ذات أبسط جهاز عصبي معروف، شبكة عصبية. يؤدي تنبيه أي نقطة من جسم الهيدرية لاستجابة جميع أجزاء جسمها، ما يثبت انعدام وجود أي نوع من المعالجة الاختيارية عندها. حدث الانفصال بين أسلاف الهيدرا والمفصليات، وفقًا للتحليل الجيني، قبل 700 مليون سنة تقريبًا، وظهر أول تعزيز انتقائي للإشارة بعد ذلك مع بداية الحياة المعقدة عند متعددات الخلايا. تبع ذلك تطور متحكم الانتباه المركزي الذي يعمل على تنسيق الإشارات العصبية القادمة من الحواس المختلفة، وتمثل هذا المتحكم، عند أغلب الحيوانات، ب «السقف الدماغي» الذي يوجه المستقبلات الحسية للتنبه للإشارات المهمة. تمتلك جميع الفقاريات، التي تطورت منذ حوالي 530 مليون سنة، سقفًا دماغيًا، ومن المحتمل أن تكون عملية التحكم المركزي بالانتباه قد بدأت بعد ذلك.
تمثلت مهمة السقف الدماغي ببناء ما يعرف بالنموذج الداخلي، الذي يعد عملية محاكاة لكل ما يتحكم به الدماغ بغية توقع نتائجه ما يتيح الشروع بعمليتي التوقع والتخطيط. يشتمل النموذج الداخلي على مجموعة من المعلومات المشفرة على شكل نمط معقد من نشاط الخلايا العصبية. تحاكي هذه المعلومات الحالة الحالية للعينين والرأس والأجزاء الرئيسة الأخرى في الجسم، مكونة تنبؤات معينة عن الطريقة التي ستتحرك بها هذه الأعضاء في المرحلة التالية وعن عواقب تلك التحركات.
ظهرت البارزة السهمية (الهايبرباليوم) مع تطور الزواحف منذ ما يقرب 350 مليون سنة، ويمكن ملاحظتها اليوم عن عند الطيور التي ورثتها من أسلافها الزواحف، أما عند الإنسان العاقل فقد تطور الهايبرباليوم ليشكل القشرة الدماغية التي تعد التركيب الدماغي الأكبر عنده (3).
صورة تشريحية لدماغ الطيور، توضح مكان البارزة السهمية (Hyperpallium)
إن أهم ما يميز القشرة الدماغية عن السقف الدماغي هو نوع الانتباه الذي يتحكم به كل منهما، إذ يعد الأخير مسؤولًا عن التحكم بالانتباه الجلي (توجيه الجهاز الحسي لأي منبهات مهمة)، أما القشرة الدماغية فمهمتها رفع مستويات الانتباه الخفي. مثال على ذلك، لا يحتاج الإنسان العاقل للنظر بشكل مباشر إلى حدث ما ليتنبه له «بشكل خفي»، فحتى لو أدار ظهره عنه، ستبقى قشرته الدماغية قادرة على تركيز مواردها لمعالجة المعلومات الواردة من هذا الحدث.
لنفترض أنك تمكنت من ربط دماغ تمساح ما بجهاز يمكنه أن يحول المعلومات الموجودة في نتوئه السهمي لكلام مفهوم، قد يتلفظ التمساح بهذه الكلمات: «لدي شيء غير محسوس بداخلي، ليس ماديًا، ولا هو رأس ولا عين ولا ذراع، هذا هو الامتلاك العقلي للأشياء عندي، وهو يتحرك من مجموعة أشياء لمجموعة أخرى. وعندما تمسك هذه العملية الغامضة بشيء ما، تتيح لي أن أفهم وأن أتذكر وأن أستجيب».
بلا شك، سيكون هذا التمساح مخطئًا لأن الانتباه الخفي عنده له أساس فيزيائي محسوس على شكل تشابكات وإشارات عصبية. أما دماغه فلا حاجة له بالعلم بهذه التفاصيل، ولذلك يكون مخطط الانتباه مبهمًا. يصور مخطط الانتباه الانتباهَ الخفي بصورة غير مترابطة فيزيائيًا، ويعرفه على أنه وجود بجوهر ذي سمة لافيزيائية، وهو، وفقًا لنظرية مخطط الانتباه، أصل الوعي.
يركز علماء النفس عند دراستهم للمعرفة الاجتماعية على نظرية العقل التي تعني قابلية الشخص لفهم ما يُحتمل وجوده في عقل الآخر. يمكن تطبيق نظرية العقل على الغربان، فعلى سبيل المثال، إذا خبأ غراب ما طعامه في حفرة ما وكان هناك غراب آخر يراقبه، فإنه ينتظر رحيله حتى يعود ليخبئ طعامه في حفرة أخرى، وكأنه قادر على تحليل معرفة الغراب الثاني بمكان التخبئة الأول وعجزه عن معرفة المكان الثاني. في حال تواجدت قابلية عزو الوعي للآخرين عند الثدييات والطيور، فمن المحتمل أن تكون قد انحدرت عن سلفهما المشترك، الزواحف. بدأ الإدراك الاجتماعي بالظهور بشكل واضح، وفق لنظرية مخطط الانتباه، بعد فترة وجيزة من تشكل الهايبرباليوم عند الزواحف.
تشير نتائج التجارب المخبرية التي قام بها العالم مايكل ستيفن أنتوني جرازيانو في مختبره إلى أن الشبكات العصبية في الدماغ البشري، التي تسمح له بعزو الوعي للآخرين، تتداخل بشكل كبير مع الشبكات التي تبني الإحساس بالوعي الذاتي. (3)
أدلة على الوعي عند الحيوانات غير البشرية، رأسيات القدم كمثال:
أثبتت التجارب أن رأسيات القدم (الأخطبوط والحبار والسبيدج وغيرها) تمتلك إدراكًا بصريًا وكيميائيًا عن طريق اللمس. تمتلك هذه الحيوانات القدرة على تحسس الضوء المستقطب، ويمكنها التمييز بين أنماط التباين المختلفة، كما تم الإبلاغ عن اتباعها لسلوك لعب مرتبط بالعواطف الإيجابية (4)، فقد لاحظ مجموعة من العلماء عملوا على مراقبة سلوك مجموعة من الأخطبوطات لعبها بزجاجات بلاستيكية من خلال نفثها بالماء وتكرار نفس السلوك عند إعادة التيار للزجاجات مرة أخرى بهدف التسلية (5).
يمتلك الحبار القدرة على دمج الخبرات عبر الزمن لتوجيه السلوك، ويمكنه تذكر إجابات أسئلة «ماذا وأين ومتى» المتعلقة بالأحداث الماضية (ذاكرة شبيهة بالعرضية)، ويبحث عن فرائسه بالاعتماد على ما سبق له أن تناوله، وعلى المكان الذي حصل فيه على وجبته السابقة، ومقدار الوقت المنقضي على تناول آخر وجبة، ويربط سلوك البحث عن الطعام برؤية فريسة أو شم رائحتها في مناسبة سابقة. يمكن للحبار أيضًا استخدام توقعاته للمستقبل القريب لتعديل سلوكه، فيأكل كميات أقل من سرطان البحر في حال كانت هناك احتمالية لتناول الجمبري في وقت لاحق. (6) (7) (8)
ما من دليل واضح على امتلاك رأسيات القدم القدرة على إدراك ذواتها، لكن قدراتها المتطورة على التمويه والتشبه بأشياء غير حية، وعلى تقليد الحيوانات والأحياء السامة (بما في ذلك الطحالب) توحي بفهمها للشكل الذي تظهر عليه أجسادها للكائنات الأخرى.
وثيقة «إعلان جامعة كامبريدج حول وعي الحيوانات غير البشرية»
في عام 2012، وقع مجموعة من علماء الأعصاب في جامعة كامبريدج وثيقة «إعلان جامعة كامبريدج حول وعي الحيوانات غير البشرية» التي نصت على ما يلي:
«تملك الحيوانات غير البشرية الركائز العصبية الوظيفية والتشريحية والكيميائية التي تولد حالات الوعي، إضافةً إلى قدرتها على إظهار السلوك الواعي، وبناءً على ذلك، تشير معظم الأدلة إلى أن البشر ليسوا متفردين بامتلاكهم الركائز العصبية التي تولد الوعي، فالكائنات غير البشرية من الثدييات والطيور وكائنات أخرى مثل الأخطبوط تملكها أيضًا». (9)
الفقرة الأولى من «إعلان جامعة كامبريدج حول وعي الحيوانات غير البشرية»
تبع هذا الإعلان تعاون بين العديد من علماء الأعصاب والعلماء المتخصصين بعلم الأحياء التطوري وعلماء النفس المقارن والفلاسفة للإجابة عن هذه الأسئلة، وتمخض عن هذا التعاون تأسيس دورية أنيمال ساينس (Animal Science Journal) في عام 2016 بهدف دراسة الحياة الداخلية للحيوانات (تجاربهم الشخصية ومشاعرهم) بأساليب علمية صارمة، وبالاعتماد على نماذج الدراسة العلمية للوعي البشري.
يواجه ميدان دراسة الوعي عند الحيوان تحديات منهجية كبيرة لأنه من غير الممكن للكائنات غير البشرية الإبلاغ شفهيًا عن تجاربها. لكن، وبالمقابل، في حال كنت تعتقد بأن عدم وجود بلاغات شفهية يحول دون إجراء أي تحقيقات علمية حول الوعي الحيواني، فيجب أن تكون مقتنعًا بأن ذلك ينطبق أيضًا على الأطفال الرضع وعلى المرضى غير الواعين.
خاتمة
تمكنت الدراسات والتجارب العلمية التي أجراها علماء الأعصاب والأحياء في العقود الأخيرة من التأكيد على قدرة بعض الحيوانات على الاستفادة من الخبرات السابقة للتخطيط للمستقبل القريب، وربط سلوكياتها بتغير عوامل معينة بالبيئة المحيطة بها وغيرها من السلوكيات التي يمكن اعتبارها ناتجة عن وعي الحيوانات بالبيئة المحيطة بها أو حتى بذواتها. لكن تبقى مسألة البت فيما إذا كانت هذه القدرات كافية لتحديد امتلاك الحيوانات لـ «الوعي» تعتمد بشكل أساسي على تعريفه الذي ما يزال موضع جدل بين العلماء والفلاسفة حتى الآن.
المصادر:
1 – Copernicus, Darwin, Freud, Friedel Weinert.
2 – Consequences of Panpsychism Steven Shaviro.
3 – A New Theory Explains How Consciousness Evolved
A neuroscientist on how we came to be aware of ourselves By Michael Graziano.
4 – When do octopuses play? Effects of repeated testing, object type, age, and food deprivation on object play in Octopus vulgaris
5 – A. Mather, R.C. Anderson
Exploration, play and habituation in octopuses (Octopus dofleini)
Comp. Psychol., 113 (1999), p. 333
6 – Jozet-Alves, et al.
Evidence of episodic-like memory in cuttlefish
Curr. Biol., 23 (2013), pp. R1033-R1035
7 – Billard, et al.
Cuttlefish show flexible and future-dependent foraging cognition
Biol. Lett., 16 (2020), Article 20190743
8 – Billard, et al
Cuttlefish retrieve whether they smelt or saw a previously encountered item
Sci. Rep., 10 (2020), pp. 1-7
9 – The Cambridge Declaration on Consciousness was written by Philip Low and edited by Jaak Panksepp, Diana Reiss, David Edelman, Bruno Van Swinderen, Philip Low and Christof Koch. The Declaration was publicly proclaimed in Cambridge, UK, on July 7, 2012, at the Francis Crick Memorial Conference on Consciousness in Human and non-Human Animals, at Churchill College, University of Cambridge, by Low, Edelman and Koch