اتسمت العصور القديمة بشكل عام بتحكم السلطة، الدينية أو الملكية أو غيرها، بالحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للأفراد الخاضعين لسيطرتها، وخضعت المؤسسات لرقابة صارمة تقيّد التفكير الحر، ووضعت السلطات تعاريفًا خاصة بها للسلوك الصحيح الذي يتوجب على الأفراد الالتزام به، وقوانين صارمة لعقاب كل من يخلّ به. مع تراجع قوة هذه السلطات وتطور مفهوم الحرية، نمت النزعة الفردانية بشكل تدريجي ونمت معها الحاجة لتقييد سلطة الحاكم على المجتمع، وظهرت نظريات ومبادئ جديدة لقيادة المجتمعات تركز على منح الأفراد حريتهم الكاملة بما لا يضر محيطهم.

الفردانية والحرية في فكر جون ستيوارت ميل

كان الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل (20 مايو 1806 – 7 مايو 1873) أول من وسع معنى الحرية ليشمل الحرية الاجتماعية وحرية التصرف بالجسد والاستقلالية في اتخاذ القرار بعد أن كان منحصرًا فقط بالتحرر من العبودية. تطوّر تفكير جون ميل من مذهب المنفعة الكلاسيكي إلى مراجعات أكثر اكتمالاً للنفعية، وقدّم أطروحات أجاب فيها على العديد من الأسئلة المتعلقة بالحكم الصالح والتمثيل السياسي ساهمت في بناء مفهوم الإنسان القادر على التنمية، وكان لها أثر ملحوظ على النظريات السياسية اللاحقة.

رسم للفيسلوف والاقتصادي البريطاني، جون ستيوارت ميل، بريشة الفنان جورج فريدريك واتس.
رسم للفيسلوف والاقتصادي البريطاني، جون ستيوارت ميل، بريشة الفنان جورج فريدريك واتس.

رأى ميل تنوعًا كبيرًا في الطاقات البشرية، وآمن أن لكل فرد قدرات مختلفة عن الآخر، وحمّل المجتمع مسؤولية تأمين الظروف الملائمة لكل فرد ليكتشف مهاراته الخاصة بشكل فاعل بما يعود، في نهاية المطاف، بالمنفعة على المجتمع بأكمله. تبنى ميل مبدأ الفردانية، واعتبرها ركنًا أساسيًا وجوهريًا لقيام الحضارات، وأكد على تعزيز مبادئ التنوع والاختلاف، وازدرى كل أنواع المطابقة واستنساخ الأفراد، فالمجتمع الذي يلغي شخصية الفرد ويعمل على تنميطه وقولبته يحوله، وفقًا لميل، إلى آلة معدومة التفكير وعاجزة عن الإبداع والابتكار وخلق الأفكار الجديدة.

حذر ميل من استبداد الجماهير التي تتخوف من الأفكار الجديدة الخارجة عن الذوق العام للمجتمع، واعتبر أن الذائقة الاجتماعية غير عقلانية في بعض الأحيان، ومبنية على الجهل في أحيان أخرى، واعتبر طغيان المجتمع أشد ضراوة من طغيان الحكومات.

إنّ مفهومي الحرية والفردانية، في فكر ميل، مترابطان لا يمكن لأحدهما أن يتحقق دون الآخر، فالحرية التي لا تعطي الأفراد حقوقًا فردية هي حرية مزيفة، والقوانين التي تضطهد الأفراد أو الأقليات هي قوانين ظالمة.

متى يحق للمجتمع فرض سلطته على الأفراد؟

لوضع حدود لسلطة المجتمع على الأفراد، ميز ميل، في كتابه أسس الليبرالية السياسية، نوعين من الأفعال الفردية: يؤثر النوع الأول منها على المجتمع بشكل أو بآخر، أما النوع الثاني فلا يتعدى أثره الفرد نفسه. أعطى ميل المجتمع الحق في تنظيم الأفعال في النوع الأول فقط، ورأى أنّ تدخل المجتمع في الأفعال من النوع الثاني سيؤدي إلى حدوث ما سماه ب «طغيان الأغلبية». كانت التفرقة بين هذين النوعين بمثابة الحد الفاصل بين الاستقلالية الفردية والخصوصية من جهة ومسؤولية الفرد تجاه مجتمعه من جهة أخرى.

يرى ميل أن جميع السلوكيات والنشاطات التي لا تؤثر إلا على الفرد الذي يمارسها (أو تؤثر على فرد آخر أو مجموعة أخرى من الأفراد لكن بموافقتهم) يجب أن تكون قانونية ومقبولة اجتماعيًا، ويجب على المجتمع أن يشجع أفراده على استغلال جميع طاقاتهم بما لا يضر بمصلحة الآخرين، ولا ينبغي للآخرين أن يحاولوا منع أي فرد من فعل ما يشاء بحياته. يبرر ميل موقفه هذا بأنه من الممكن أن تتنوع الاهتمامات بين شخص لآخر بشكل لا حصر له، بل وقد يرى شخص ما اهتمامات الآخرين تافهة، حتى أن تعريف الرفاه الذي يسعى جميع أفراد المجتمع لتحقيقه يختلف من فرد إلى آخر.

يحدد ميل مجال حرية الفرد بما يلي:

أولًا: حرية الضمير وما يتصل بها من حرية الفكر والعقيدة والتعبير والمناقشة بأوسع معانيها.

ثانيًا: حرية اختيار الفرد لما يتوافق مع ذوقه الخاص ورسم مستقبله وحياته بالشكل الذي يرضيه دون أن يتعرض بالأذى للآخرين.

ثالثًا: حرية الاجتماع دون إكراه لأي غرض.

رابعًا: حرية التفكير والشعور.

خامسًا: حرية مشاركته تفاصيل حياته مع من يريد.

سادسًا: الحرية الدينية والتي لا تصبح مشروعة إلا عندما تدرك مجموعات الأقليات أنها لايمكن أن تخضع للهيمنة من الأكثرية، وأن تناضل من أجل تطبيق الحرية الدينية في القانون.

يستثني ميل الأطفال و «المجانين» من الحق في الحرية، فيرى أن للآباء الحق بالتدخل بتصرفات أطفالهم حتى ولو لم تكن ضارة بالغير، لأنه من الممكن للطفل، غير الواعي، أن يضر بنفسه أو بغيره دون دراية.

يمكن لبعض السلوكيات التي يقوم بها الفرد أن تؤثر على مصالح الآخرين وتضر برفاهية المجتمع ككل. فعندما يقصر فرد ما بواجباته تجاه المجتمع، على المجتمع أن ينبذه ويستنكر تصرفه. يقدم ميل مثالًا على ذلك، بأنه عندما يعجز فرد ما عن الإيفاء بديونه بسبب أسلوب حياته المرفه، يجب أن يخضع للعقاب لإضراره بمصالح المجتمع. بالمقابل، يرى ميل أن قرار إسراف فرد ما على نفسه لا يستوجب العقاب بحد ذاته، لأنه قرار شخصي، ويتوجب على المجتمع احترامه. أما إذا كان فعل الإسراف يؤثر بطريقة غير مباشرة على المجتمع، ودون أن يخل ممارسه بالتزاماته تجاه مجتمعه، فإن «على المجتمع أن يتحمل هذا الإزعاج من أجل الصالح العام للحرية الإنسانية». لا يمكن، وفقًا لميل، معاقبة أي فعل إلا في حال كان مؤذيًا للآخرين، لكن يمكن انتقاده وإبداء آراء سلبية تجاهه، لأن الآراء والأفكار يجب أن تكون حرة تمامًا بينما تخضع الأفعال للضوابط التي تمنعها من أذية الأخرين.

لم يسعَ ميل لمنع الأفراد من الإشارة إلى ما يرونه خاطئًا في سلوك الآخرين، ولا من تجنب شخص ما أو تحذير الآخرين منه. رأى ميل أن هذا النوع من العقوبات مقبول إلى حد ما لأنها ردود فعل طبيعية على سلوك الفرد، ولا يُقصد منها معاقبته. مع ذلك، لم يرَ ميل أي حق للناس في ازدراء تصرفات الفرد ولا في إزعاجه أو معاملته بغضب أو اعتباره عدوًا لهم لمجرد انخراطه بنشاطات غير شائعة ليس لها أي تأثير سلبي على المجتمع.

خاتمة

إن استبداد المجتمع هو أسوأ ما قد يتعرض له الفرد، إذ من الممكن للعادات والتقاليد والقوانين المتوارثة التي يتفق عليها المجتمع ويفرضها على أفراده أن تكون منافية للعقل والمنطق ولا تخضع سوى للوهم أو الهوى. يقف التعصب لفكرة ما أو لعقيدة ما، حائلاً أمام حرية الفكر والضمير التي تشكل أساس الإبداع والابتكار ونواة ازدهار المجتمعات. انطلق الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل من هذا المبدأ ليضع أحد أسس الليبرالية السياسية القائمة على منع المجتمع والحكومة من التعرض لحرية الفرد إلّا بهدف حماية الآخرين منه أو لمنعه من إلحاق الضرر بغيره.

لا يمكن لأحد اليوم نكران حقيقة أن الدول التي طبقت مبادئ الليبرالية السياسية (كأستراليا ونيوزيلندا وبعض دول أوروبا الغربية) أصبحت نموذجًا يحتذى به في فن إدارة المجتمعات من خلال وضعها الأفراد على رأس قائمة أولوياتها وإيمانها بأن الدول تُقام بالأساس لحماية حقوق الأفراد ومنحهم حرياتهم.

المصادر:

La democracia según john Stuart Mill, Publicado por Pablo Simón.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا