هل أمكننا يومًا تخيل العالم دون الصراعات المستمرة بين الدول الكبرى، أو الصراعات بين الأمم على الثروات، وهل يمكن تخيل العالم من دون التهديدات المستمرة بالحروب العسكرية أو النووية أو غيرها.
هذه الأرض تملؤها الصراعات والنزاعات، الدولية والوطنية وحتى القبلية، وتتحكم فيها عوامل عديدة يصعب حصرها. لعلنا يجب أن نبحث عن سبلنا كأمم نحو السلام العالمي، ذاك السلام المُحقق على المستويات القومية والمتحرر من الاضطرابات المدنية، والذي يشمل السلام الدولي والعلاقة السلمية بين جميع الدول، أن نبحث عن التعايش السلمي بين أبناء الأرض.
لم يكن البحث في فكرة السلام العالمي- أو بالأحرى البحث في فكرة السلام الدائم- حديث المنشأ عندما نشر تشارلز إيرني كاستل دو سان بيير مقالته «مشروع السلام الدائم» دون ذكر اسمه أثناء عمله كمفاوض لمعاهدة أوترخت. إلا أن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط عاد وبحث في الموضوع لينشر كُتيّبه المهم «السلام الدائم: مخطط فلسفي» والذي تُرجم إلى العربية بعنوان «مشروع للسلام الدائم».
يعد كانط من أهم الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوروبية الحديثة، ومن مفكري عصر التنوير، وجعلته أعماله الشاملة والمنهجية في نظرية المعرفة والميتافيزيقا والأخلاق وعلم الجمال أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في الفلسفة الغربية الحديثة. مازالت آراء كانط تؤثر بشكل كبير على الفلسفة المعاصرة، لا سيما مجالات نظرية المعرفة والأخلاق والنظرية السياسية وجماليات ما بعد الحداثة. حاول أن يشرح العلاقة بين العقل والخبرة البشرية وأراد أن يضع حدًا لما رآه حقبة من النظريات غير المجدية والمضاربة للتجربة الإنسانية، بينما رفض شكوك مفكرين مثل هيوم.
جادل إيمانويل كانط بأن السلام يمكن أن ينشأ بين الدول بمجرد أن تشترك في ثلاث سمات: الديمقراطية التمثيلية، والالتزام بالقانون والمنظمات الدولية، والتكامل التجاري المتقدم. يبدأ كانط من النقطة التالية: الدول إما في حالة حرب أو تعيش في سلام بحكم الأمر الواقع، وهو غير مستقر وغير ثابت. لا يقدم كانط برنامجًا فوريًا للسلام، لكن يمكن تحقيقه على المدى البعيد، إذ يريد تحويل حالة السلام إلى حالة قانونية، بعلاقات قانونية بين الدول.
يقول كانط: «حالة السلام ليست الحالة الطبيعية، بقدر ما هي حالة الحرب، لذا يتوجب التأسيس لحالة السلام». وقد حدد في كتيّبه ضمن القسم الأول البنود التمهيدية للخطوات التي يجب اتخاذها بشكل فوري وهي:
- تنهي الهدنة نزاعًا معينًا لفترة قصيرة، في حين أن المعاهدة طويلة الأجل تزيل أسباب النزاعات المستقبلية ومن ثم تؤسس لسلام دائم. المعاهدات المفترضة مجرد هدنات دون كرامة الملوك.
- الدول ليست ممتلكات ولا يمكن شراؤها أو بيعها. فالدولة تشبه الإنسان أكثر من كونها شيئًا فهي «جذع بجذوره الخاصة». وإذا أمكن شراؤها، فلن يكون لها أي سلطة على الناس.
- الجيوش الدائمة (الجيوش المحشودة في وقت السلم) تشجع الحرب ويجب إلغاؤها. اعتبار المرتزقة (الجنود المأجورين) منخرطين في أعمال غير أخلاقية، إذ يجب على الجنود التطوع بدون أجر في حالة حدوث عدوان أجنبي.
- يحفز نظام الائتمان الوطني الذي يقترض من دول أخرى، مع احتمال الإفلاس أكثر من احتمال السداد، الحروب ويجب حظره. يجب على الدول التحالف ضد أي دولة تستخدم مثل هذا النظام الائتماني (مثل إنجلترا).
- لا يحق لأي ولاية أو سلطة التدخل في دستور أو حكومة أي دولة أخرى.
- الحرب- بحكم تعريفها- هي السعي العنيف للدول من أجل التوصل إلى اتفاق حول مسألة لم يكن هناك حكم قانوني بشأنها. يجب على الدول خلال الحرب أن تمنع استخدام تكتيكات مثل التجسس والاغتيالات، لأنه «يجب الحفاظ على بعض الثقة في شخصية العدو حتى في خضم الحرب» إذا كان مقدرًا أن يكون للسلام سبيل. يجب حظر حرب الإبادة الكاملة.
يحتوي القسم الثاني من الكتاب ثلاث مقالات نهائية من أجل السلام الدائم:
«يجب أن يكون الدستور المدني لكل دولة دستورًا جمهوريًا»
جميع الأشخاص أحرار ومتساوون ويعتمدون على التشريع العام. يتطلب الدستور الجمهوري موافقة المواطنين على القتال في الحرب ودفع ثمن الحرب. تعني كلمة «جمهوري» أن السلطة التنفيذية منفصلة عن السلطة التشريعية، فمن المرجح أن يكون الدستور جمهوريًا إذا كان عدد الحكام صغيرًا، ومن الناحية المثالية ملكيًا. أما في حالة الديمقراطية فلا مفر من الثورة العنيفة لأن الجميع يريد أن يصبح ملكًا.
«يجب أن يقوم قانون الشعوب على التحالف بين دول حرة»
يجب أن تلتزم الدول بدستور مشترك مشابه لدستورها، دون أن تفقد هوياتها المميزة. معاهدة السلام تنهي حربًا واحدة، أما عصبة سلام ستنهي كل الحروب. ستكون فكرة ألا يكون هناك حروب منطقية فقط عندما تتوفر عصبة من الدول لتأسيس الفكرة وفرضها.
«يقتصر قانون المواطنة العالمية أو الأجنبية على شروط كرم الضيافة العالمي»
يجب أن يكون لكل فرد الحق في زيارة أي مكان على وجه الأرض. العداء للزوار مخالف للقانون الطبيعي، وإن كرم الضيافة هو السبيل الوحيد للسلام.
إن حجة كانط واضحة ومباشرة، إذ يتحدث في السلام الدائم عن حالة الظلم التي تجد الدول نفسها فيها، كما تكون منخرطة في فوضى دولية بدون سلطة أعلى. إذ يجب على الدول أن تنشئ نظامًا قانونيًا دوليًا في شكل اتحاد دول تخضع لسلطة قضائية مشتركة. عندها فقط يصبح الإجبار منظمًا على الصعيد الدولي ويمثل الإرادة الشاملة للجنس البشري، تمامًا كما تمثل الدولة إرادة شعبها. قد تنتهي الحرب إذا خضعت الدول لهذا النظام، وهو ممكن فقط في اتحاد الجمهوريات، لأنها وحدها سوف تتشكل بطريقة تلغي الدافع للحرب.
تتشابه مقالة كانط إلى حد ما مع نظرية السلام الديمقراطي. تنبأ كانط بهذه النظرية في «السلام الدائم: مخطط فلسفي»، على الرغم من اعتقاده أن كون العالم بجمهوريات دستورية فقط يشكل شرطًا من عدة شروط ضرورية لسلام دائم. كانت نظرية كانط هي أن غالبية الناس لن يصوتوا أبدًا للذهاب إلى الحرب، إلا في حالة الدفاع عن النفس. لذلك لو كانت كل الدول جمهوريات، كانت ستنهي الحرب، لأنه لن يكون هناك معتدين. قدم توماس بين ادعاءات مماثلة أو أقوى حول الطبيعة السلمية للجمهوريات، إذ كتب في كتابه «المنطق السليم» عام 1776: «إن جمهوريات أوروبا كلها (ويمكن أن نقول أنها دائمًا) في سلام». وجادل المؤرخ الفرنسي وعالم الاجتماع ألكسيس دي توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا» أن الدول الديمقراطية كانت أقل عرضة لشن الحروب.
كانط الذي تفاءل بالسلام الدائم، كان أقل تفاؤلاً في أماكن أخرى بشأن آفاق السلام. وهو يدعي وفق مبدأ عقيدة الحق أن «السلام الدائم، الهدف النهائي للحق الكامل للأمم، هو بالفعل فكرة غير قابلة للتحقيق». كما يصف تاريخ الجنس البشري بأنه مبتلى بخصومة حتمية لا يمكن- ولا ينبغي بالفعل- معالجتها.
السلام الدائم- كما ذكر كانط سابقًا- ليس أكثر من فكرة، وغاية لا يمكن تحقيقها أبدًا، مثل الخير المطلق أو المعرفة المطلقة، ولكنها تمثل هدفًا ثابتًا لنشاطنا. يتطلب القانون الأخلاقي أن نسعى جاهدين لإقامة العدل في العلاقة بين الدول المدنية من خلال إنشاء نظام عالمي ليبرالي. إلا أن كانط نوه إلى أسباب تجريبية تعطل هذه المهمة، مثل تنافس الدول، وانحسار الإمبراطوريات، وروح الاستحواذ، وما إلى ذلك.
كان تأثير كتيّب كانط هائلاً، إذ أدت أفكاره إلى ظهور نظرية السلام الديمقراطي، التي أثرت في السياسات الخارجية للعديد من الدول الليبرالية. شكلت فكرته عن اتحاد عالمي جزءًا من الأساس الفكري لتأسيس عصبة الأمم ولاحقًا الأمم المتحدة، وكان تركيزه على الحق العالمي في الضيافة، أو ما نعرفه باسم حقوق اللاجئين، ذا أهمية عالمية متزايدة.
المصادر:
https://en.wikipedia.org/wiki/Immanuel_Kant
https://www.the-philosophy.com/kant-perpetual-peace-summary
http://deadmenblogging.blogspot.com/2015/04/a-compressed-500-word-summary-of_8.html
https://nationalinterest.org/feature/immanuel-kant-the-myth-perpetual-peace-22087