كثيرًا ما تتجه الأذهان نحو الدراسات التطوّرية وذلك عندما يتعلّق الأمر بالكشف عن الجوانب الحيوية للإنسان كدراسة آليات التطور البيولوجي، التي تُظهر سِماتنا المختلفة، والمُصنّفة تبعًا للصفات البنيوية من طول وشكل ولون. لكننا نرى بأن تلك الدراسات قد أفسحت المجال لظهور فرضيات تقوم بتوظيف علم الإنسان لتدعم ذاتها، وتصنّف البشر لفئات منفصلة جسديًا، وتجعل أجناس منها أكثر رقيًا من أجناس الأخرى، وإذا ما أردنا جمع كل ما سبق بكلمة واحدة، سنجد أنها « العنصرية »، فما هي العنصرية ؟ وكيف ظهرت، ومتى؟ 

العنصرية هي اعتقاد وسلوك يتخذه الفرد وتتحدد بمقتضاه قيمة الإنسان تبعًا لسِمات عرقه من فضائل وعيوب، لكن العنصرية تتجلّى دومًا بممارسات تقوم على العداوة والاضطهاد والتهميش لفئات معيّنة على أساس عرقيٍّ أو ديني أو ثقافيّ، قد تصل تلك الممارسات إلى التطرّف واستخدام العنف وحتى القتل!

تاريخيًا

تُعتبر العنصرية –كاصطلاح- حديثة نسبيًا، وتعود لثلاثينيات القرن العشرين، لكن العنصرية كممارسة وأفعال لطالما كانت موجودة قبل أن تحدد كمصطلح بكثير. لو عدنا بالزمن للوراء أكثر، لوجدنا بأن جذور العنصرية تمتد لتصل لعصور قديمة سنعمل على توضيحها علميًا، وسياسيًا وصولًا ليومنا هذا في مخطط زمني:

  • القرن الثامن عشر ومُفكريّ عصر التنوير 

ظهرت في حقبة عصر التنوير مجموعة من المفكرين ممن أطلقوا نظريات ومفاهيم جديدة حملت في طياتها العنصرية عندما تضمّنت انحدار كل الأجناس من أصل واحد، وإن تعددت الأجناس فإن لكلٍ عرقِ منها أصل منفصل. لاقت هذه النظريات العنصرية شعبية كبيرة.

أحد أولئك المفكرين كان الفيلسوف وعالِم الإنسان والرحّالة الفرنسي فرانسوا بيرنير، الذي نشر مقالًا عام 1684 حمل اسم (New Division of the Earth by the Different Species or ‘Races of Man that Inhabit It) قسّم فيه البشر إلى أعراق، وميّز فيها الأفراد -لا سيما النساء منهم- تبعًا للون البشرة، وبعض السِمات الجسمانية الأخرى، مستندًا لخبرته الشخصية كرحّالة. ميّز بيرنير في مقاله أربعة أعراق مختلفة:

  • العِرق الأول: شعوب أوروبا، شمال أفريقيا، الشرق الأوسط، الهند، جنوب شرق آسيا، والأمريكيتين.
  • العِرق الثاني: الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى.
  • العِرق الثالث: شعوب شرق آسيا وشمالها الشرقي.
  • العِرق الرابع: الشعوب السامية.

أدلى بيرنير بتعليقات عنصرية تجاه بعض الأعراق كالأفارقة ممن يعيشون في رأس الرجاء الصالح، واللابيين فقال:

«إنهم عِرق صغير، وقصير بساقين سميكتين، وكتفين عريضين، ورقبة قصيرة ووجه لا أعرف كيف أصفه، لكن مما رأيته وما سمعته من عدد من الأشخاص، كانوا حيوانات بشعة».

نوقِشت أفكار بيرنر في عصرنا، ووصفه البروفيسور سيب ستورمان بأنه (بداية الفكر العنصري الحديث)، وأسماه الباحث جوان باو روبيس (الخطاب العنصري الحديث).

  • أمريكا والمنظمات العرقية

بدأ فِكر العنصرية وسيادة البِيض في الولايات المتحدة منذ وصول المهاجرين الأوروبيين للولايات المتحدة ورغبتهم بالتوسع والاستقرار فيها، وُلدت العنصرية ضد السكّان الأصليين، وأطلقوا عليهم تسميات كالـ «المتوحشين والهمجيين»، وآمنوا بضرورة أن تعلمهم الحضارة الأوروبية معنى التمدّن والتحضّر. أدت تلك الأفكار لمحاولات إبادتهم إبادة جماعية وسلبهم ما يملكون من أراض.

توسّعت سطوة العنصريين أكثر في أمريكا لتشمل معهم المهاجرين من الدول الأفريقية، إذ سُلبت حريّتهم وأصبحوا يعملون عبيدًا وخدمًا لدى الأوروبيين البيض، وأصبحت حريّتهم تُباع وتشترى بين الأسياد.

كان تهميش واستبعاد كل أمريكي من أصول أفريقية أمرًا شائعًا في الولايات المتحدة، سُلبت حريّة الملايين، وحُرم العديد من غير البيِض الوصول للمناصب الحكومية على إثر الأفكار العنصرية التي عززتها الحرب الأهلية. استخدم البيض موضوع العِرق ليُضفوا شرعية لأنفسهم ويخلقون فروقات اجتماعية واقتصادية، ويظل الميدان السياسي حكرًا لهم.

أينما حلّت العنصرية، وجدت العدائية بيئة لها، وهنا ظهرت منظّمة عرقية عملت على تطبيق مفهوم سيادة البيض. كانت أيديولوجيا هذه الجماعة المحافظة على ما وصفوه بطهارة الجينات البيضاء والحفاظ على العِرق الأبيض ككل وليس لون البشرة فحسب.

  • القرن التاسع عشر وفترة النظريات العنصرية

انتشرت النظريات العنصرية في هذه الفترة على أساس علميّ، حين قسّم بعض علماء الأنثروبولوجيا العِرق القوقازي، والذي كان يضم كلًا من الجماعات السكانية القديمة منها والحديثة من أوروبا، وغرب وجنوب آسيا، وآسيا الوسطى، وشمال أفريقيا بالإضافة للقرن الأفريقي.

صنّف العلماء السمات الجسمانية لبلدان الشمال الأوروبي بأنهم ذوو بشرة وأعين فاتحة اللون، ورأس مطاول، وقامة طويلة، وفصلوهم عن بقية الأجناس الأخرى التي صنفوها على أنها فرعيّة كالعِرق المتوسطي، وعِرق شرق البلطيق، والعِرق الإيراني الأفغاني  والألبي).

من هنا تشكّلت أيديولوجيا سُميت بإيديولوجية الشمال التي تعتقد بأن العِرق القوقازي يُشكل الفرع الأعلى، والذي لا يزال مفهومه مُستخدمًا لدى علماء الأنثروبولوجيا. 

  • القرن العشرين والفترة النازية في ألمانيا

تجلّت العنصريّة حينها مع ظهور النظرية النازية الخاصة بالأجناس، والتي تصنّف كلًا من الألمان والأوروبيين الشماليين على أنهم جنس آري متفوّق، وبالتالي دونيّة الأجناس غير الآرية. لهذا السبب يجادل البعض في حصر العنصرية ضمن تعريف واحد، ليأكدوا على أن لها أشكالًا متعددة تختلف باختلاف زمانها، ومكانها الجغرافيّ.

استُخدِم مصطلح النظافة العنصرية أو العرقية، لوصف المنهج المراد تطبيقه في ألمانيا النازية بهدف تحسين النسل النازي، لأن علماءهم العنصريين رأوا بأن تراجع تحسين النسل سيتسبب بتدهور اجتماعي سريع، وبالتالي، تُلوث حضارة الطبقة الأعلى بطبقة الأجناس السفلية.

كثّفت معاهد ألمانيا النازية الدراسات العنصرية، وقامت بدراسة علم الوراثة، وعمل على إنشاء سجلّات وراثية، ودراسة الدم، ليعمل العلماء النازيون على وضع النظريات التي من شأنها التمييز بين الآريين واليهود من خلال فحص الدم. حيث كان بعض العلماء آنذاك يستخدمون السجناء في معسكرات الاعتقال كأدوات في تجاربهم البشرية. 

في كتابه «مقدّمة عن العنصرية»، لخّص ستيف جارنر مختلف التعاريف الموجودة للعنصرية، محددًا ثلاث عناصر مشتركة بين تلك التعاريف. حدد في العنصر الأول العلاقة الهرمية القوية التي تربط المجموعات البشرية؛ أما العنصر الثاني فقد ركز على الاختلافات العِرقية من وجهة نظر أيديولوجية فيما تمحور العنصر الثالث والأخير حول الممارسات والأفعال العنصرية.

العنصرية ضد اليابانيين

كجزء من الحرب العالمية الثانية، قامت قوّة جوية يابانية بمباغتة الأسطول الأمريكي في قاعدته البحرية في ميناء بيرل هاربر في جزر هاواي، تمهيدًا لمخططها في شن حرب ضد بريطانيا وهولندا والولايات المتحدة.

انعكست هذه الحادثة سلبًا على اليابانيين المقيمين في أمريكا، وحتى على اليابانيين الذين حصلوا على جنسيتها أيضًا، إذ مُورس بحقهم مختلف أنواع الاضطهاد، واعتُقل ما يفوق المئة ألف مواطن بين يابانيّ مُقيم ومُجنّس، وأُرسِلوا لمعسكرات معزولة عن المجتمع أمضوا فيها سنوات عدّة، ولُدت وترعرت خلالها عدة أجيال بعزلة عن العالم.

عِلم الوراثة وزعزعة العنصريّة

بعد الحرب العالمية الثانية، تغيرت النظرة العامة للعرق، إذ بيّن علماء الأنثروبولوجيا، في القرنين العشرين والواحد والعشرين، أن معظم الفروقات العِرقية التي كنا نعتقدها، ما هي في الواقع إلا اختلافات ثقافية ولغويّة لا أكثر.

بيّن ريتشارد ليونتن، عالم وراثة وأحياء تطوّري اختصّ بعلم الوراثة السكانية بشقّيها النظري والتجريبي، أن النسبة الأكبر من التباينات الوراثية التي نجدها بين البشر، لا تقع بين الفئات العرقية، وإنما ضمنها، أي إن انتماءنا لعِرق معيّن لا يعني بالضرورة أننا سنتشابه وراثيًا عند المقارنة مع بقية أفراد الأعراق المختلفة.

خاتمة

إن الاعتقاد والإيمان بأن فكرة «الأعراق» هي إحدى الجوانب الطبيعية للبيولوجيا البشرية، وما ينبثق عنها من مُعتقدات تتسبب بخلق حالة عدم المساواة بين البشر وبالتالي العنصرية، كانت ولا تزال واحدة من أكثر العناصر ضررًا في التجربة الإنسانية، من بداية التاريخ الإنساني وحتى اليوم. 

مع ظهور علم الوراثة الحديث، نستطيع القول بأن العنصرية التي تستند إلى فكرة تميز بعض الأجناس البشرية عن غيرها، بالمعنى البيولوجي، قد عفا عنها الزمن، خصوصًا بعد رفضها من قبل أهم علماء الأنثروبولوجي على مستوى العالم مرارًا وتكرارًا.

المصادر:

  1. http://unesdoc.unesco.org/images/0012/001282/128291eo.pdf
  2. Racisms: An Introduction: Garner, Steve (2009: p. 11)  
  3. François Bernier, “A New Division of the Earth” From Journal des Scavans, April 24, 1684. Translated by T Bendyshe in Memoirs Read Before the Anthropological Society of London, vol. 1,1863-64,pp.360-64
  4. French introduction by France Bhattacharya to an edition of Voyage dans les Etats du Grand Mogol (Paris: Fayard, 1981).
  5. Stuurman, S. (2000), “François Bernier and the invention of racial classification”, History Workshop Journal, 50, pp. 1–21.
  6. Joan-Pau Rubiés, «Race, climate and civilization in the works of François Bernier», L’inde des Lumières. Discours, histoire, savoirs (XVIIe-XIXe siècle), Purushartha 31, París, Éditions de l’EHESSS, 2013, pp. 53–78.
  7. Proctor, Robert N. (1982) “Nazi Doctors, Racial Medicine, and the Human Experimentation”, in Annas, George J. and Grodin, Michael A. editors, The Nazi Doctors and the Nuremberg Code: Human Rights in Human Experimentation. New York: Oxford University Press. pp. 17–31
  8. Gunther, Hans F. K., The Racial Elements of European History, translated by G. C. Wheeler, Methuen & Co. LTD, London, 1927, p. 3
  9. American Association of Physical Anthropologists (27 March 2019). “AAPA Statement on Race and Racism”. American Association of Physical Anthropologists. Retrieved 19 June 2020.
  10. Conn, Stetson؛ Fairchild, Byron؛ Engelman, Rose C. (2000)، “7 — The Attack on Pearl Harbor”، Guarding the United States and Its Outposts، Washington D.C.: Center of Military History United States Army

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا