عانت كوريا الجنوبية منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى مطلع التسعينيات، من اضطرابات وانقسامات داخلية أدخلت حركة اقتصادها بحالة من الشلل، أُعيقت بها عجلة النمو و جميع جوانب الحياة، لتبدأ في فترة ما بعد التسعينيات، بمرحلة جديدة من الاستقرار على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ولتسطّر تاريخ كوريا الجنوبية الجديد. وبالرغم من تعدد المجالات التي ساعدت كوريا الجنوبية بالنهوض، ودفع عجلة التقدّم منذ ذاك الوقت، إلا أن أبرزها كان وما زال هو سعيهم إلى ترويج ثقافتهم إلى العالم أجمع، ليكون الكوريون هم من يروون قصصهم وثقافتهم، ويقطعوا الطريق أمام الغرب من تصويرهم وتقديمهم للعالم كيفما شاؤوا.

لا بد وأن تكونوا قد سمعتم يومًا حديثًا عن نظريات المؤامرة التي تقف وراء الغزو الثقافي لمجتمع ما، ومحاولات تدمير هوية المجتمعات دون تقديم أي تفسير واضح يُمكّننا من فهم الأمر ككل في سياقه التاريخي أو السياسي. عادة ما يكون الغزو الثقافي ناتجًا عن استخدام القوة العسكرية، أو الثراء الاقتصادي وضخ الأموال، أو عن طريق استخدام التهديد والعقوبات ليُفرض على الناس فرضًا. لكن لا تملك جميع الدول تلك المقوّمات التي تمكّنها من نشر ثقافتها، إلا أنها قد تملك تأثيرًا من نوع آخر، تكون فيه قادرة على صياغة رغبات الآخرين، كأن تُشارك دولة ما في قضايا عالمية جاذبة مثل مبادرات الحفاظ على البيئة ومكافحة الأمراض والأوبئة، أو مساهمات في محادثات السلام، وبالتالي تصبح تلك الدولة قدوة للآخرين فيتبنون قيمها ويحذون حذوها، ويتطلعون لمستواها من الازدهار والانفتاح. 

سُمّي هذا التأثير ب « القوة الناعمة »، إذ أطلقه عام 1990 المفكر والمحلل السياسي (جوزيف ناي)؛ الذي شغل منصب عميد كلية كيندي للدراسات في جامعة هارفرد، ورئيسًا سابقًا لمجلس المخابرات الوطني، ومساعًدا لوزير الدفاع الأمريكي. فسّر ناي مصطلح القوة الناعمة بأنه القدرة على التأثير في سلوك الآخرين بهدف القيام بعمل ما، يتوافق مع ما يُريده الطرف المؤثّر –بحيث يخدم مصالحه- عن طريق إبراز جاذبية ذلك العمل، بدلًا من دفع الأموال للحصول عليه، أو إرغام الناس على التأثر به.تتعدد الأساليب التي تؤدي لامتلاك القوة الناعمة ، لكنها تبرز في ثلاثة أساليب رئيسية والتي من شأنها التأثير في الرأي العام على صعيديه الإقليمي، والعالمي وهي:

  1. سياسات الدولة الخارجية: تتمثّل باستعمال الدولة لسياساتها الخارجية لتبدو أكثر أخلاقية، كانخراطها في المساعدات الدبلوماسية أو الانسانية للدول الفقيرة مثلًا.
  2. قيم الدولة ومتانة مبادئها: تمتلك بعض الدول القوة الناعمة عبر تبنيها للقيم والحقوق المدنية وحقوق الإنسان.
  3. منتجات الدولة الثقافية: قد تملك بعض الدول الأسلوبين السابقين معًا، لكنهما ليسا لزامًا لانتاج وامتلاك القوة الناعمة ، إذ يمكن لترويج المنتجات الثقافية لدولة ما أن يزيد من قوتها الناعمة، كأن تروّج لمحتواها المرئي، والمسموع بحيث يصل هذا الأسلوب للعامة ولا يقتصر على فئة محددة. كتأثير الرسوم المتحركة اليابانية (الأنيمي)، والقصص المصوّرة اليابانية (المانغا)، إذ جعلت من صورة اليابان النمطية تتحوّل من الصورة السلبية والسيئة إلى الإيجابية على نحو جيّد، إذ عبّر نحو 65% من الأمريكيين في استطلاع أٌجري في مطلع الألفية الجديدة، بأن اليابان ومنتجاتها مذهلة.

القوة الناعمة لكوريا الجنوبية وترويج المنتجات الثقافية

واجهت بعض الدول الآسيوية بين عامي 1997، 1998 أزمة مالية عصفت باقتصاداتها، ولعل كوريا الجنوبية كانت من بين أكثر الدول تضررًا، جعلتها تقترض من صندوق النقد الدولي نحو 97 مليار دولار، ولكن أدى السعي الكوري وراء تطبيق جميع الإجراءات الممكنة لسداد القرض والعودة للسكة الصحيحة إلى ضعف واهتراء الاقتصاد الكوري، فبالرغم من سداد القرض عام 2001، وقبل ثلاث سنوات من موعده المحدد، إلا أن سوء الحال الاقتصادي جعل البلاد تفقد اهتمام المستثمرين، وبالتالي خسارة العديد من الاستثمارات الأجنبية، وضعف قطاع السياحة، وأصبح العالم يُشكك بقدرة كوريا على التعافي الاقتصادي.

هنا بدأت الرحلة الثقافية الكورية، وذلك بانتخاب (كيم داي جونغ) رئيسًا لها، إذ لقّب نفسه بِ «رئيس الثقافة»، الذي صب تركيزه لحل المشلكة الاقتصادية باستهداف المستثمرين العالميين، عن طريق نموذج تشاركي بين القطاعين العام والخاص، باعتبارهما المحركين الأساسيين لمستقبل كوريا الجنوبية، نموذج سبق وطوّرته كوريا في تنمية كل من:

  • الصناعات التكنولوجية: التي ستخلق صناعات جديدة إلى جانب صناعاتها التقليدية التي كانت تعتمد عليها البلاد منذ خروجها من الأزمة المالية، كصناعة الإلكترونيات، وبناء السفن، وصناعة السيارات، وغيرها من المنتجات المعدّة للتصدير.
  • الثقافة الشعبية: بدأت وزارة الثقافة والسياحة تطوير خطط اقتصادية مفصّلة، صُممت لغاية توسعة الأسواق العالمية أمام المسلسلات التلفزيونية الكورية والأغاني الشعبية، التي ستعمل على تغيير الصورة النمطية لكوريا، وتقديمها للمسارح العالمية، فضلًا عن أن الثقافة الكورية ستكون بمثابة منتج سيتم تصديره وسيعود على البلاد بمليارات الدولارات، الأمر الذي أدى لظهور الموجة الكورية «الهاليو».

نشّط الرئيس الكوري «جونغ» القطاع الثقافي، وعملت حكومته على إصدار تشريعات لقانون يدعم الصناعة الثقافية، وموّلته بمبلغ سنوي قدره 150 مليون دولار، وهو ما يشكّل 0.05% فقط من الناتج المحلي للبلاد لسنة 1998، وأيضًا، عمل جونغ على تخفيف القيود المفروضة على الصناعات الثقافية الأجنبية، لأنه رأى بأن الشعب لن يملك الإبداع الكافي لإنتاج منتجات ثقافية خاصة به، مالم يتثقّف بثقافات شعوب أخرى، الأمر الذي أدى لانتشار القصص المصوّرة اليابانية (المانغا) في الأسواق الكورية. يليها مباشرة تأثر الصين بثقافة جارتها الجغرافيّة، والتي أطلقت عليها مصطلح أصبح من أهم المصطلحات التي غزت اللغة الإنجليزية وهي كلمة «هاليو- hallyu» وهو مصطلح مركّب يمكن ترجمته بعبارة الموجة الكورية، في إشارة للهيمنة المتزايدة للثقافة الكورية على المجتمعات المتعددة في شتى أنحاء العالم.

ظهرت أولى موجات الهاليو بعد أن حققت الدراما التلفزيونية Winter Sonata نجاحًا كبيرًا على مستوى العالم، وذلك بفضل عمل الحكومة على قعد اتفاقات مع مؤسسات بث عالمية، الأمر الذي أسهم بجذب متابعين من شتى أصقاع الأرض، وتخطت مبيعات حقوق عرض المسلسل نحو 3.5 مليون دولار في اليابان وحدها.

بعد تولّي «روه مو هيون» رئاسة البلاد عام 2003، اتخذ لفترته شعار (كوريا الخلاقة)، ودعم خلالها المشاريع الثقافية الناشئة. ليُكمل المسيرة من بعده خلفه الرئيس «لي ميونغ باك»، الذي أخذ على عاتقه دعم الصادرات الثقافية، وأعطاها الأولوية باعتباره الوسيلة لتحسين الصورة الوطنية لكوريا الجنوبية والذي سيعزز من نموها الاقتصادي، كما حرص على الترويج للطعام الكوري أيضًا.

ليأتي دور الرئيسة التالية لكوريا «بارك غوين هي»، التي وعدت بمراكمة الثروات الثقافية، وتزامنت فترة حكمها مع إطلاق فيديو «غانغام ستايل» لأول مرة على اليوتيوب عام 2012، الذي حقق مليارات المشاهدات، ليكون بمثابة الصرخة الكورية الأقوى، وأصبحت الرئيسة تقدّم الأغنية الراقصة في الزيارات الخارجية، كنموذج من الثقافة الكورية عرّف العالم بملامح المجتمع الكوري وثقافته، وأيضًا أصبحت منطقة غانغام في العاصمة سيول مقصدًا سياحيًا هامًا.

إن تلك الأعمال ليست سوى نتاج ثقافي، تحاول كوريا الجنوبية تصديره للعالم، بدءًا من موسيقا الكي-البوب مثل غانغام ستاي، وأعمال فريق الفتيان «بي تي إس-BTS»، وصولًا للأعمال السينيمائية مثل فيلم «بارازايت-Parasite» الذي حصد جائزة الأوسكار كأفضل فيلم لعام 2020، فإن الهاليو أو الموجة الكورية ستأخذ في التمدد وتحقق المزيد من الإنتاج والنجاحات العالمية غير المسبوقة، لأن سعي الثقافة الكورية الذي كان يهدف للخروج من سطوة الثقافتين اليابانية والصينية، أصبح اليوم قوة ناعمة يؤثر فيها على العالم بأسره.

خلاصة القول

بالرغم من افتقار كوريا الجنوبية للموارد الطبيعية، ومعاناتها من الاكتظاظ السكاني مقارنة بصغر المساحة، وامتلاكها لسوق استهلاكيّ ضخم، إلا أنها راهنت على استراتيجية الاقتصاد الموجّه نحو التصدير الثقافي، وجذب المستثمرين، وكان رهانًا ناجحًا، إذ سرعان ما وضعت العالم اليوم أمام ما يسمى بالموجة الكورية، التي كانت بمثابة تسونامي، اجتاحت العالم بسرعة جنونية، لتصبح الثقافة الكورية الأسرع انتشارًا عالميًا.

لم تكن كوريا الجنوبية لتحقق هذا النجاح المذهل باعتمادها على المؤسسات فحسب، بل باقتراح وتنفيذ السياسات والاستراتيجيات التي ذهبت لجعل الصناعات الثقافية جزءًا من الاقتصاد الوطني. 

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا