تشير العولمة إلى الترابط المتزايد بين البلدان والشركات والأشخاص في جميع أنحاء العالم، وهي مرتبطة بشكل وثيق بالتقدم التكنولوجي والتقدم في مجالات النقل والاتصالات وبالتسارع الكبير في حركة التجارة والاستثمار فضلًا عن التبادل الثقافي بين البلدان. سوف تستكشف هذه المقالة الجوانب المختلفة للعولمة، بما في ذلك آثارها الاقتصادية على بلدان العالم.

تعريفات مختلفة للعولمة

تعرّف منظمة الصحة العالمية العولمة بأنها «حالة زيادة الترابط والاعتماد المتبادل بين الشعوب والبلدان، وتشمل عنصرين مترابطين: فتح الحدود الدولية أمام التدفقات السريعة المتزايدة للسلع والخدمات والتمويل والأشخاص والأفكار، والتغييرات في المؤسسات والسياسات على المستويين الوطني والدولي التي تسهل أو تعزز مثل هذه التدفقات». بينما تعرّف لجنة سياسات التنمية التابعة للأمم المتحدة العولمة من وجهة نظر اقتصادية بأنها «الترابط المتزايد للاقتصادات العالمية نتيجة توسع نطاق التجارة عبر الحدود، وتدفق رأس المال الدولي، والانتشار الواسع والسريع للتكنولوجيات».

 جذور العولمة

يعتقد البعض أن العولمة بمفهومها العملي ظاهرة متأصلة في الطبيعة البشرية، لأنها بدأت مع بداية تاريخ البشرية منذ حوالي 60 ألف سنة، إذ ظهر التبادل التجاري بين المجتمعات البشرية منذ ذلك الزمن وتطور على مر العصور، وطورت الحضارات المختلفة طرق التجارة بينها، وشهدت حالات من التبادل الثقافي.

استمرت هذه الظاهرة عبر التاريخ، ولا سيما من خلال الفتوحات العسكرية وبعثات الاستكشاف، إلا أنها تسارعت مع التقدم التكنولوجي في قطاعي النقل والاتصالات. ساهمت ظاهرة الهجرة أيضًا في التبادلات السكانية، خاصة في الوقت الحاضر، إذ أصبح السفر أسرع وأكثر راحة وبأسعار معقولة، أما التجارة العالمية فقد تسارعت بشكل خاص بعد النصف الثاني من القرن العشرين، وبدأ معها استخدام مصطلح «العولمة» بشكل أكبر.

شهد القرن العشرين نموًا اقتصاديًا لا مثيل له، فقد زاد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي العالمي خمسة أضعاف تقريبًا. لكن هذا النمو لم يكن ثابتًا، فقد كان أسرع بكثير خلال النصف الثاني من القرن، وهي فترة من التوسع التجاري السريع صُحبت بالتحرير التجاري والتحرير المالي. اتسعت الفجوات بين البلدان الغنية والفقيرة، وبين الأغنياء والفقراء داخل البلدان، وخلال تلك الفترة، شهد الربع الأغنى من سكان العالم زيادة قدرها ستة أضعاف في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي خلال القرن، بينما شهد الربع الأفقر زيادة تقل عن ثلاثة أضعاف، وزاد التفاوت في الدخل بشكل واضح.

هل يمكننا القول أن العولمة زادت من الفقر وأوجه عدم المساواة وقللت فرص العمل للعمال الأقل مهارة؟

لا يوضح موضوع الدخل القصة بأكملها، إذ تظهر التدابير الأوسع للرفاهية، التي تأخذ الظروف الاجتماعية بعين الاعتبار، أن البلدان الأفقر قد أحرزت تقدمًا كبيرًا، كسيريلانكا التي أظهرت مؤشرات اجتماعية مثيرة للإعجاب. وجدت ورقة بحثية حديثة قارن فيها الباحثون البلدان باستخدام مؤشرات التنمية البشرية للأمم المتحدة (HDI) وأخذت التعليم ومتوسط العمر المتوقع بعين الاعتبار، أن الصورة مختلفة تمامًا عن تلك التي تظهرها بيانات الدخل وحدها. تعد البلدان الفقيرة اليوم متقدمة أكثر مما كانت عليه البلدان الرائدة في عام 1870. ويرجع ذلك إلى إلى التقدم الطبي وتحسن مستويات المعيشة الذي أدى إلى زيادات كبيرة في متوسط العمر المتوقع. في واقع الأمر، لا يمكن الاعتماد على هذه النتائج، فقد يكون متوسط العمر المتوقع قد ارتفع ولكن نوعية الحياة بالنسبة للكثيرين لم تتحسن، مع بقاء الكثير في فقر مدقع.

يجدر بنا أيضًا أن نتحدث عن تأثير العولمة على مصالح العاملين، فالقلق من العولمة شائع أيضًا في الاقتصادات المتقدمة فمن الممكن بسببها أن يتم استبدال الموظفين المتطلبين للرواتب المرتفعة بموظفين يقبلون بأبخس الأجور في البلدان الفقيرة.
بعد نضوجها، أصبحت الاقتصادات الصناعية أكثر توجهاً نحو الخدمات ونحو المزيد من الوظائف التي تتطلب مهارات عالية لتلبية المتطلبات المتغيرة لسكانها. تشير الدلائل إلى أن هذه التغييرات ستحدث- ليس بالضرورة بنفس الوتيرة- مع العولمة أو بدونها، لكن العولمة سهلت هذه العملية وجعلتها أقل تكلفة للاقتصاد ككل من خلال جلب فوائد تدفقات رأس المال والابتكارات التكنولوجية وانخفاض أسعار الواردات. إلا أن هذه المكاسب غير متكافئة بين المجموعات داخل البلدان، فقد لا يتمكن العاملون في الصناعات القديمة المتدهورة مثلًا من الانتقال بسهولة إلى صناعات جديدة.

نظر الباحث في البنك الدولي، برانكو ميلانوفيتش، إلى السؤال من منظور مختلف: ماذا لو نسينا للحظة الحدود وقمنا بقياس عدم المساواة بين الأفراد (وليس الدول)؟ ماذا لو لم نقارن بولندا بألمانيا، أو الأغنياء في بولندا بالفقراء فيها، ولكن كل شخص في العالم مع الآخرين؟ هل سنرى التفاوتات العالمية بين أغنى وأفقر مواطني العالم بغض النظر عن المكان الذي يعيشون فيه في ارتفاع أم في انخفاض؟ تقدم الدراسة بعض الأفكار المثيرة للاهتمام حول طبيعة عدم المساواة في عصر العولمة. تُظهر أن العالم ما زال مكانًا غير متكافئ بشدة. وباستخدام مؤشر قياسي (معامل جيني)، فالتفاوت العالمي أكبر بكثير من التفاوت الطبقي داخل أي بلد، حتى في أكثر البلدان تفاوتًا. الفجوة بين الفقراء في الهند أو أفريقيا جنوب الصحراء والطبقة العليا الغربية ليست مجرد فجوة بل هاوية!

تظهر الدراسة أيضًا أن العامل المحدد لدخل الفرد هو المكان الذي يعيش فيه. فأفقر 5% من الألمان أغنى من أغنى خمسة في المائة من سكان ساحل العاج، وبعبارة أخرى، الطبقة الاجتماعية أقل أهمية بكثير من مكان الإقامة عند دراسة الفروقات الاقتصادية بين الأفراد على مستوى العالم. وربما الأكثر إثارة للاهتمام، تطرق الدراسة إلى تحديد الرابحين والخاسرين في عملية العولمة، والكشف عن العديد من الحقائق غير المتوقعة.

تُظهر الدراسة أن الأشخاص في «القاع العالمي» قد حققوا مكاسب خلال العقود الماضية، أقل من «الطبقة الوسطى الناشئة»، إلّا أن ما حققوه كان كافيًا للحد من الفقر المدقع بشكل كبير. يُستثنى من ذلك أفقر خمسة في المائة من سكان العالم، أي الناس الذين يعيشون عادة في البلدان المتأثرة بالصراعات، والذين لم يروا سوى القليل من فوائد عملية العولمة التي تجاوزتهم إلى حد بعيد. تشير الدراسة إلى الحاجة إلى سياسيات مستمرة لضمان الرخاء لجميع شرائح المجتمع، ولضمان استفادتهم من العولمة.

الآثار الإيجابية للعولمة 

أضافت العولمة للشركات ميزة تنافسية من خلال إتاحة الحصول على المواد الخام بتكاليف أقل، كما أتاحت للمنظمات فرصة الاستفادة من انخفاض تكاليف العمالة في البلدان النامية، مع الاستفادة من الخبرة الفنية والتجربة للاقتصادات الأكثر تقدمًا.

سمحت العولمة بتصنيع أجزاء مختلفة من المنتج في مناطق مختلفة من العالم (كصناعة السيارات)، وقد تشارك الشركات في العديد من البلدان المختلفة في إنتاج منتجات تبدو بسيطة، مثل القمصان القطنية.

أثرت العولمة أيضًا على الخدمات، إذ استعانت العديد من الشركات الموجودة في الولايات المتحدة بمصادر خارجية لمراكز الاتصال أو خدمات تكنولوجيا المعلومات من شركات في الهند.

نقلت شركات السيارات الأمريكية عملياتها إلى المكسيك كجزء من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا)، وكانت النتيجة المزيد من فرص العمل في البلدان ذات المستويات المرتفعة من البطالة، وبالتالي تحقيق تأثير إيجابي على الاقتصاد الوطني ومستويات معيشة أفضل. يمكن استخدام فيتنام كمثال من البلدان التي استفادت من العولمة، إذ ساهمت العولمة في زيادة أسعار الأرز المصدر منها، وانتشال العديد من مزارعي الأرز الفقراء من الفقر.

للعولمة آثار إيجابية أيضًا على سعادة المستهلكين، فقد قللت من كلفة التصنيع من خلال الاستعانة باليد العاملة الأقل كلفة، وزادت بذلك من قدرتهم على شراء سلع أكثر بأسعار أقل ومن قدرتهم على شراء البضائع التي تصنف تحت بند الترفيه. 

في الختام، لقد جلبت العولمة مجموعة من الفوائد والعيوب للاقتصاد العالمي. في حين أن هناك بالتأكيد آثار سلبية للعولمة، فإن مزاياها تفوق مساوئها بكثير. أدت العولمة إلى زيادة التجارة والنمو الاقتصادي، وخلق المزيد من فرص العمل ورفع مستويات المعيشة لكثير من الناس. كما زادت من إمكانية الوصول إلى الأسواق والتقنيات والأفكار الجديدة ما أدى إلى مزيد من الابتكار والإنتاجية. بالإضافة إلى ذلك، أدت العولمة إلى الحد من الفقر وزيادة التوزيع العادل للثروة من خلال زيادة النمو الاقتصادي في البلدان الأمر الذي أدى بدوره إلى زيادة الدخل وتحسين مستوى المعيشة للعديد من الناس. 

ومع ذلك ، من المهم ملاحظة أن العولمة ليست هي الحل النهائي والوحيد لمشاكل العالم الاقتصادية، وأنه من الضروري معالجة آثاراها السلبية. يمكن أن يشمل ذلك فرض بعض السسياسات كالضرائب التصاعدية وشبكات الأمان الاجتماعي والاستثمار في برامج التعليم والتدريب الوظيفي. ستساعد هذه السياسات بضمان تقاسم فوائد العولمة بشكل أكثر إنصافًا، وفي الحيلولة دون منع أولئك الذين تخلفوا عن الركب من تحصيل مكاسب العولمة. في النهاية ، بينما تواجه العولمة تحدياتها، فإن الفوائد التي تجلبها للاقتصاد العالمي، بما في ذلك الحد من الفقر والتوزيع العادل للثروة، تجعلها قوة قيمة لتحسين حياة الناس في جميع أنحاء العالم.

المصادر:

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا