قال الشاعر الإنجليزي جون دون «إن مقتل أي شخص في العالم يحط من قيمتي، لأني أؤمن بالجنس البشري كوحدة واحدة»، لكن تعاطف البشر مع بعضهم البعض في واقع الأمر لا يمت لمقولة وقناعات دون بصلة، فهناك الرابحون الذين دائمًا ما يحصلون على كامل انتباهنا وتعاطفنا إضافة إلى أعلى مستويات التغطية الإعلامية، وهناك الخاسرون الذين لا ينالون أي تعاطف، وهناك طبقة وسطى تنال بعض التعاطف فقط في حال تعرضها لكارثة كبرى.

مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، انتشرت العديد من الفيديوهات التي تظهر تعاطف بعض مراسلي وسائل الإعلام مع اللاجئين الأوكرانيين لامتلاكهم «عيونًا زرقاء»، و «شعرًا أشقر»، و «بشرة بيضاء»، وكأن جميع ذوي البشرة السمراء والعيون البنية قد اختاروا أن يمضوا حياتهم في الحروب مهجّرين من بلد إلى آخر. تسبب هذا الربط بين حالة التعاطف ولون بشرة الضحية بخلق موجات من ردود الفعل الغاضبة حول العالم، كما أعاد تسليط الضوء على حالة انتقائية التعاطف مع الضحية حسب عرقه ولون بشرته وصفات أخرى لم يخترها. فهل يمكن لنا عد سلوك التعاطف الانتقائي سلوكًا عنصريًا؟ وهل هناك تفسيرات علمية له في الطبيعة البشرية؟ للإجابة على هذه الأسئلة علينا أولًا أن نعرف معنى التعاطف. 

التعاطف

يمكن أن نعرف التعاطف بشكل عام على أنه القدرة على فهم ما يشعر به الآخرون ووضع أنفسنا مكانهم. في عام 1908، دخل مصطلح التعاطف (empathy) اللغة الإنجليزية من اللفظ الألماني (Einfühlung) الذي يعني (Feeling in) على يد عالم النفس البريطاني الأمريكي إدوارد تيتشينر. 

يعد عالم النفس الأمريكي، باول إيكمان، واحدًا من أهم علماء النفس الذين تخصصوا بدراسة المشاعر الإنسانية بشكل عام وبالتعاطف خصوصًا، قسم إيكمان هذا الشعور لثلاثة مستويات بدرجة عمقها، وهي:

التعاطف السطحي أو الإدراكي: القدرة على فهم مشاعر الآخرين وتصور آلامهم.

التعاطف العميق أو المشاعري: التجاوب العاطفي مع الآخرين والغضب لغضبهم أو الفرح لفرحهم أو الحزن لحزنهم، إضافة إلى تطوير مشاعر التمني بأن نرى الآخرين بحال أفضل وأكثر سعادة.

التعاطف التفاعلي: ويتجاوز هذا النوع فهم مشاعر الآخرين والتجاوب معهم عاطفيًّا إلى التحرك لمساعدتهم، فمستشارك النفسي لن يبكي معك على آلامك، بل سيتحرك لمساعدتك ليؤدي عمله كأي مستشار نفسي جيد.

التعاطف الانتقائي

لا شك بأن التعاطف جزء أساسي من تكوين البشر ومن روابطهم الاجتماعية، لكن، من الممكن لمستوياته أن تختلف تبعًا لعدة عوامل، من بينها:

  1. غالبا ما يكون التعاطف استجابة للمعاناة الجماعية، لكنه اختيار أيضا، فمن الممكن لك أن ترفض التعاطف مع جماعات تعاني من مشكلة ما لأنه من الصعب مساعدة مجموعة كبيرة من الأشخاص والعمل على تخليصهم من محنتهم، بينما من السهل أن نقدم المساعدة لشخص واحد. 
  2. يرجع بعض علماء النفس أيضًا انتقائية التعاطف إلى أنه هذا الشعور ينشأ في الأساس أساسا لصالح بقاء المجموعة، ما يعني أنه من السهل لأي فرد أن يرفض التعاطف مع أي شخص من خارج المجموعة طالما أن أزمته بعيدة عنه وعن المجموعة التي ينتمي لها ولن تؤثر محنته عليه. نحن نتعاطف مع من نعرفه، من نراه، من نشعر أنه يتشارك معنا في أي صفة من الصفات الإنسانية، بالتالي هم مثلنا، هم نحن، لكن من لا نعرفه أو نراه أو نظن أننا نفضله في الثقافة، أو الثروة، أو الطبقة، فلا يحصل على تعاطفنا لأنه ليس منّا، بل هو بالنسبة لنا «آخر»، والآخر ليس إنسانًا كاملًا، وليس بشريًا تمامًا بالنسبة لنا.
  3. تتميز بعض الاضطرابات النفسية بافتقار شديد في التعاطف مما يجعل أصحابها قادرين على أذية الآخرين كاضطراب الشخصية النرجسية أو الشخصية المضادة للمجتمع أو الشخصية الحدية وغيرها. يمكن أيضًا أن يكبر الأشخاص الذين تعرضوا للصدمات النفسية في طفولتهم ليصبحوا أقل تعاطفًا مع الآخرين، لأن عقلهم يركز على الذات أكثر من تركيزهم على الآخر لحماية أنفسهم من أي صدمات جديدة. 
  4. يتسبب التعرض المستمر للصدمات العاطفية بتراجع مستويات التعاطف، فكثيرًا ما يوصف الأطباء والممرضين والعاملين في دور الحضانة ودور رعاية المسنين على سبيل المثال بأنهم قساة، ويعود السبب في ذلك إلى إصابتهم بنوع من الإرهاق العاطفي الذي يدفع العقل لتقليل مستويات التعاطف مع الضحايا لتوجيه التركيز على إيجاد طرق لمساعدتهم وإنقاذهم. 

بسبب العوامل السابقة (وغيرها) يرى بعض علماء النفس أنه من الضروري عدم الاعتماد على التعاطف في إطلاق أحكامنا الأخلاقية باعتباره شعورا مضللا وانفعاليا يكبر ويتضاءل دون معيار أخلاقي ثابت. ألّف بلوم كتابا بعنوان “the Case Against Empathy” («ضد التعاطف.. قضية التعاطف العقلاني»)، شرح فيه أسباب إيمانه بكون التعاطف سيفًا ذي حدين قد يؤدي إلى نتائج سيئة تماما كما يؤدي إلى نتائج إيجابية تجعلنا أكثر رعاية وتسامحًا وإيثارًا، لأنه يعتقد أن التعاطف غير مضبوط على تردد واحد، وغير معدود أو محدود، وضيق الأفق، ومنحاز.

إن الطامة الكبرى في التعاطف الانتقائي تكمن في العلاقة العكسية التي تجمع مستويات تعاطفنا مع ضحايا كارثة ما مع عدد ضحاياها، إذ أن زيادة أعداد ضحايا كارثة ما يجعلك تشعر بأن أعمالك لا قيمة لها. يعد أستاذ علم النفس في جامعة ييل الأمريكية، بول بلوم، واحدًا من أبرز العلماء الذين درسوا انتقائية التعاطف. كتب بلو في مجلة نيويوركر الأمريكية مقالًا عد فيه التعاطف تحيزا غير منطقي، لأنه من غير المنطقي التعاطف مع 7 مليارات شخص، خاصة وأن هذا سيؤدي إلى نوع من «الشلل والإرهاق العاطفي» الذي يمنع من تقديم المساعدة الفعلية.

يؤمن بلوم أنه من غير الممكن اعتبار التعاطف دليلًا أخلاقيًا باعتباره عاطفة متقلبة وغير عقلانية تروق لتحيزاتنا الضيقة، وتشوش حكمنا الأخلاقي، ويقترح بدلا عنها «الرأفة العقلانية» طريقة للتفكير في القضايا، وذلك من خلال التحليل العقلاني للقضية باعتبارها قضية عادلة دون انفعال أو تعاطف لحظي، مع التفكير في الحلول المؤسساتية والحلول طويلة المدى التي تديم المساعدة، لكنه يرى أيضا أنه من الممكن ل «قمع التعاطف» أن يخلق شخصًا مريضًا وقاسيًا، وربما تقلل من اهتمامه بالقيم والأخلاق.

درس الأستاذ في العلوم السياسية في جامعة واشنطن، ويليام سي أدامز، حالة التعاطف الانتقائي ، وخلص إلى أن درجة الاهتمام بالضحية هي التي تحدد مستوى رد الفعل تجاه الكارثة التي تعرض لها وليس شدتها أو خطورتها، وأن البشر، بشكل عام، يميلون إلى التعاطف نحو الأقرب منهم في الخبرات، أو يرون فيه انعكاسًا لشخصياتهم، دون أن يرتبط ذلك بالجغرافيا بشكل أساسي. 

خاتمة

يظهر لنا جورج أوريل في روايته المشهورة «مزرعة الحيوان» كيفية تراجع التعاطف عند الحيوانات حتى أصبح انتقائيًا يمارس مع فئة معينة ويُمنع عن فئة أخرى، إذ تعلن الحيوانات في بادئ الأمر أن «جميع الحيوانات متساوية»، ليتغير هذا المبدأ مع الوقت ويتحول إلى «جميع الحيوانات متساوية، لكن هناك حيوانات أكثر مساواة من غيرها». 

ليس من الغريب أن يظهر الإنسان تعاطفًا أكثر كلما زادت صلة قرابته مع الضحية، إلا أن ربط مستوى التعاطف بلون بشرة الضحية أو البلد التي ولد فيها دون اختياره، والتحدث عن وجوب تقديم المساعدة لمجموعة من الأشخاص لمجرد أنهم يحملون جينات معينة، والاستخفاف بمعاناة مجموعات أخرى هو تصرف عنصري بدون أدنى شك، ولا يمكن تبريره بأي شكل من الأشكال.

المصادر:

  1. Selective Empathy: You Were Charlie… Why You Are Not Garissa.
  2. The Baby in the Well, The case against empathy. By Paul Bloom.
  3. The case against empathy. By Paul Bloom
  4. Empathy and Racism Pondering the color of Empathy.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا