سنغافورة .. البلد الذي لم تتجاوز مساحته عند نيله استقلاله في عام 1965 نصف مساحة البحرين، أو عُشر مساحة إمارة دبي، والتي يتكون مجتمعها من خليط متنوع من الجنسيات والأعراق والديانات، وتكاد تنعدم مواردها الطبيعية،
كيف تمكنت من تحقيق نهضة اقتصادية يُضرب فيها المثل؟
سنغافورة
جمهورية تقع على جزيرة في جنوب شرق آسيا، عند الطرف الجنوبي من شبه جزيرة ملايو، ويفصلها عن ماليزيا مضيق جوهور، وتعد اليوم رابع أهم مركز مالي في العالم، وتلعب دورًا هامًا في الاقتصاد العالمي.ت
تاريخ سنغافورة حافل بالمهاجرين، فسكانها يشكلون خليطًا بين الصينيين والمالاويين والهنود والقوقازيين، 42% منهم وافدون للعمل أو للدراسة ولا يحملون الجنسية السنغافورية. أصبحت سنغافورة، بعد الانفجار السكاني الديموغرافي الذي شهدته بين عامي 1985 و 2001، ثالث دولة في العالم من حيث الكثافة السكانية بعد ماكاو وموناكو.
في عام 2006، حصلت جمهورية سنغافورة على لقب المدينة الأكثر عولمة في العالم بحسب مؤشر شركة الاستشارات الإدارية العالمية «At Kearney». قبل استقلال سنغافورة في عام 1969، كان الناتج المحلي الإجمالي لسنغافورة 511 دولارًا. تضاعف هذا الرقم مع انتهاء القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين، ليصل في عام 2015 إلى 12700 دولارًا.
حصلت سنغافورة، على المرتبة الأولى في القارة الآسيوية، والمرتبة الحادية عشرة على مستوى العالم في مؤشر جودة الحياة الذي تنشره مجلة «الإيكونوميست»، كما احتل جواز سفرها، في عام 2014، المركز السادس على مستوى العالم إذ يمكّن حامله من دخول 167 دولة على مستوى العالم دون الحصول على تأشيرة مسبقة.
تمتاز سنغافورة بتوليفة عرقية يطغى عليها العرق الصيني الذي يمثل غالبية السكان 74% بجانب أعراق أخرى كالهنود والماليزيين وآخرين كما أنها تضم خليطًا سكانيًا متنافرًا من الرحالة من الدول المجاورة والعديد من الأقليات الآسيوية والأوروبية.
العوامل التي ساهمت في تغلب سنغافورة على العقبات الطبيعية والديموغرافية
-
إدارة رأس المال البشري
صَمّمت سنغافورة سياساتها في اكتشاف المواهب البشرية والاستفادة منها، بناءً على عددٍ من الفرضيات الرئيسية. أولها هو أن بعض الناس أكثر موهبةً من غيرهم بحكم الطبيعة. وثانيها أن المواهب والقدرات الاستثنائية يمكن أن نجدها بين الفقراء كما نجدها بين الأغنياء دون فرق. وبناءً على هذين القاعدتين، من المنطقي إذاً افتراض أن الدولة قادرة على البحث بشكل استباقي وتطوير المواهب الموجودة في نسيجها السكاني. لتحقيق هذه الغاية، استعانت سنغافورة بعوامل هامة مثل الصحة وجودة الحياة التي من شأنها إطلاق الإمكانات البشريّة التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق إنجازات فردية وجماعية غير مسبوقة. لهذا الغرض، ركزت الحكومة السنغافورية اهتمامها على تنفيذ السياسات العامة بحيث توفّر بشكل مُنصِف وشامل جميع هذه الخدمات الأساسية لكافة مواطنيها. وباختصار، نستنتج أن اتباع سياسات عامة رشيدة يفضي بالدولة إلى خلق مجتمعٍ قائمٍ على أساس الجدارة، تدور فيه عجلة الحياة بشكلٍ جيد.
تستخدم الحكومة السنغافورية اختباراً تنافسياً لضمان ألا يحصل على المِنح الحكومية المرموقة إلا ألمع العقول. حيث صُمم هذا الاختبار بشكل يجعل الحائزين على المنح يتقدمون بطلبات للدراسة في أفضل الجامعات العالمية، كما يتوقع منهم أن يحافظوا على تصنيفهم العالي ضمن الطلاب، وأن يتخرجوا ضمن رتب الشرف من كلياتهم. نتيجة لذلك، يحصل أفضل الطلاب السنغافوريين على معدلات قبول مرتفعة نسبياً بين مجمل المقبولين في أرقى الجامعات العالمية مثل ستانفورد وهارفارد وكولومبيا وبيركلي، لا تتناسب إطلاقاً مع عدد سكان سنغافورة الصغير. بهذا الصدد، إليك إحدى الإحصائيات المدهشة التي توضّح ببلاغة الامتياز الذي حققته سنغافورة في نظامها التعليمي: فالبلد الذي يرسل أكبر عددٍ من الطلاب غير البريطانيين إلى جامعتي أكسفورد وكامبريدج، هي دون شك الصين، أكبر دولة من ناحية عدد السكان ب 1.4 مليار نسمة، إلا أن المثير للدهشة هو أن تَحِل سنغافورة في المرتبة الثانية من ناحية عدد الطلاب المُرسلين لهاتين الجامعتين، مع أن عدد سكانها لا يتجاوز 3.5 مليون نسمة. خلاصة القول، أن هناك مؤشرات اقتصادية عالمية تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن سياسات نظام الجدارة التي تنتهجها سنغافورة نجحت في استخلاص أقصى قدرٍ ممكن من المواهب من نسيجها السكاني، على الرغم من أن عدد مواطنيها صغيرٌ جداً مقارنةً بدول العالم الأخرى.
-
القضاء على الفساد
بغية القضاء على الفساد، تُتخذ قرارات «التوريد والتموين» في القطاع العام على أساس الجدارة أيضاً، وما نعنيه هنا بالضبط هو قدرة البائع الواضحة على الإيفاء التام بالمتطلبات المنصوص عليها. هكذا تُجرى المشتريات الحكومية في الغالب وفق مناقصات تنافسية، مع المبدأ المتعارف عليه بمنح عقد التوريد والتموين لمن يقدّم أقلّ سعر. يضمن هذا الإجراء الحصول على سلع وخدمات تستحق ثمنها تماماً، ويحدّ من إمكانية منح العقود للشركات أو الأفراد الذين لديهم علاقات مع السياسيين أو أصحاب المناصب العليا أو المشرفين على المناقصة. ومع أنه بمقدور المسؤولين الحكوميين تزكية أحد البائعين على الرغم من أنه لم يقدّم أقل سعر في المناقصة ليمنحوه العقد، إلا أن عليهم أن يبرروا هذه التزكية على أساس الجدارة، بمعنى أن عليهم أن يثبتوا أن منح العقد لذلك البائع الذي قدّم سعراً أعلى سيضيف قيمة أفضل للشعب والمجتمع من منحها لذلك البائع الذي قدّم أقل سعر.
-
تنمية القطاع السياحي
كان قطاع السياحة في مطلع الستينيات هو المسلك الأول أمام متخذي القرار في سنغافورة لإحداث طفرة في معدلات النمو والدخل، حيث كان يوفر فرص عمل ليست بالقليلة، إلا أنها كانت غير كافية لابتلاع حجم البطالة المرتفع، خاصة مع انسحاب القوات البريطانية التي كانت توظف ما بين (40 إلى 50) ألف عامل محلي، رغم نجاح العديد من الإصلاحات الإدارية والمالية ومحاربة الفساد، وتدارك العجز المالي للحكومة، إلا أن هذه الجهود كانت غير كافية.
-
التنمية في القطاع الصناعي
ركزت حكومة سنغافورة على الصناعة التحويلية في البداية وتأمين احتياجاتها من الطاقة بواسطة أربعة مفاعلات كهروحرارية يصل إنتاجها إلى حوالي 51.6 بليون كيلو واط ساعة في عام 2016 بينما بلغ استهلاكها 48,63 بليون كيلو واط ساعة، وقد أقنع «لي كوان» البريطانيين قبل رحيلهم بعدم تدمير أحواض سفنهم بغرض تحويلها للاستخدام المدني. وفى هذه الأثناء ضاعفت سنغافورة من جهودها وقامت بتحسين بيئة العمل وأممت شركات القطاع الخاص التي عانت من نقص في رأس المال أو الخبرة مثل بنك سنغافورة أو خطوط الطيران، ثم عملت على فتح أسواق جديدة وإعادة هيكلة منظومة الاقتصاد بأكملها، لاسيما بعد ظهور أسواق تجارية منافسة ومجاورة، وقد كانت أولى بوادر النجاح لهذه الخطة دخول شركة تكساس انسترومنت في العام 1968 لتصنيع الترانزستور.
ولتعزيز القطاع الصناعي تم تأسيس مجلس التنمية الاقتصادي في الستينيات والذي ساهم مباشرة في بناء اقتصاد حديث ومتطور عن طريق إقامة صناعات وطنية مملوكة للدولة تم إشغالها بأفضل المهارات والقدرات المتوافرة محليًا بعد تدريب العمالة، ويخلو هذا المجلس من أي توجيه أو سيطرة حكومية، فهو مكون من رجال الأعمال والخبراء ذوي الرؤية، واتخاذ قرارات تنموية بناء على مدى الاقتصادية، ورؤاها بعيدة المدى.
-
تنمية الاستثمارات الأجنبية
رأى رئيس وزراء سنغافورة والمعروف بكونه أهم شخصية سياسية ساهمت في نقل البلاد من قائمة دول العالم الثالث إلى قائمة دول العالم الأول، «لي كوان»، وحكومته، أن أفضل وسيلة لتعزيز الاقتصاد بجانب كل ما سبق من جهود هي جذب استثمارات الشركات المتعددة الجنسيات، لذا كان المسلك الثالث والمكمل للخطوات السابقة وهو اجتذاب الاستثمارات الأجنبية فكانت أولى الخطوات في هذا الطريق هي تدعيم بنية تحتية تنتمي للعالم الأول وتستوعب حجم الاستثمارات المرجو اجتذابها في أوائل الثمانينيات. وبالفعل، تمكنت الدولة من إقناع الأمريكيين واليابانيين والأوروبيين من تأسيس قاعدة للأعمال بالبلاد في منتصف الثمانينيات، فتحولت سنغافورة إلى واحد من أكبر مصدري الإلكترونيات في العالم، خاصة مع إصرارها على دخول القرن الجديد بصناعات تكنولوجية متطورة ذات تقنية عالية تسمح لها بالوصول إلى أسواق جديدة تغنيها عن الاعتماد على الصناعات التقليدية التي تعاني منافسة شديدة من قبل الدول ذات الأجور المنخفضة نسبيًا كالصين وباقي دول جنوب شرق آسيا، لذلك لجأت إلى رفع كلفة العمالة الأجنبية في الصناعات القائمة على الأجور المنخفضة لإجبارها على التحول نحو الصناعات ذات القيمة المضافة العالية، بيد أن هذه السياسات لم تثمر عن نتائج فعلية إلا في نهاية الثمانينات، أي بعد عشرين عامًا على الإصلاح الاقتصادي والتعليمي، حيث تعد أحد كبار مصدري التكنولوجيا في العالم مثل أجهزة الكمبيوتر ومستلزماتها.
-
تنمية القطاع المالي والخدمي
ركز «لي كوان» جهوده حكومته على تحويل سنغافورة إلى مركز مالي دولي من خلال طمأنة المصرفيين الأجانب باستقرار الظروف الاجتماعية والدرجة العالية من البنية التحتية، حيث بلغ عدد المشتركين في الخطوط الهاتفية الثابتة قرابة مليوني مشترك، وفي الهاتف الخلوي قرابة المليون، كما تتوفر خدمة الإنترنت السريعة، وأربع محطات أرضية للإتصال عبر الأقمار الصناعية، وسبع محطات تلفزيونية و 18 محطة إذاعية، وتم تحقيق فوائض ميزانية تؤدي إلى استقرار قيمة الدولار السنغافوري.
وتبع هذه الخطوات إنشاء الوحدات المصرفية الخارجية لتشجيع استقطاب الاستثمارات إلى سنغافورة، مما رفع من نسبة مساهمة القطاع المالي ليصل إلى 27% من دخلها القومي، وأصبح لديها أكثر من 60 مصرفًا تجاريًا، بالإضافة إلى بورصة مزدهرة لتبادل العملات الآسيوية بفوائد تشجيعية، ويوجد فيها أكثر من 700 مؤسسة مالية أجنبية تتخذ سنغافورة مقرًا لها وتتوزع أنشطة هذه المؤسسات على مجموعة واسعة من الخدمات والمنتجات المالية، كالتجارة المالية والعملات وأنشطة رأس المال والقروض والأمن التجاري وخدمات التأمينات المتخصصة وغيرها، مما أسهم في دينامية الصناعة المالية في سنغافورة.
-
الصحة
استطاعت سنغافورة ترسيخ نظام صحي شبه متكامل, حيث تتمتع العناية الصحية بمستويات متقدمة، فهناك طبيب لكل 837 مواطناً، وسرير في مستشفى حكومي لكل 269 مواطنًا.
علاوة على ذلك، طبقت الحكومة إبان خطتها التنموية سياسات رقابية دقيقة على التناسل السكاني لتكون الزيادة في عدد السكان الحالي بنسبة لا تتجاوز 2% كأقصى حد للنسل، نظرًا للمخاوف من صغر مساحة الدولة وزيادة أعداد العمالة الأجنبية، لكنها انتهجت سياسات سكانية مغايرة مؤخرًا بتشجيع المواطنين على إنجاب مزيد من الأطفال، حيث ارتفع عدد سكان سنغافورة بنسبة 1.2% خلال العام الماضي في أبطأ وتيرة له منذ أكثر من عشر سنوات، وذلك في الوقت الذي تحاول فيه تقليص عدد العمالة الأجنبية، وبلغ إجمالي عدد سكان سنغافورة 5.54 مليون حتى يونيو 2015.
-
معالجة مشكلة الفقر والبطالة
كان أكثر من ثُلثي سكان سنغافورة يعيشون في أحياء فقيرة، تفتقر الى الصرف الصحي، والبنية التحتية المناسبة، وإمدادات كافية من الماء، إلا أنها بفضل سياستها المحكمة في إدارة مواردها المحدودة استطاعت التغلب على هذه الأزمات لاحقًا.
ختامًا
الأمل في عودة نهضة الدول والأمم بعد الأزمات موجود دائمًا مهما تسببت هذه الأزمات من تدمير للاقتصاد والنفوس والبنية التحتية.. ومفاتيح هذه النهضة تكمن في توفر الخطط المناسبة للقضاء على الفساد واستغلال الكفاءات بعيدًا عن المحسوبيات والوساطات والتركيز على رفع مستويات التعليم وعلى جذب الاستثمارات الأجنبية.
المصادر:
- https://www.washingtonpost.com/news/in-theory/wp/2016/04/16/how-singapore-is-fixing-its-meritocracy/
- https://www.ft.com/content/3fcb2d4c-a807-3bda-a329-6bcf9e3b5ee2
- “Singapore country profile”, bbc, Retrieved 13-5-2020.
- “How Singapore Became One Of The Richest Places On Earth”, npr, Retrieved 13-5-2020.
- “How Lee Kuan Yew transformed Singapore from small town into global financial hub”, theconversation, Retrieved 13-5-2020.