يقدر عمر البشر (الإنسان العاقل أو الهوموسيبيان) على وجه الكرة الأرضية ب 300 ألف عام، لم تتوقف خلالها محاولاتهم لفهم طلاسم الكون وسر وجوده وتفسير ظواهره. في بادئ الأمر، لم يتمكن العقل البشري البدائي بخبراته المتواضعة من وضع تفسيرات للظواهر الكونية إلا من خلال ربطها بالخرافة والشعوذة والغيبيات، وتمحورت جل هذه التفسيرات حول فكرة كون البشر السبب الأساسي للوجود، وكون الأرض مركزًا للكون برمته تدور حولها الكواكب والنجوم. ظلت هذه الآراء هي السائدة لمئات القرون، إلى أن بدأت عصور الحضارة والعلم التي حاول فيها العلماء والفلاسفة تفسير الظواهر الكونية بالاعتماد على أدوات العلم والتجربة والبرهان ووالدراسات الموضوعية، ومثلت نتائج بعض هذه المحاولات صدماتٍ للوعي والكبرياء البشري لا تزال البشرية تحاول التعافي من آثارها حتى يومنا هذا!
هزت نتائج أبحاث العلماء، في محاولاتهم لتفسير الكون، الكبرياء البشري في عدة مناسبات، فبعد عشرات القرون التي اعتقد فيها الإنسان بأن الأرض التي يقطنها مركز الكون، جاء كوبرنيكوس لينفي مركزية الأرض ويؤكد أن الكرة الأرضية ما هي إلا كوكب صغير في مجموعة كواكب تدور حول الشمس، وسبب بذلك أول صدمة لـ الكبرياء البشري ، أما الصدمة الثانية فكانت مع تدمير داروين ووالاس لمكانة البشر المفترضة بين الكائنات الحية، والتي أثبتت انتماءهم لمملكة الحيوان، وتطورهم عبر ملايين السنين ليصلوا للشكل الذي هم عليه الآن. أجهز فرويد على ما تبقى من الكبرياء البشري عندما أرجع جميع تصرفاتهم إلى رغبات مكبوت غير واعية وغرائز لاشعورية.
دعونا نتحدث عن هذه الصدمات بالتفصيل.
الأرض ليست مركزًا للكون
نشر العالم البولندي نيكولاس ميكواي كوبرنيكوس، في عام 1543 كتابه «عن دوران الأجرام السماوية» الذي تضمن نظريته الثورية حول كروية الأرض التي قلبت كل المعادلات وغيرت بشكل جذري نظرة الإنسان إلى الكون من حوله، فلم تعد الأرض مركزًا الكون، ولا محورًا له، وظهرت حقيقة كونها مجرد جرم صغير يدور في فلك مجموعة شمسية تضم العديد من الكواكب التي تفوق الأرض مساحة وأهمية. كان هذا الاكتشاف بمثابة صفعة لـ الكبرياء البشري وللإنسان الذي كان يرى نفسه سيدًا للكون، ويؤمن بأن جميع الكواكب والنجوم كانت تدور حول أرضه وبيته، فإذا بهذه القناعات تتبخر ليحل محلها حقيقة مناقضة تمامًا.
أطاحت نظرية كوبرنيكوس بنظرية بطليموس في مجال الفلك التي اعتبرت الأرض مركزًا للكون وأن الشمس وجميع الكواكب الأخرى تدور حول الأرض. كانت الكنيسة مؤيدة بشكل كامل لنظرية بطليموس لأنها رأت فيها استمرارية لتقديس الأرض التي ولد فيها المسيح، وأعلنت الكنيسة أن أعظم برهان على فساد نظرية كوبرنيكوس، هو نصوص الكتب السماوية التي تثبت أن دعائم الأرض مثبتة تثبيتاً بحيث لن تتحرك أو تتحول عن مكانها، وإن الشمس تجري كل يوم من أحد طرفي السماء الى الطرف الآخر، وعندما صرح العالم الفلكي جيوردانو برونوعلانية بصحة نظرية كوبرنيكوس وبكونها حقيقة، أحيل الى محاكم التفتيش واتهم بالهرطقة وأودع السجن لمدة سبعة أعوام ثم أحرق بعدها وهو حي في احدى ساحات روما بعد مصادقة البابا على الحكم.
كان نشرُ كوبرنيكوس لنظريته بمثابة ضربة لمصالح الكنيسة ونقد لمناهجها وسياساتها ومنطقها. تبع نشر النظرية انطلاق ثورة الإصلاح الديني على يد الراهب الألماني مارتن لوثر الذي نادى بالإصلاح الديني واصلاح الكنيسة ورفض سلطة البابوات وتشويههم لجوهر المسيحية واستغلال سلطتهم الدينية في السيطرة على عقول الناس، وبيعهم لصكوك الغفران. لذلك يرى البعض أن كوبرنيكوس هو صاحب الشرارة الاولى لانطلاق النهضة الاوربية والضربة الأولى التي زلزلت كيانات الجمود القائمة في عصره وصدعتها إلى غير رجعة.
الإنسان ما هو إلا حلقة في سلسلة التطور
لم تتمكن البشرية من التقاط أنفاسها بعد صدمة كوبرنيكوس حتى أتى داروين، في عام 1859، ليوجه صفعة ثانية لـ الكبرياء البشري بنشره كتاب أصل الأنواع الذي أزاح من خلاله هالة التميز التكويني عن الإنسان، وجعله مشابهًا لبقية الكائنات الحية ومتطورًا من بعضها، وليثبت أن ما من شيء يميز البشر عن بقية الحيوانات سوى تطور إبهامهم وحبالهم الصوتية بالشكل الذي سمح لهم باستعمال الأدوات والتواصل بسهولة ونقل الخبرات وتدوين الابتكارات. تحت ضغط البراهين والأدلة العلمية، أجبر داروين البشر الذين لطالما تباهوا بأصلهم السماوي ورأوا في أنفسهم مخلوقات مقدسة، على الاعتراف باشتراكهم مع الحيوانات بسلف واحد، وأنه ليس إلا حلقة ضمن في سلسلة التطور التي لا تنتهي، ولا يملك الحق بالادعاء بختم السلسلة بصفته كائن مختلف ومتميز والأكثر تطورًا وملائمة خلقية.
اللاوعي هو المسؤول عن تصرفات البشر
دكت الصفعة الثالثة على يد عالم النفس النمساوي، سيغموند فرويد، ما تبقى الغرور و الكبرياء البشري . في القرن التاسع عشر، أثبتت أبحاث ونظريات فرويد سيطرة اللاوعي على تصرفات الإنسان وارتباطها بشكل مباشر مع الرغبة الجنسية، كما صورت أبحاثه الإنسان على أنه مخلوق تسيره الجنس والغرائز، ووصل إلى نتيجة مفادها أن جوهر الإنسان الحقيقي هو اللاوعي المتحكم بكل القرارات والتصرفات من خلف ستار وعي واه ظاهري وخادع، وإذا كان النصف الثاني من القرن التاسع قد حفل بصراع فكري بشأن داروين ونظرية التطور، فإن النصف الأول من القرن العشرين قد حفل بصراع فرويد واللاوعي، وبين الفكرتين شبه كبير؛ ذلك أن نظرية داروين أثبتت لنا أن الجسم البشري هو ثمرة التطور، وأنه يخفي كثيرًا من الأعضاء الأثرية القديمة التي ورثناها من الأرومة الحيوانية التي نشأنا منها. وكذلك الشأن في نظرية فرويد الذي أثبت أن النفس البشرية ورثت وظائف وحشية قديمة، وأننا نألم ونبتئس لأننا في صراع لا ينقطع بين هذه الوظائف الطبيعية القديمة، وبين قيود الحضارة التي تمنعنا من ممارستها.
بعد فرويد، لم يعد الإنسان ذلك الكائن ذي الحالة الشعرية الحاضرة على الدوام، ولم يعد مميزًا باتخاذ قراراته اليومية والعملية بوعي كامل. أذل فرويد عنجهية النفس البشرية حينما أرجع كل أفعالها وتصرفاتها إلى رغبات مكبوتة لا واعية وغرائز لاشعورية مدفونة.
خاتمة
أزاح كوبرنيكوس البشر من المركز المادي للكون، ووضع داروين البشر في ترتيبهم الطبيعي بين الكائنات، وزلزل فرويد بنيان الوعي البشري وحرية الإرادة عند الإنسان. أعادت الصدمات الثلاثة الكبرياء البشري ، وأعادت التساؤلات حول قلق البشر الوجودي، وكسرت حالة الطمأنينة التي كان يعيشها البشر بفعل مسلماتهم الأيديولوجية والفكرية القديمة، ودفعت بهم إلى مجابهة الطبيعة القاسية للنجاة بحياتهم بعد أن سلبت منهم سكينتهم النفسية.
حتى اليوم، ومع تطور العلوم والمعارف والتكنولوجيا والاكتشافات الكونية والجيولوجية وبروز الذكاء الاصطناعي، والكشوفات العلمية المختلفة، ما يزال العديد من البشر حول العالم يحاولون رفض القبول بهذه النظريات والإذعان لها لأنهم لا يزالون يحيطون أنفسهم بهالة من القدسية جعلتهم يرون أنفسهم أسيادًا للأرض وعلة لوجود الكون المسخر، وفقًا لرؤيتهم، لراحتهم وخدمتهم. زلزل فرويد بنيان الوعي البشري وحرية الإرادة.
مصادر:
- Copernicus, Darwin and Freud: A Tale of Science and Narcissism. By John Horgan.
- Copernicus, Darwin, and Freud: Revolutions in the History and Philosophy of Science by Friedel Weinert