لنفرض أنك حصلت على مبلغ 72 مليون دولار، وخُيّرت في إنفاقها بين شراء جزيرة بما فيها من منازل وفناءات ومناظر خلّابة، وبين شراء لوحة (المركز الأبيض) الفنية للفنان مارك روثكو التي تتألف من مستطيلات ملونة بالأصفر والورديّ ويفصل بينهما مستطيل أبيض،
فما الذي ستختاره؟
الغالبية العظمى من الناس ستختار الجزيرة بما فيها، لأن لديهم معايير مسبقة تخص شراء العقارات، بمعنى الدفع مقابل الحجم أو الموقع، لكنهم لا يملكون المعايير التي تخص تثمين عمل فنيّ ما. لا يرى غالبية البشر ضيرًا في إعطاء الأشياء الكبيرة التي يمكن العيش فيها، وقيادتها، أو ارتداؤها أو استهلاكها قيمة مادية كبيرة نسبيًا لأنها، وببساطة، تدعم الوظائف البشرية الأساسية من مأوى وغذاء وملبس ونقل. بينما يرفضون دفع مبالغ كبيرة لقاء الأعمال الفنية التي لا تملك تأثيرًا مباشرًا على أساسيات حياتهم.
إذًا ما الذي يجعل اللوحات الفنيّة قيّمة لهذه الدرجة، وكيف يتم تثمينها؟
أصل اللوحة الفنية
يمكن أن تُعزى قيمة العمل الفنيّ إلى أصله ومصدره، أي وبعبارة أخرى من امتلك اللوحة في الماضي. فلوحة المركز الأبيض للفنان روثكو، كانت مملوكة لعائلة «Rockefeller» إحدى أقوى السلالات الحاكمة في أمريكا، حيث قفز ثمن تحفة روثكو من أقل من 10 آلاف دولار، عندما امتلكها ديفيد روكفلر أول مرة، إلى ما يزيد عن 72 مليون دولار عندما بيعت لاحقًا في مزاد علني، حتى أنها كانت تعرف بالعامية باسم لوحة «روكفلر روثكو».
إسناد ونسبة اللوحة الفنية
نادرًا ما تُباع الروائع الفنية القديمة، حيث يُحتفظ بها عادة في المتاحف، ولا يحدث أي تغيير في المالكين الأصليين، ومع ذلك، تباع هذه التحف بين الحين والآخر، كما هو الحال في لوحة «مذبحة الأبرياء» للفنان بول رونبز.
يُعتبر روبنز أحد أعظم الرسامين في كل العصور، ولا يمكن إنكار أن لهذه اللوحة الفنية قيمة تقنية، بالقدر ذاته الذي تحمله من عاطفة وبراعة في التكوين، لكنها وحتى وقت قريب لم تكن قد نسبت له، لكن وبمجرّد أن نُسبت لمُبدعها الأول، حتى ارتفعت قيمتها بين عشية وضحاها.
إثارة المزاد
تغصّ غرف المبيعات في مزادات كريستيز أو سوثبيز بالمليارديرات -أو مستشاريهم إن صح القول- فهناك مبالغ فاحشة من المال ستكون على المحك، والمشهد برمّته سيكون صاخبًا، فالباعة في تلك المزادات مهرة جدًا، يديرون المشهد، يزيدون الحماس والإثارة كلما زايد المشترون على منافسيهم، وبالتالي يساعدون في رفع أسعار القطع المعروضة. من الممكن أن يرفع فريقان اثنان يتنافسان فيما بينهما للحصول على اللوحة من ثمنها أضعافًا مضاعفة لامتلاكهم أسبابهم الخاصة للحصول عليها، عندها، لا تكون قيمة اللوحة مرتبطة لا بنوعية الألوان ولا القماش المستخدمة، ولا حتى باسم الفنان الذي رسمها، بل فقط بقيمتها المعنوية لهذين الفريقين.
نذكر في ذلك قول أحد الباعة الأسطوريين في مزاد كرستيز «كريستوفر بيرج»، حين وصف الهتاف المطوّل الذي أعقب المزاد الذي أداره لبيع لوحة بورتريه «الطبيب غاشيه» بريشة فينست فان غوخ والذي حقق رقمًا قياسيًا في ذلك الوقت، فقال:
«كان التصفيق مستمرًا، وقفز الناس على أقدامهم يهتفون ويصرخون، الأمر الذي لم نشهده سابقًا، أعتقد أن تصفيقهم كان بسبب الوضع المالي الخطير الذي واجهناه في 1990، والجميع يعتقد بأن السوق في طريقه للانهيار، أعتقد أن الجميع كان يصفّق ارتياحًا لأنهم وفّروا أموالهم، لم يصفّق أحد لفان غوخ، لم يصفقوا للعمل الفني، لكنّهم يصفقون لأجل المال».
أهمية اللوحة الفنية ودلالتها التاريخية
الأهمية التاريخية للوحات الفنية:
أولًا: يمكن تثمين اللوحة الفنية بمقارنتها مع نوع الفن المرسومة به بين الماضي والحاضر، فعلى سبيل المثال، ازدادت قيمة اللوحة التي رسمها كلود مونيه بشكل كبير بالمقارنة مع غيرها من الأعمال الانطباعية الحديثة، بعد اعتباره شخصية ساهمت في تغيير تاريخ الفن والانطباعية ككل.
ثانيًا: تتأثر قيمة الفن وتثمين اللوحات بتاريخ العالم أيضًا، فغالبًا ما يكون الفن انعكاسًا لثقافة عصره. وبما أنه أصبح سلعة تباع وتشترى، فقد تأثر الفن بالتغيرات السياسية والتاريخية، فقبل قيام دولة روسيا، كان الاتحاد السوفيتي محكومًا من قبل الشيوعية، ولم يكن مسموحًا للأقليات الحصول على أي ممتلكات خاصة. لكن، بعد انهيار النظام الشيوعي، أصبح من الممكن للأقليات من الروس امتلاك العقارات، ومن بعدها بدأوا يتطلّعون إلى امتلاك اللوحات الفنية للاستفادة من هذه الفرصة، وأصبحوا مع الوقت من أهم المزايدين في المزادات العلنية الفنية.
لا يتعلّق الأمر كثيرًا بتلك اللوحات الفنية بحد ذاتها، لكن حقيقة أن هؤلاء الأقليات كانوا يملكون كميات كبيرة من الأموال تمكّنهم من إنفاقها كيفما شاؤوا؛ توضّح لنا كيف يمكن للتغيرات السياسية أن تُحدث تأثيرًا تاريخيًا على قيمة الفن عندما ينتقل من مالكيه السابقين إلى ملاك جدد.
ونضرب مثالًا آخرًا على الأهمية التاريخية التي تؤثر على تثمين اللوحات، لكنها تنطلق من فكرة استرداد الحق، كيف ذلك؟
خلال الحرب العالمية الثانية، سرق النازيون لوحة بورتريه «أديل بلوخ باور II» للرسام النمساوي غوستاف كليمت، وبعد مرور عدة سنين، وقبل أن تباع في المزاد، أُعيدت اللوحة في نهاية الأمر قانونيًا لأحد ورثة المالك الأصلي. ونظرًا لقصتها المثيرة وأهميتها التاريخية على نطاق عالمي، أصبحت لوحة «أديل بلوخ باور II» رابع أعلى لوحة فنية سعرًا في وقتها، وبيعت مقابل 88 مليون دولار تقريبًا، حيث امتلكتها سابقًا أوبرا وينفري أما الآن فمالكها غير معروف.
اللوحات الفنية رمز المكانة
في السنوات الأولى من تاريخ الفن الذي نعرفه اليوم، كان الملوك والمؤسسات الدينية يكلفون الفنانين بإنجاز برسوماتهم، حتى جاءت المزادات الخاصة في وقت متأخر وتحول الفن الراقي إلى سلعة فاخرة مع تحوّل بعض الفنانين إلى علامة تجارية بحد ذاتها. على سبيل المثال، أصبح الرسام الإسباني بابلو بيكاسو علامة تجارية بارزة عندما قام الملياردير ستيف وين بجمع أعماله.
افتتح وين مطعمًا متميّزًا في المدينة المهووسة بالمال،لاس فيجاس، وعلق مجموعة من أعمال بيكاسو التي تبلغ القيمة المادية لكل منها عشرات آلاف الدولارات على جدران المطعم.
اشترى وين في وقت لاحق فندقًا وباع معظم لوحات بيكاسو التي كان يمتلكها بما فيها لوحة اسمها «Le Reve » التي باعها بمبلغ 155 مليون دولار إلى ستيفن كوهين.
ختامًا، تلعب العديد من العوامل دورًا في تحديد القيمة المادية للوحات الفنية، بما في ذلك اسم الفنان وحجم تأثيره في تاريخ الفن، وملاكها السابقين، وأماكن عرضها، والعامل النفسي المتعلق بأجواء المزادات العلنية التي تباع فيها، ولا يتعلق سعر اللوحة فقط بالقيمة المادية للأدوات التي صنعت منها، من قماش وألوان زيتية وغيرها.
المصادر
- https://totallyhistory.com/white-center-yellow-pink-and-lavender-on-rose/
- https://www.sothebys.com/en/auctions/ecatalogue/2007/contemporary-art-evening-sale-n08317/lot.31.html
- https://www.peter-paul-rubens.org/massacre-of-the-innocents/
- http://artscash.com/paintings-16.html
- https://www.reproduction-gallery.com/oil-painting/1030960875/la-promenade-argenteuil-by-claude-monet/