تتأثر اللغة بحضارات، وتقاليد، وثقافات الأمم التي تختلط معها، فكلّما نهضت الأمة بحضارتها؛ اتسعت رقعتها الجغرافية وانتشرت ثقافتها، الأمر الذي يعكس تأثيره على اللغة أيضًا كونها أداة التعبير الأولى، فتدخل عليها مفردات جديدة إما باشتقاق أو اقتباس، لتبقى تلك اللغة حيّة وبحالة تطوّر مستمر، وتصبح منيعة ضد الصراعات اللغوية. ولذلك يُقال بأن اللغات هي السجل الأصدق لتاريخ الشعوب. وأصدق مثال حيّ هو اللغة العربية، التي أمست لغة العلوم الأولى في القرون الوسطى، إذ شملت العلوم العقلية والنقلية (كالطب، والفلك، والطبيعة، والفقه والتفسير)، وتركت خلفها آثارًا شهدت بعبقرية العلماء العرب على مر التاريخ.

ولا ينكر أحد بأن اللغات تتداخل وتتشابك فيما بينها، وذلك إذا ما اتصلت إحداها بالأخرى مباشرةً أو بصورة غير مباشرة، إذ كانت الشعوب سابقًا تختلط ببعضها أثناء السفر بُغية التجارة أو التعلّم مثلًا، او عن طريق  الحروب التي تدور بين الدول وسيطرة دولة على أخرى. وبالتالي يكاد يتعذّر على اللغة أن تبقى بمأمنٍ عن الاحتكاك ببقية اللغات الأخرى. 

في الحقيقة إن الأثر الذي يقع على لغة ما عند اختلاطها بلغات ثانية، كثيرًا ما يؤدي بها إلى التطوّر لغويًا، فهذا الأمر ضرورة تاريخية، ومن أهم النواحي التي يظهر فيها احتكاك اللغات ببعضها، هي ناحية المفردات، التي يكثر تبادلها واقتباسها بعضها من بعض.

ولكن ما الذي يجعل لغة ما أكثر انتشارًا من لغة أخرى، ويجعلها صامدة أمام غزو اللغات الأخرى لها؟ 

يعتبر المتخصصون في مجال اللغة عبر مسيرة الصراع اللغوي، أن لهذه الظاهرة عدة عوامل، ولربما كان العامل الحضاري والثقافي أهمها، وذلك من ناحية التأثير والتأثّر على حدٍ سواء، جنبًا إلى جنب مع كثرة الناطقين بتلك اللغة. ولكن إن أردنا تفصيلها أكثر وتحديد أسبابها، دعونا نرجع إلى التاريخ قليلًا:

الانتصار في الحروب

اندلعت عبر التاريخ كثير من الحروب بين الدول، وبطبيعة الحال سيكون هنالك منتصر، فإن كان لهذا المنتصر حضارة وثقافة و رُقيًّا يغلب على حضارة الطرف المهزوم، سيعمل الأخير على تقليد غالِبه في ثقافته وعاداته، ويلتمس شيئًا من لغته، كما هو الحال في آلاف الألفاظ من اللغة العربية التي نُقِلت أثناء الحروب الصليبية إلى اللغات الأوروبية، إذ يذكر العلماء بأن اللغة الإسبانية أخذت من العربية مئات الألفاظ فيما يخص الشوؤن البحرية وحدها.

وأيضًا نجد اللغات الإنجليزية، والألمانية، والفرنسية مثلًا، تقترض كلها المفردات من بعضها، متأثرة بالحروب التي قامت في أوروبا، واللغة اللاتينية أيضًا، التي كانت محصورة في منطقة ضيقة من إيطاليا، ولكن انتصارها في الصراع اللغوي، جعل منها لغة رسمية في دول عدة كإيطاليا، والبرتغال، وإسبانيا وغيرها.

الهجرة القومية

تحدث الهجرة القومية كنتيجة عن الحروب، أو الصراعات السياسية، فإن حدثت بشكل مكثّف، أدى ذلك إلى وضع تلك القومية ثقافتها ونشر لغتها أينما حلّت، وبالتالي ستتأثر الحضارات الجديدة بلغة تلك القومية.  

الاحتكاك والاختلاط بسبب التجاور أو التجارة أو التعلّم

تتأثر اللغات بفضل تجاور الدول بعضها لبعض، فضلًا عن التعاملات التجارية فيما بينها، والتي أثّرت بصورة واضحة، وعملت على نقل الكثير من أسماء المنتجات الفلاحية، والصناعية. ومن الواضح أن لسفر طالبي العلم أثر عميق في تمكين العلاقات الثقافية، والحضارية بين الشعوب، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى التعايش المشترك، وهذا ما يقودنا إلى التأثر والتأثير بين اللغات عبر اقتباس الألفاظ، فيجعل هناك متسع لتتطوّر اللغة وزيادة حيويتها.

وها هي اللغة العربية مثالًا جليًا، حالها كحال غيرها من لغات في العالم في التأثير والتأثر، فقد انتشرت وارتفع شأنها برفعة شأن أهلها، وغناها بالتراكيب والدلالات والأوزان، وكثرة مرادفاتها، وما تحويه من انسجام صوتيّ، فقد تقاطعت وتشابكت مع اللغات الأعجمية، نتيجة الهجرات الفردية والجماعية، وبخاصة في العصر العباسيّ، حين امتدت حدود الدولة الجغرافية من إسبانيا والبرتغال غربًا، وصولًا إلى حدود الصين شرقًا، ومن سفوح الأناضول شمالًا، إلى وسط إفريقيا جنوبًا.

أظهر التاريخ كفاءة اللغة العربية الواسعة في الترجمة من اللغات الأعجمية، وقدرتها على استيعاب الأفكار الجديدة، ولم يشتك أحد من المترجمين في العصور السابقة من قصور اللغة العربية الفصحى عن تغطية الأفكار الفلسفية والعملية التي كانت لمفكرين إغريقًا ورومانًا وسريانًا، وغيرهم.

وبحسب رأي اللغويين، فقد امتازت اللغة العربية بالحيوية الشديدة، فلم تتشابك مع لغة إلا وظفرت بها، كالسريانية والآرامية في العراق، والفارسية في إيران، والإسبانية في الأندلس، والقبطية في مصر، فنجد ألسنة أهل تلك البلدان قد تحوّلت إلى العربية واتخذوها للتعبير عن مشاعرهم في الشعر، وعن عقولهم في الفكر والسياسة.

وقد أشار ابن خلدون عن هذا التأثير حين خصص فصلًا في (تاريخ ابن خلدون) بعنوان لغات أهل الأمصار قائلًا: إعلم أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو المختلطين لها»، وتابع «فلمّا هجر الدّين اللّغات الأعجميّة وكان لسان القائمين بالدّولة الإسلاميّة عربيّا هجرت كلّها في جميع ممالكها لأنّ النّاس تبع للسّلطان وعلى دينه فصار استعمال اللّسان العربيّ من شعائر الإسلام وطاعة العرب. وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك. وصار اللّسان العربيّ لسانهم حتّى رسخ ذلك لغة في جميع مدنهم وصارت الألسنة العجميّة دخيلة فيها وغريبة».

وأشار أيضًا إلى تأثر اللسان العربي بسبب اختلاط ألسنة العامة من العرب مع ألسنة الأعاجم في الأمصار الإسلامية -البلدان التي بُنيت أو فتحت أثناء المدّ الإسلامي- فقال: «ثمّ فسد اللّسان العربيّ بمخالطتها في بعض أحكامه وتغيّر أواخره وإن كان بقي في الدّلالات على أصله وسمّي لسانا حضريّا في جميع أمصار الإسلام»

لم تنحصر اللغة العربية في تأثيرها ضمن الجانب النطقي فحسب، بل تعدت ذلك وصولًا إلى الجانب الكتابيّ أيضًا، ويبدو ذلك واضحًا في اقتباس بعض اللغات للحروف العربية للتعبير عن لغاتها الأصلي، وأكثر ما نجد هذا التأثير في البلاد الآسيوية، والإفريقية، وغيرها. وبحسب الأب رفائيل نخلة في كتابه (غرائب اللغة العربية)، فإن عدد اللغات التي أخذت حروف اللغة العربية هو سبع وثلاثين لغة، واعتبر أن كلًا من العوامل السياسية والاقتصادية، والدينية على حد سواء، أفضت إلى شدة تأثير اللغة العربية في تلك اللغات، إذ تكاد لا توجد كلمة طويلة في تلك اللغات إلا واحتوت على عدة عناصر عربية.

تأثير اللغة العربية في اللغات الأوروبية

1- اسبانيا والبرتغال

بدأ تأثير اللغة العربية في اللغات الأوروبية بصورة واضحة بدءًا من القرن العاشر الميلادي وحتى القرن الخامس عشر، وذلك في فترة وجودها في الجنوب الأوروبي، الأندلس وصقليّة والجزر المحيطة، وبرغم أن وجود اللغة العربية قد تقلّص الآن في تلك البلاد، لكنه خلّف آثاره على ألسنة المتكلّمين في اللغات المحلية كالإسبانية والبرتغالية، الذي نجد فيهما تصنيفًا ضمن (معجم الألفاظ الإسبانية والبرتغالية المشتقة من العربية) الذي حوى بين طيّاته نحو ثمانية عشر ألف كلمة مشتقة من أصول عربية.

2- فرنسا

وقد اهتم بعض الباحثين الأوروبيين مثل الكاتب الفرنسي (بيير جيرو) بدراسة الكلمات العربية الدخيلة في المعجمات، إذ أقرّ بتأثير اللغة العربية في اللغة الفرنسية، مقدّمًا قائمة ضمّت مئتين وثمانين كلمة دخلت من العربية إلى الفرنسية عبر التاريخ، ولهذا السبب قام فريق من الباحثين بدراسة تلك الكلمات لإظهار الوسيلة التي دخلت من خلالها تلك الكلمات إلى لغتهم.

3- رومانيا

قام باحثون أكاديميون رومانيون بتتبع ودراسة الألفاظ ذات الأصل العربي والتي دخلت إلى اللغة الرومانية عبر التاريخ. أحد أولئك الأكاديميين الباحث (نيكولاي دوبرشان) الذي قال في هذا المجال: «دخلت إلى اللغة الرومانية المئات من الألفاظ العربية -نحو 400 مفردة-، وذلك بمساعدة بعض اللغات البلقانية كالبرتغالية والصربية، إضافة لمئات المشتقات منها والتي لا تزال مستخدمة في الأدب الروماني المعاصر»

4- الجزر البريطانية

قد يقول أحدنا بأن اللغة الإنجليزية كانت بمنأى عن تأثير اللغة العربية، لأن الجزر البريطانية كانت بعيدة عن موجة المد العربي الإسلامي لجنوب أوروبا، وحوض المتوسط، لكن الغزو العلمي العربي وصل لكل مكان في أوروبا، ولهذا نجد في الإنجليزية قدرًا كبيرًا من الكلمات ذات الأصول العربية والتي تُقدّر بالمئات.

ختامًا

كانت اللغة العربية عبر مرّ العصور هي الوعاء الأساسيّ الذي يحوي العلوم والأدب بكل نواحيه، كالطب، والفلسفة، والفيزياء وغيرها، ونظرًا لأنها تعطي مجالًا واسعًا للإيجاز والتعبير وتميّزها بالتراكيب الفريدة ومرونتها في شرح الأمور العلمية، استطاعت الوصول والانتشار في كل بقعة حلّت فيها، عن طريق تجارة أو تبادل العلوم أو الغزوات.

__________

المصادر:

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا