في سبتمبر من عام 1939، فور اندلاع الحرب العالمية الثانية، وصل شاب للإقامة في فندق كراون إن في قرية شينلي بروك إند، باكينجهامشير. كان الشاب لائقًا بدرجة كافية -عداءًا استثنائيًا للمسافات الطويلة- وأبدت صاحبة النُزُل، السيدة رامشاو، مخاوف من أن مثل هذا الشاب المتميز جسديًا لم يكن يؤدي دوره في المجهود الحربي بالانضمام إلى القوات المسلحة.
لم يكن سخط السيدة رامشو في محله. كان الرجل هو آلان تورينغ، وكان عمله في بلتشلي بارك، القاعدة السرية للشيفرات ومدرسة فك التشفير، قسم فك الشفرات بوزارة الخارجية؛ كان دوره حاسمًا في إحباط الأعمال العسكرية الألمانية.
عاد تورينغ إلى إنجلترا في الصيف الماضي بعد عدة سنوات من البحث في جامعة برينستون، ما أدى إلى حصوله على الدكتوراه. ثم جددت جامعة كامبريدج زمالته في كينجز كوليدج، التي حصل عليها لأول مرة في مارس 1935 بعد حصوله على مرتبة الشرف من الدرجة الأولى هناك.
في عام 1938، مع خطر نشوب صراع في أوروبا يلوح في الأفق، كان تورينغ من بين عدد من الأكاديميين البريطانيين الذين اتصلت بهم مدرسة فك التشفير للقيام بعمل سري تحسبًا لاندلاع الحرب. عمل بدوام جزئي في مدرسة فك التشفير، وحضر العديد من الدورات التدريبية، وتعاون مع ديلي نوكس، وهو مفكك رموز مخضرم حارب في الحرب العالمية الأولى، في محاولات لكسر تشفير آلة إنيغما الألمانية.
آلان تورينغ خلال الحرب العالمية الثانية
في 4 سبتمبر 1939، بعد يوم من إعلان بريطانيا الحرب على ألمانيا، عمل تورينغ في بلتشلي بارك وركزّ عمله على إنيغما. واصل قيادة الفريق المسمى Hut 8، على اسم الكوخ الخشبي الذي كان مقره في البداية.
خلافًا للاعتقاد الشائع، لم يكن هناك رمز إنيغما واحد. طُورت آلة إنيغما -هي عبارة عن مجموعة من أجهزة التشفير المحمولة التي تستبدل كل حرف في رسالة بحرف آخر من الأبجدية- لأول مرة في عشرينيات القرن الماضي وأدخِل عليها تحسينات على مدار السنوات اللاحقة. بحلول أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، استُخدم إصدارات مختلفة من قبل الفروع المختلفة للجيش الألماني. استغلت العمليات الحربية للألمان الطبيعة المتبادلة للآلة. عندما يُوضع جهازي إنيغما بنفس الطريقة، إذا كتبت على أحدهما A وحولته إلى B، على الجهاز الآخر إذا كتبت B، فستحوله الآلة إلى A.
كان الإعداد الذي يحكم هذه الاستبدالات معروفًا في بليتشلي بارك على أنه المفتاح اليومي، لأنه كان يتغير عادةً كل 24 ساعة. إذا كان بإمكان مفككات الشيفرة في بليتشلي بارك العمل على المفتاح اليومي، فيمكنهم فك تشفير وقراءة جميع الرسائل الألمانية التي تُعترض والتي تُرسل في ذلك اليوم. تم ذلك باستخدام آلات إنيغما المقلدة، المصنعة في بريطانيا. لكن عدد المفاتيح اليومية الممكنة كان أكبر من أن نتخيله. في حالة آلات إنيغما في الجيش الألماني والقوات الجوية، كان هناك 158.9 مليار مليون احتمال. كان هذا هو المفتاح اليومي الذي كان تورينج وزملاؤه يحاولون حله.
في الأشهر السابقة، التقى نوكس بأعضاء مكتب الشفرات البولندي الذين كانوا يتعاونون مع المخابرات الفرنسية. بعد أن عملوا على إنيغما لعدة سنوات، حقق البولنديون بعض النجاح في كسر النظام الذي استخدمه الجيش الألماني والقوات الجوية في الثلاثينيات، لكن أساليبهم لم تعد تعمل بسبب التغييرات التي أدخلها الألمان على آلات إنيغما. لقد صمموا أيضًا آلة نصف آلية -بومبا كريبتولوجيكزنا (سميت على اسم حلوى الآيس كريم البولندية تسمى بومبا)- لتحديد الإعدادات التي كانت حيوية لفك الرموز التي تنتجها إنيغما، ما يسرع العملية بشكل كبير. في يوليو 1939، شاركوا النتائج التي توصلوا إليها مع نوكس.
كيف كسر تورينغ شيفرات إنيغما
في بلتشلي بارك، ابتكر تورينج نوعًا جديدًا وأكثر قوة من الآلات الكهروميكانيكية لتحديد إعدادات إنيغما الحاسمة. أضاف عالم رياضيات آخر من كامبردج يعمل في بلتشلي بارك، وهو جوردون ويلشمان، إضافةً مهمة زادت من فعالية الآلة – التي سُميت بومبي- حيث زودت بلتشلي بارك بأداة مهمة لكسر الشفرة. بحلول نهاية الحرب، أنتِج منها حوالي 211 آلة.
على الرغم من ذلك، لم تكن بومبي هي الحل الكامل لآلة إنيغما. في أوائل عام 1940، طُلب من تورينغ تولي مهمة كسر نظام إنيغما التابع للبحرية الألمانية، والذي استخدم إجراءات أكثر أمانًا من تلك الخاصة بالقوات الجوية والجيش. اعتقد الكثيرون في بلتشلي أنه لا يمكن كسرها؛ ومع ذلك كان القيام بذلك أمرًا حيويًا.
كانت هذه أوقاتًا عصيبة بالنسبة لبريطانيا. أصبحت البلاد تعتمد بشكل متزايد على قوافل السفن التي تحمل الإمدادات الحيوية عبر شمال المحيط الأطلسي، وكانت هجمات الغواصات الألمانية تعيث فسادا في هذه القوافل: فقد تجاوز متوسط خسائر الشحن الشهرية في عام 1940 أكثر من 220 ألف طن. لمعالجة هذا الأمر، جرى توسيع فريق تورينج بلتشلي بارك.
كان هذا التحدي بالنسبة لتورينغ. بعد إعداد أجهزتهم باستخدام المفتاح اليومي، طبق كل مشغل إنيغما إعدادًا نهائيًا واحدًا قبل تشفير الرسالة. سُمح لمشغلي الجيش والقوات الجوية الألمانية باختيار هذا الإعداد بأنفسهم، لكن البحرية الألمانية أصدرت دفاتر رموز لهذا الغرض. في عمل رائع، تمكن تورينغ من استنتاج كيفية استخدام كتب الأكواد هذه بسرعة كبيرة، لكنه أدرك أن فريقه سيحتاج إلى الحصول على نسخ قبل إحراز مزيد من التقدم.
لم يبدأ تورينغ وزملاؤه في تحقيق النجاح في العمل على المفتاح اليومي وقراءة الرسائل البحرية الألمانية المشفرة إلا بعد التقاط كتاب رموز البحرية الألمانية. يمكن بعد ذلك إنتاج تقارير استخباراتية حول تحركات السفن والقوارب الألمانية وإرسالها إلى الأميرالية لنشرها.
لعب اعتراض وفك تشفير الرسائل البحرية الألمانية دورًا حاسمًا في المعارك البحرية الكبرى في الحرب العالمية الثانية. يمكن تحديد موقع السفن الألمانية وغواصات يو ومهاجمتها، ويمكن تحويل قوافل الحلفاء لتقليل خسائر الشحن.
في ذروة عمله، كان مكتب فريق تورينغ يضم أكثر من 150 موظفًا. لقد كانت جزءًا من عملية كبيرة لكسر الشفرة في بلتشلي بارك والتي كسرت عددًا من رموز وأنظمة التشفير الأخرى للعدو بالإضافة إلى إنيغما، وظفت ما يصل إلى 10500 شخص؛ كانت العملية حقًا جهدًا جماعيًا. ومع ذلك، كانت مساهمة تورينغ أساسية.
في أواخر عام 1940، كتب تورينغ تقريرًا يصف الأساليب التي استخدمها هو وزملاؤه لحل نظام إنجما الألماني. كان يُعرف باسم كتاب الأستاذ، وأصبحت القراءة ضرورية للمجندين الجدد.
إرث آلان تورينغ
بعد سنوات، أوضح بيتر هيلتون، مفكك الرموز في بلتشلي بارك، أن ما يميز تورينغ عن زملائه هو قدرته على ابتكار أفكار شعر هيلتون أنه لم يكن ليفكر فيها خلال مليون عام. أدت هذه الأفكار إلى ظهور عدد من الأساليب الإحصائية ذات الأسماء الغريبة.
في يونيو 1946، أُعلن أن تورينج قد حصل (في عام 1945) على وسام الإمبراطورية البريطانية للخدمات الحربية. كانت هناك شائعات بأنه قد نُظر في منحه جائزة أعلى، ولكن كان وسام الإمبراطورية البريطانية للخدمات الحربية هو الأعلى الذي يمكن منحه لموظفي الخدمة المدنية من رتبة تورينغ الرسمية في زمن الحرب؛ لم يُكشف عن دوره الحقيقي لمدة ثلاثة عقود أخرى.
بعد الحرب، عمل تورينغ في المختبر الفيزيائي الوطني في لندن، حيث صمم جهاز كمبيوتر رقميًا مبكرًا. في عام 1945، تولى منصبًا في جامعة مانشستر وساهم في تطوير الكمبيوتر الرائد. كان البحث البيولوجي يشغل الآن الكثير من وقته وفي نوفمبر 1951 أكمل بحثًا عن نظرية التشكل. ومع ذلك، كان العمل الذي قام به قبل ذلك بكثير هو ما جعله معروفًا أكاديميًا في السنوات اللاحقة.
في عام 1935، حضر تورينغ محاضرة ألقاها عالم الرياضيات ماكس نيومان، ناقش فيها مشكلة القرار التي تطلب طريقة لتحديد المشكلات الرياضية القابلة للحساب. أثار هذا اهتمام تورينغ، وأسفر بحثه عن ورقة بعنوان حول الأرقام القابلة للحساب مع تطبيق على مشكلة القرار، التي نشرتها جمعية لندن الرياضية في عام 1937. وبحلول أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، كانت شهرته كمؤلف لتلك الورقة العلمية وفي عام 1953، عينت جامعة مانشستر تورينغ لمنهج أنشِئ خصيصًا في نظرية الحوسبة.
ولكن بينما كانت شهرة تورينغ الأكاديمية تنمو، كانت حياته الخاصة في حالة اضطراب. في 31 مارس 1952، في محكمة في نتسفورد، شيشاير ، اتُهم تورينج بكونه طرفًا في ارتكاب فعل فاضح للحشمة في الواقع، وجهت إليه تهمة المثلية الجنسية. لقعد عانى تورينغ مع هويته الجنسية إذ لم تكن بريطانيا أو أي بلد آخر في ذاك الوقت يعترف بحقوق المثليين، وبعد معاناة شديدة قرر إنهاء حياته بتناول السيانيد.