«قد أختلف معك في الرأي، لكني مستعد لأموت دفاعًا عن رأيك» -فولتير-
كثرت الصراعات بين السلطتين الدينية والمدنيّة في القارة الأوروبية بعد فترة طويلة من سلطة الكنيسة التي اتخذت فكرة الحكم الإلهي نهجًا لها. إذ تعتبر أن الإله هو من وضع القوانين الطبيعية، ومن ثم وضع ممثلًا حصريًا له -وهو الحاكم- ليُنزل تلك القوانين للأرض ويطبقها. ومع استمرار تلك السلطة الدينية في حكمها، ظهر نوع من التعصّب الديني في المجتمع، الأمر الذي أدى إلى تناثر الطوائف، واندلاع حروب دامية استشرت بين شعوب أوروبا طوال القرنين السادس والسابع عشر. ولهذا كان لا بُدَّ من أن يعلو صوت الفلاسفة، فانتفض العديد منهم دفاعًا عن القيم الإنسانية، ودعوا لزوال الوحش الذي تمثّل بهيأة التعصّب الديني والذي انتشر بتأييد من المحاكم وسلطة رجال الكهنوت في تلك الفترة، الأمر الذي مزّق البلاد، وعصف باستقرارها الروحي والاجتماعي.
لكن بعد الأهوال التي خلّفتها تلك الحروب، وانتهاء الصراع الديني-المدني، لصالح الحكم المدني الذي أصبح له الكلمة الفصل، وتجريد الكنيسة من سيطرتها على الناس، دعا هنري الرابع بمرسوم ملكي، إلى ضرورة احترام من ينتمون لديانات مختلفة لا سيما الجماعات المُضطهدة منها، وأن يُمارسوا اعتقاداتهم الخاصة بحرية، لينتقل التسامح من مصطلح فلسفي، إلى مفهوم اكتسب دلالات معرفية وواقعية وحقوقية، وأُقرّ من قبل الحكومات في أوروبا التي أجبرت شعوبها على اتباعه، خصوصًا مع الأقليّات الدينية كاللوثريين والبابويين وغيرهم، ليضع التسامح حدًا للجنون الحاصل في الحروب الدينية، ويدخل حيّز التنظير في الفلسفة، ومن ثم حيّز التنفيذ في قوانين الدول.
لكن وقبل أن نرى مفهومه لدى الفلاسفة، دعونا أولًا نتوسّع وإياكم بمفهوم التسامح، وكيف هو السبيل لتحقيقه إذا ما كثُرت النزاعات المذهبية وتفشّت الأنانية بين أفراد المجتمع الواحد.
التسامح وأنواعه
يعني التسامح أن تكون متقبلًا لأساليب الغير في التفكير، وطريقة عيشهم، والاندماج معهم، والابتعاد عن أي شكل من أشكال العزل والتقوقع ضمن جماعة خاصة بسبب الاختلاف في الدين أو العقيدة أو العرق وغيرها، فهذه من المواقف والمبادئ الأخلاقية التي تعبّد الطريق أمام وصولك لفضيلة التسامح الذي من شأنه أن يضمن محاربة الإقصاء الاجتماعي ويحارب الحقد ويفتح أبوابًا للتحاور ويجمع بين الأطراف المتناحرة، ليفتح في نهاية المطاف أبواب التشاركية، والتنوع، والتعرّف على الثقافات الأخرى.
يندرج كل ما سبق تحت أنواع التسامح والتي تشمل:
- التسامح الفكري والثقافي
- التسامح العرقي
- التسامح السياسي
- التسامح الديني
التسامح في ظل التعددية الدينية، والنزاعات المذهبية
يُعتبر مفهوم التسامح واحدًا من أكثر المفاهيم التي تثير الجدل خصوصًا إذا ما دخلت في ضوء التعددية الدينية، لكن تولّد في العقود الأخير وعي بين الشعوب بضرورة توسيع الفهم التعددي خصوصًا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة السفر بين البلدان والتعرف على الثقافات الأخرى. على الرغم من ذلك، ولّد التعدد في بعض جوانبه نوعًا من التوتر، مما أسهم في تزايد العنف والتناحر الطائفي في العالم ككل، ولكن كي لا يضيع المفهوم السامي للتسامح، ويحل العنف بديلًا عنه، كان لا بُدَّ من تعايش متبعي مختلف العقائد والأفكار في عالم واحد، وجعل فكرة التعددية أكثر ألفة كون أن التنوع والاختلاف والتفاوت لهو من السمات الطبيعية في الوجود الإنساني. لذا وحتى تتحقق الصورة المثلى للتسامح الانساني، كان لا بُدَّ من خلق مجتمع منفتح، ومواصلة السير على هذا المنوال.
وقد ذهب العديد من الدارسين إلى ربط التعددية الدينية بالتعددية الحضارية، ونذكر بذلك قول عالِم اللاهوت يورغن مولتمان: «كان لكل أمة دين، ولكل حضارة تاريخها الديني الخاص بها»، لذا كان لا بُدَّ من التخلي عن التفسير الديني للتعددية التي يراها بعض المتعصبين مظهر للانحراف العقائدي، والتخلي عن فكرة الفرقة الناجية، لأن ذلك سيولّد مزيدًا من الأنانية والكبرياء، ويزيد من الكراهية بين الطوائف التي ترى كل واحدة نفسها أنها تملك الخلاص.
مفهوم التسامح عند الفلاسفة ( يورغن هابرماس أنموذجًا)
طال مفهوم التسامح العديد من المقارنات بين المراجعات الفلسفية، وناله سيل جارف من الكتابات بين الفلاسفة من مختلف العصور، فمنهم من ناقش التسامح من الناحية الأخلاقية، ومنهم من جادل فيه من ناحية العاطفة والمحبة، لكن من بين أولئك الفلاسفة برز اسم الفيلسوف يورغن هابرماس ليُناقش مفهوم التسامح عبر توطيد مبدأ الحوار، والتبادلية، والتركيز على تمكين الوعي الثقافي في المجتمع.
ميّز هابرماس بين دلالتين لمفهوم التسامح، الأولى دلالة ضيّقة ومحصورة بالتسامح الديني، كالذي كان سائدًا أيام الحروب الدينية، وبين دلالته القانونية، التي ظهرت قُبيل القرن السابع عشر عندما أقرّت الحكومات بعض القوانين التي تُجبر مواطنيها المؤمنين على أن يكونوا متسامحين مع الأقليّات الدينية، كاللوثريين، والبابويين الذين يحتكمون إلى سلطة البابا المطلقة، والفرنسيين البروتستانت الذين تهجّروا بسبب الحروب الدينية.
تتبّع هابرماس مفهوم التسامح طوال تبدّلاته التاريخية وشدد على الدور الذي تلعبه تعددية الرؤى في العالم، وكيف أن النضال من أجل التسامح الديني كان وما زال أساسًا لاستقرار الدول وتقدّمها، وممهدًا الطريق لها نحو الدستورية والديموقراطية، ووضع بذلك مقاربة لمحاولة التخفيف من الصراعات بين الأديان والحضارات. ورأى أنه من الضروري إنشاء المزيد من جلسات التحاور حول التسامح والاحترام المتبادل في ظل تنامي ظاهرة التديّن، مستندًا في ذلك لمبادئ ثلاث وهي القبول، والرفض، والاستبعاد، ليبيّن أن التسامح الديني قد يُفيد في الحد من الصراعات المتواصلة بين الطوائف الدينية من جهة، وبين المتدينين أو حتى العلمانيين من جهة أخرى.
يمكن للتسامح أن يتّخذ طابعًا سياسيًا، شريطة ألّا يفرض الإيمان على أحد، وألا يكون الحق محصورًا أو حكرًا على من يمتلك القوة فقط، ليتم احترام جميع المعتقدات وطرق العيش كيفما كانت، حتى لو كانت خاطئة، أو غير صالحة بنظرنا، ليضمن ذلك نموَّ مجتمعات متعددة متنوعة الثقافات يسود فيها الاحترام المتبادل، وتعيش حريتها الدينية دون معوقات أو معارضة. لكن برغم ذلك، استحسن هابرماس التمييز بين ما يمكن التسامح به، وما لا يمكن التسامح به، بخاصة تجاه ممارسة الجماعات المؤمنة وغير المؤمنة لاعتقاد ما، فموضوع الحياديّة في الإيمان يجمع بين الحقوق الدينية، والحقوق الثقافية، الأمر الذي يفرض على الدولة التي تضم تلك الجماعات معالجته، فكيف يمكن أن تحترم الأطراف بعضها بعضًا دون أن تتقبّل معتقداتهم، وممارساتهم الخاصة؟
لا يمكن للتسامح أن يكون سمة للناس ما لم يتقبّلوا تعدد الاعتقادات والآراء لدى الآخرين، مما دعى هابرماس ليميّز بين التسامح وما يسمى بِ (اللااختلاف)، لأنهما لا يؤديان لبعضهما البعض. ويعترض هابرماس على المقاربة التي تقول بأن التسامح ذو الطابع السياسي الذي يطالب بإدماج العلاقات المدنية مع غيرها من العلاقات، لا تؤدي بالضرورة إلى التعايش المشترك.
وضع هابرماس مجموعة من الشروط التي من شأنها -حسب نظره- أن تجعل الجماعات الدينية تنخرط في الديمقراطية الدستورية، وتقبل قواعد اللعبة السياسية طوعًا، وتمثّلت هذه الشروط فيما يلي:
- أن تمتنع الجماعات الدينية عن فرض ما تعتبره حقائقًا في إيمانها بطريقة العنف.
- ألّا تمارس الضغط بما يؤثر على الضمير الأخلاقي.
- أن تمتنع الجماعات الدينية عن التلاعب بمن يتّبعهم، واستخدامهم في أعمال هجومية.
لم يكتف هابرماس بهذه الشروط، بل أضاف عليها شروطًا جديدة، من شأنها دفع الجماعات الدينية إلى تبني مواقف متحررة، والقبول بقواعد العيش المشترك في المجتمع التعددي، وتتمثّل بما يلي:
- ضرورة بذل الوعي الديني مزيدًا من الجهد لتجاوز التفاوت المعرفي إذا ما تم الالتقاء ببقية الطوائف أو الديانات الأخرى.
- يجب أن يتماشى الموقف الذي تبنّاه الوعي مع العلوم السائدة والتي هي أساس المعرفة الاجتماعية.
- يجب أن يكون هذا الموقف منفتحًا على ما تعتبره الدولة من أولوياتها، دون الابتعاد عن الأخلاق الدنيوية.
يعتقد هابرماس بشروطه هذه سيؤدي إلى استقرار سياسي ولا يتبع لأي سياسات أخرى، ويحقق بذلك انتعاشًا في أحوال المهمّشين والمضطهدين في المجتمعات الغربية كانت أو الشرقية، دون أن يكترث للمشاكل التي خلفتها الرأسمالية التي اجتاحت العالم وجرّدت الناس من أبسط الحقوق.
علاء شاهين
———–
المصادر
- العلوي رشيد: يورغن هابرماس: نحو منظور جديد لدور الدين، جريدة الشرق الأوسط
- هابرماس: “حول الدولة العلمانية والتعدد العقدي”، ترجمة رشيد بوطيب، بيروت
- هابرماس: “العقل والدين في المجتمع الحديث وما بعد الحديث”، حميد لشهب، الرباط، نداكوم 2005 ،ص95
- https://philpapers.org/rec/HABRTP
- Jürgen Habermas, Intolerance and discrimination, International Journal of Constitutional Law, Volume 1, Issue 1, January 2003, Pages 2–12, https://doi.org/10.1093/icon/1.1.2
- Habermas, Jürgen. “11 RELIGIOUS TOLERANCE – THE PACEMAKER FOR CULTURAL RIGHTS”. The Derrida – Habermas Reader, Edinburgh: Edinburgh University Press, 2022, pp. 195-207. https://doi.org/10.1515/9781474473132-016