في عام 1945 كان قسمٌ كبير من ألمانيا مدمر بعد ست سنوات من الحرب المدمرة احتل فيها الحاكم النازي نسبة كبيرة من أوروبا إلا أن الهزيمة في معركة ستالينغراد كانت بداية النهاية لاحتلال ألمانيا لأوروبا. دُمرت ربع المباني في ألمانيا بفعل غارات طائرات التحالف وشُرِّد مئات الآلاف ونزح قسم كبير بحثًا عن مأوى. لكن وكما يقول المثل المتداول المستحيل ليس ألماني، فقد نهضت ألمانيا اقتصاديًا بعد أن توقع الجميع لها ألّا تقوم لها قائمة بعد كل ذلك التدمير. لنتعرف في هذا المقال كيف صنعت ألمانيا معجزتها الاقتصادية وكيف نهضت لتصبح ثاني أعلى دولة في الناتج المحلي الإجمالي بعد عشرين عام من الحرب فقط.
ألمانيا وخطة مارشال
في خطاب داخل جامعة هارفرد عام 1947 أعلن وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال خطة مساعدة لدول أوروبا المتضررة من الحرب بما فيها ألمانيا. حذر مارشال في خطابه أن ألمانيا وبقية الدول الأوروبية تواجه مخاطر اقتصادية وسياسية واجتماعية قاسية ما لم تتلقى المساعدة.
أرسِلت مساعدات تٌقدر بقرابة 14 مليار دولار إلى دول غرب أوروبا، إذ لم تتلقَ دول شرق أوروبا مساعدات بسبب بداية الحرب الباردة. تلقت ألمانيا 10% وفرنسا 20% وبريطانيا 25%، وانضمت دول صغيرة مثل بلجيكا واليونان إلى حزمة المساعدات.
بدلًا من توزيع المال بشكل اعتباطي، سعت خطة مارشال إلى مساعدة الدول لإعادة البناء بنفسها، إذ تضمنت الشحنات بشكل أساسي الغذاء والمحروقات والأدوية. تدفع الدول التي تتلقى المساعدات إلى صناديق دول أخرى لمساعدتها في إعادة بناء البنية التحتية والشركات. بلغت قيمة الشحنة إلى ألمانيا قرابة 1.4 مليار دولار، أو ما يعادل 9 مليار دولار بالقيمة الحالية. كانت ألمانيا الدولة الوحيدة التي يجب عليها دفع قسم من التمويل بمبلغ يقارب مليار دولار.
استمرت مرحلة إعادة البناء إلى عام 1954، وصعدت ألمانيا لتصبح إحدى أوائل دول العالم الصناعية، وبمستوى أسرع مما كان أحد يتوقع لها. نما اقتصاد ألمانيا بنسبة 8%، وكانت ألمانيا تملك توظيف شامل للجميع وسعر صرف عالي للدولار بفضل الصادرات الألمانية.
بعد عامين أقرّ المشرّعون أن الدفعات المبدئية ودفعات الفائدة التي يجب دفعها لصندوق مساعدة أوروبا التابع لخطة مارشال ستُستخدم لتقوية اقتصاد ألمانيا على أسس دائمة. خلال سنوات قليلة انتقلت ألمانيا من دولة جائعة تتلقى المساعدات إلى قوة اقتصادية تمكنت فيما بعد من تقديم المساعدات لدول أخرى.
نظام ألمانيا الاقتصادي قبل الحرب
في عام 1948 كان قد مرّ 9 أعوام على تطبيق تقنين المواد الغذائية وإثني عشر عامًا على تطبيق التحكم في الأسعار في ألمانيا. طبّق أدولف هتلر عام 1936 التحكم في الأسعار في ألمانيا حتى تتمكن حكومته من شراء معدّات الحرب بأسعار بخسة. لاحقًا طبّق أحد كبار معاوني هتلر هيرمان غورينغ التقنين في المواد الغذائية (طبّق كل من تشرشل وروزفلت التحكم في الأسعار والتقنين كما عمدت الحكومات خلال وقت الحرب الشاملة). خلال الحرب، كانت عقوبة التلاعب بالأسعار قاسية جدًا تصل حتى الإعدام. في نوفمبر عام 1945، وافقت سلطات الحلفاء التي شكلتها حكومات الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي على الإبقاء على التحكم بالأسعار والتقنين في ألمانيا، إضافةً لذلك أكملت تلك السلطات التجنيد الإجباري للموارد الذي طبقه هتلر بما في ذلك العمل.
تحكمت كل قوة من قوى التحالف بمنطقة من مناطق ألمانيا، كان مؤشر كلفة العيش في المنطقة التي تتحكم فيها الولايات المتحدة عام 1948 أكبر بـ 31% مما كان عليه عام 1938. ولكن في عام 1947 كانت كمية الأموال في اقتصاد ألمانيا -العملة والودائع المطلوبة- تعادل خمسة أضعاف ما كانت عليه عام 1936. كانت الأموال أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب ولكن الأسعار لم ترتفع إلا قليلًا فبالتالي سيكون هناك نقص وقد كان.
كان التحكم بالأسعار قاسيًا جدًا في ألمانيا ما دفع الناس إلى زراعة وإنتاج طعامهم بنفسهم، وآخرون كانوا يذهبون في عطلات نهاية الأسبوع إلى الريف من أجل المقايضة مقابل الغذاء.
كانت المقايضة شائعة جدًا فيما يخص الدفع بين الشركات، ما دفع الكثير من الشركات إلى توظيف «مُقايض»، وهو شخص يقايض إنتاج شركته مقابل المواد الأولية التي تحتاجها من أجل الإنتاج. في مارس عام 1948، كانت الإنتاج في المنطقتين اللتين تسيطر عليها الولايات المتحدة وبريطانيا يعادل 51% فقط مما كان عام 1936.
النقاش وبداية نهضة ألمانيا الاقتصادية
في جامعة فرايبورغ، ألمانيا كان هناك مدرسة فكرية اقتصادية تناصر السوق الحرة الاجتماعية. كان أعضاء تلك المدرسة يكرهون التوتاليتارية وطرحوا أفكارهم مع بعض المخاطرة خلال فترة حكم هتلر في ألمانيا. اعتقد أعضاء المدرسة تلك أن السوق الحرة بالإضافة إلى درجة صغيرة من التقدمية في نظام ضريبة الدخل والتدخل الحكومي لمنع الاحتكار. كانت مدرسة السوق الحرة الاجتماعية مشابهة في الفكر لمدرسة شيكاغو التي كان أعضاؤها المؤسسين ميلتون فريدمان وجورج ستيغلر يعتقدون بجرعة قوية من السوق الحرة وتدخل حكومي بسيط من خلال إعادة توزيع نظام الضرائب وقوانين المنافسة التي تمنع الاحتكار.
بين أعضاء تلك المدرسة الفكرية كان فيلهليم روبكه ولودفيغ إيرهارد. من أجل تنظيف مخلفات الحرب في ألمانيا كان روبكه مناصرًا لإصلاح العملة، حتى تكون كمية العملة متوافقة مع كمية البضائع وبالتالي القضاء على التحكم في الأسعار. كلا الإجراءين كانا ضروريين، كما ظنّ، للقضاء على التضخم. سينهي إصلاح العملة التضخم، وسينهي تحرير الأسعار الكبت الموجود في السوق.
وافق لودفيغ إيرهارد مع روبكه، كتب إيرهارد بنفسه مذكرة خلال فترة الحرب توضح أفكاره بخصوص اقتصاد السوق، وضحت تلك المذكرة أنه يريد هزيمة النازيين.
أراد الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا، على الطرف الآخر، الإبقاء على سيطرة الحكومة. حاجج المنظر الاقتصادي الأساسي للحزب الدكتور كريسيغ في يونيو 1948 أن التخلي عن التحكم في الأسعار في ألمانيا وإصلاح العملة ستكون خطوات غير ماجعة وبدلًا من ذلك دعم التوجه الحكومي المركزي. كانت نقابات العمال والسلطات البريطانية وأغلب الشركات الصناعية في ألمانيا الغربية وأفراد من السلطات الأمريكية توافق مع رؤية الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
لودفيغ إيرهارد مهندس معجزة ألمانيا الاقتصادية
وُلد إيرهارد في فورث، ألمانيا عام 1897، درس إدارة الأعمال في كلية نورمبرغ وتخرج عام 1922، ثم أكمل الدكتوراه عام 1925 من جامعة فرانكفورت. خلال الحرب العالمية الثانية عمل إيرهارد على مفاهيم لسلام ما بعد الحرب؛ وكانت تلك الدراسات في ألمانيا ممنوعة من قبل النازيين الذين أعلنوا الحرب الشاملة. خسر بسبب النازيين عمله لكنه أكمل كتابة أفكاره عن اقتصاد الحرب عام 1944؛ وافترض في هذا العمل خسارة ألمانيا للحرب. بعد خسارة ألمانيا للحرب أصبح إيرهارد مستشارًا اقتصاديًا، وفي عام 1948 انتُخب مديرًا للشؤون الاقتصادية من قبل المجلس الاقتصادي للمنطقة الثنائية. كانت رؤية إيرهارد الأساسية تتمثل في السوق الحرة الاجتماعية ورفع القيود عن الأسعار وإلغاء تقنين المواد الغذائية. في أول انتخابات بعد حقبة النازيين في ألمانيا، ترشح إيرهارد عن دائرة بادن فوتيمبرغ وانتُخب. عُيّن وزير الشؤون الاقتصادية وهو المنصب الذي حمله لمدة أربعة عشر عامًا منذ 1957 حتى 1963 وكان أيضًا نائب المستشار الألماني. قدّم الحلفاء عملةً جديدة في ألمانيا وهي المارك، وفي اللحظة ذاتها أعلن إيرهارد عن رفع القيود عن الأسعار. اعتبر الكثيرون هذا القرار من قبل إيرهارد كارثيًا، إلا أنه ومع تقدم أثبت أنه نواة انبعاث الاقتصاد الألماني، إذ اختفت السوق السوداء في ألمانيا وانتهت الانقطاعات في تأمين المواد وتراجع التضخم.
المصادر:
https://www.e-ir.info/2011/08/07/economic-revival-of-west-germany-in-the-1950s-and-1960s/
https://www.kfw.de/stories/kfw/stories/society/social-cohesion/marshallplan/
https://fee.org/articles/origins-of-the-german-economic-miracle/