يمتلك المتطرفون شعورًا بامتلاك الحقيقة، ويتصورون بأنهم يملكون مشروعًا تبيشيريًا دائمًا ما يحاولون فرضه على الآخرين ولو بالقوة. وفي الوقت الذي يتزايد فيه تقبل الكثير من المجتمعات لمفاهيم الاختلاف وتقبل الآخر والحريات الفردية، نشهد بشكل يومي، وفي مختلف أنحاء العالم، حوادث اعتداء على أشخاص معينين، لا لشيء سوا لاختلافهم مع المعتدي بالآراء والأفكار الشخصية. فما الذي يدفع الناس لـ التطرف برفض الآخر والتمسك بأرائهم ومحاولة فرضها على كل من يخالفهم؟

التطرف

يعبر مفهوم التطرف عن الابتعاد عن الوسطية والاعتدال والحسم في مسائل خلافية لا يمكن الحسم فيها، ويمكن أيضًا أن يعرف بأنه طريقة تفكير غير منضبطة تقود أصحابها إلى الاعتقاد بأنهم وحدهم على حق، والإيمان بضرورة أن يطاوعهم ويذعن لهم جميع من حولهم. يمكن للمتطرف أن يعبر عن أفكاره بمختلف الطرق، تصل أحيانًا لاستعمال العنف.

لم يكن التطرف يومًا حكرًا على أتباع ثقافة أو دين معين بعينه، لكن، لا شك بأن سماته تظهر بشكل أوضح في فئة معينة أو في مجتمع معين في كل حقبة زمنية. شهد التاريخ على مر العصور أشكالًا متنوعة من التطرف السياسي والديني والأيديولوجي كثيرًا ما تصل حد إلغاء الآخر وإشعال الحروب في محاولة القضاء عليه. 

إن انجذاب الأفراد، وخصوصًا الشباب، للتطرف هو نتيجة لعاملين أساسيين، عامل ذاتي فيزيولوجي وعامل بيئي مجتمعي. 

العوامل الفيزيولوجية

خلصت دراسة أجراها فريق من الباحثين من جامعتي لندن كوليدج وبرشلونة المستقلة نشرت في دورية (فرونتيرز إن سايكولوجي) إلى وجود علاقة بين نشاط جزء من المخ يسمى التلفيف الجبهي السفلي والميول المتطرفة عند بعض الأشخاص، وشددت نتائج الدراسة على أن التأثير العصبي للإقصاء ساعد على تحوُّل قضايا لم يكن الفرد يعتبرها قابلةً للانتهاك في وقت سابق، إلى قضايا مقدسة تستحق القتال من أجلها، ما قد يدفع الشخص للانخراط في تنظيمات إرهابية.

كما تحدث مقال على موقع ساينس أليرت عن تمكن علماء الأعصاب من تحديد الناقلات العصبية التي من الممكن لها أن تكون مسؤولة عن التطرف الديني. وأوضح كاتب المقال، مايك ماكري، أن تحديد علاقة الإيمان بالمسائل الشائكة تبدو الشغل الشاغل لعلماء الأعصاب، بعد أن ربطت دراسات سابقة بين التطرف الديني والإدمان، وبين بعض التجارب الروحانية والناقلات العصبية مثل السيروتونين، وتحديد أي جزء من الدماغ المسئول عن الإيمان بالخرافات. 

وأشار مايك إلى أن دراسة جديدة كشفت أن الناقلات العصبية التالفة المرتبطة بالتخطيط في الدماغ تصبح أقل انفتاحًا على الأفكار الجديدة، مما يوضح سبب جنوح بعض الأشخاص نحو التطرف في معتقداتهم الدينية.

في دراسة أخرى قادها طبيب الأعصاب جوردان جرافمان من جامعة نورث وسترن في إلينوي، واستُخدمت فيها قاعدة بيانات دراسة أخرى تحمل اسم «دراسة إصابات الرأس في حرب فيتنام»، فُحصت سجلات 119 جنديًّا حاربوا في فيتنام، وعانوا من إصابات في الدماغ، وقارنوها مع سجلات 30 جنديًّا لا يعانون من إصابات في الدماغ.

شمل الاختبار أيضًا قياسًا لمستوى ذكاء الجنود، ومرونتهم المعرفية عن طريق جعلهم يقومون بتوزيع بطاقات على تصنيفات مختلفة، وذلك وفقًا لمجموعة مختلفة من القواعد. بعد ذلك، استخدم الفريق القائم على الدراسة الأشعة المقطعية لمراقبة موقع وحجم الناقلات العصبية الباقية لدى المحاربين المصابين.

ركز البحث على الجنود المصابين بتلف في Dorsolateral prefrontal cortex، أو قشرة الفص الجبهي الظهرانية، ومن المعروف عنها قيامها بدور معرفي في التجارب الروحانية، فضلاً عن قيامها بدور في حل المشكلات والتخطيط وإدارة المهام.

وجد الباحثون علاقةً مباشرة بين وجود تلف في تلك المناطق وانخفاض المرونة المعرفية عندهم، ما يشير إلى أنّ بعض مناطق الدماغ، كقشرة الفص الجبهي الظهرانية، لها دور محوري في المساعدة على الحفاظ على انفتاحنا على الآخر عبر استلهامنا للتجارب الدينية.

وأثبتت دراسات مماثلة أنّ أي تلف في منطقة قشرة الفص الجبهي البطنية، أو Ventromedial prefrontal cortex  يجعل الناس سريعي التأثر بالدعاية المضللة، مما حدا بباحثين آخرين إلى اقتراح فكرة أطلقوا عليها اسم «نظرية العلامات الكاذبة» لتوضيح دور تلك الأجزاء من الدماغ في إثارة الشكوك لدى الإنسان.

العوامل المجتمعية

1 – الطفولة التعيسة 

يمكن للآيديولوجيات المتطرفة والعنيفة أن تطرح نفسها على الأفراد كشكل من أشكال الهروب من واقع الظلم والحرمان واليأس. أكدت دراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، حملت عنوان «رحلة إلى التطرف في أفريقيا.. العوامل والحوافز ونقطة التحول للتجنيد» على وجود ارتباط قوي بين تطرف الأفراد ومعاناتهم بسبب فقدان أحد الأبوين أو كلاهما أو غياب التأثير الفاعل لهما في مرحلة الطفولة، أو معاناتهم بسبب تعرضهم لعقوبات جسدية قاسية في العائلة.

2 – فقدان الثقة بالدولة والإحساس بالتهميش الاجتماعي

تربط نفس الدراسة السابقة انجذاب الأشخاص الذين فقدوا ثقتهم بدولتهم في تأمينها الخدمات الضرورية له أو احترام حقوقهم وانجذابهم للتطرف خصوصًا مع إحساسهم بإساءة استخدام السلطة من قبل الدولة، فيفقدون الإحساس بشرعية الدولة. وفقًا لنتائج الدراسة، يؤمن 83% ممن تم تجنيدهم في التنظيمات المتطرفة بأن الحكومة لا تهتم إلا بمصالح فئة قليلة، وأكثر من 75% لا يثقون بالسياسيين ولا بالجهاز الأمني للدولة.

من الممكن للإحساس بالتهميش الاجتماعي أن يدفع الأشخاص، وخصوصًا الشباب منهم، إلى التطرف، فعدم وجود خطة مجتمعية شاملة قائمة على تنمية بشرية حقيقية، تجعل الشباب ينساقون إلى الجماعات المتطرفة التي يجدون عندها البديل عن نبذ المجتمع. 

عادة ما تغري التنظيمات المتطرفة عقول الشباب وتغذيها بأمل بناء المدينة الفاضلة، وتعمل على إقناعهم بامتلاكها الوسائل والأدوات التي تحقق أحلام الشباب بالعيش في تلك المدينة، وبمجرد أن يصطدم الشباب بالواقع المرير، يسهل تجنيدهم للانضمام لهذاالجماعات عقابًا للمجتمع، ولكي يثبتوا لذواتهم أنهم موجودون وليسوا مجرد نكرات.

3 – البطالة

تُعد البطالة من أهم الأسباب المؤدية للتطرف وأكثرها خطورة على أفراد المجتمع بشكل عام والشباب بشكل خاص. يلجأ الشباب للتطرف نتيجة للبطالة والشعور بالظلم والتهميش بغية التمرد على حالة الرفض التي عاشوها في مجتمعاتهم،  بعد إحساسهم بالتناقض بين طموحاتهم وتطلعاتهم وعدم وضوح مستقبلهم مع انعدام توافر فرص العمل المناسبة لهم. 

إن الربط بين التطرّف والبطالة هو تفسير قد يبدو منطقيًا جدًا إذا ما تم الاستناد على مجموعة من التقارير، كتقرير البنك الدولي الذي اعتمد على بيانات تخص أكثر من 3 آلاف مجند في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، مصدرها ذاكرة حاسوب مسربة لسجلات الأفراد بالتنظيم. 

وأظهرت هذه البيانات التي تغطي الفترة من أوائل 2013 إلى أواخر 2014، أن 69% من المجندين المسربة معلوماتهم أنهوا المرحلة الثانوية على الأقل، وأن أكثر من 25% من عناصر داعش من خريجي الجامعات. في المقابل، لا تتعدى نسبة من لم يصلوا إلى المرحلة الثانوية في صفوف التنظيم 15%، أما نسبة الأميين فلا تتجاوز 2%. ووجد التقرير أن غياب مؤشرات «الاحتواء الاقتصادي» أو «الشمول الاقتصادي»، وفي مقدمتها البطالة، أكثر أهمية من الفقر وضعف التعليم في دفع الأشخاص نحو الانضمام إلى هذا التنظيم.

خاتمة. 

إن أسباب التطرف عديدة والعديد منها منتشر بكثرة في العديد من المجتمعات العربية، وحلول مواجهة التطرف لا يمكن تطبيقها في ليلة وضحاها، فهي تعتمد على وجود دولة قوية قادرة على فرض مناهج تعليمية تدرس الفلسفة وعلوم الاجتماع وتعلم تقبل الآخر وتنبذ العنف وتبتعد عن الحرفية والنظرة المطلقة للأشياء وإصدار الأحكام على الآخرين وتهتم بالفنون والموسيقى وتقديس الجمال والإبداع، إضافة إلى وضع خطط بعيدة المدى لتأمين فرص عمل مناسبة للجميع والعمل على تخفيض مستويات البطالة لأدنى مستويات ممكنة. 

المصادر: 

  • Journey to Extremism in Africa: Drivers, Incentives and the Tipping Point for Recruitment
  • Assessing the Effectiveness of High-Profile Targeted Killings in the “War on Terror”
  • Neural and Behavioral Correlates of Sacred Values and Vulnerability to Violent Extremism
  • Neurologists Have Identified Brain Lesions That Could Be Linked to Religious Fundamentalism, Science Alert.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا