نرى بشكل شبه يومي في نشرات الأخبار أو في مواقع التواصل الاجتماعي أخبارًا عن إقدام أحد «المتعصبين» أو «المتشددين» أو «الأصوليين»، في مختلف أنحاء العالم، على الاعتداء على فرد أو مجموعة أفراد ينتمون لثقافة أو دين أو عرق ما، لمجرد انتمائهم لجماعات مختلفة عنه، ونتفاجأ في كل تحقيق أو محاكمة لهؤلاء الأشخاص بمقدار فخرهم بجريمتهم، واستعدادهم للقيام بها مرة أخرى مهما بلغت التبعات. فما الذي يشحن الإنسان بكل هذه المشاعر السلبية التي تدفعه للاعتداء على جماعات مختلفة عنه، وربما ارتكاب جرائم قتل بحق أفرادها بثقة مطلقة ودون أي إحساس بالذنب، وما علاقة نزعة العنف عند هؤلاء الأشخاص بـ الأصولية ؟ 

ما هي الأصولية ؟ 

الأصولية هي اصطلاح سياسي يشير إلى نظرة متكاملة للحياة من كافة جوانبها نابعة عن قناعة متأصلة عن إيمان بفكرة أو منظومة قناعات تكون في غالب الأمر تصورًا دينيًا أو عقيدة دينية. ظهر مصطلح الأصولية لأول مرة في سلسلة كتيبات نشرت في الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن العشرين. بعد أن تمكن مجموعة من البروتستانت من طبع اثني عشر مجلداً تحمل عنوان (أصول شهادة على الحقيقة) انتشرت في وقت وجيز بين المسيحيين الأمريكيين. ويؤيد هذا التأويل للحدث توصيف هربر بركمجيان – أستاذ العلوم السياسية في جامعة نيويورك : «فيرجع أصل الأصولية إلى فرقة من البروتستانت التي تؤمن بالعصمة الحرفية لكل كلمة في الكتاب المقدسة ويدعي أفرادها التلقي المباشر عن الله، فضلاً عن معاداتهم للتفكير العلمي وميولهم إلى استعمال العنف والقوة؛ لغرض فرض معتقداتهم» وبهذا ارتبط المفهوم بضبط تلك المظاهر للسلوكية ثقافياً ودينياً من ضمن حدود المجتمع الأمريكي.

وهناك من يؤكد أن مصطلح الأصولية كمفهوم لم يبرز في المعاجم والموسوعات الغربية إلا حديثاً، إذ لم يظهر هذا المصطلح لا في معجم روبير الكبير عام 1966، ولا في الموسوعة العالمية في عام 1968 لكنه ظهر في قاموس لاروس الصغير عام 1966 الذي وصفها بأنها «موقف أولئك الذين يرفضون تكيف العقيدة مع الظروف الجديدة». 

أكد الفيلسوف الفرنسي، رجاء جارودي، أن مصطلح الأصولية قد ظهر لأول مرة في معجم لاروس الصغير عام 1966 إلا أنه لم يعرفه بأسلوب دقيق، وكان المصطلح يشير إلى «مواقف عامةٍ لمجموعة الكاثوليك الذين دأبوا على التمَسك بالماضي، ورفضِ كل جديد، وعدم القدرة على تكييف عقيدتهم مع ظروف الحياة وتطوراتها الجديدة في فرنسا». بعد ذلك بثلاث سنوات ظهرت الكلمةُ في معجم «لاروس الجيب» سنة 1969، يقصد بها الكاثوليك وحدهم، وبخاصة الذين كانوا يتميزون بالاستعداد الفكري؛ لرفض التكيف مع ظروف الحياة الحديثة. مع الوقت توسع مصطلح الأصولية ليشمل كافة مختلف الحركات التي ترى وتفسر كافة الظواهر حولها من منظور عقائدي.

بعض من سمات الأصولية

  • هيمنة النزعة المحافظة، والحفاظ على التقاليد (الأصول) دون محاولة تجديدها أو تعديلها بما يتناسب مع المعاصر.
  • طغيان الخطاب الديني: إذ غالبًا ما يكون التدين بمثابة العنصر المثبت للنزعة التقليدية المحافظة التي تُخضع الدولة والمجتمع والاقتصاد للدين، وتخضع الحياة الشخصية للأفراد للقيم الأخلاقية الدينية المقدسة. 
  • الخطاب العنيف بحق كل من هو مختلف خدمةً للمقدس. 

لماذا تنزع الأصوليات إلى فكرة التعصب والعصبيات؟

درس المفكر العربي مصطفى حجازي في كتابه (حصار الثقافة) العلاقة بين الأصولية والتعصب، ويمكن تلخيص الأسباب تدفع الأصوليين للتعصب، وفقًا لحجازي، بما يلي:

تعزيز صورة الإنسان الآثم أو المذنب: فكلما تكرس الإحساس الإنساني بالضعف، كلما زاد التحامه بالجماعة، وزاد طمعه بالإحساس بالمزيد من التعويض النفسي، وهي الحالة نفسها التي يخلقها الاستبداد عبر منظومة تتجذر في المجتمع من خلال ثلاثية (التجريم/ التحريم/ التأثيم).

ذوبان الفرد في الجماعة: هذه خاصية من الخصائص المميزة للأصوليات والجماعات التي تعتمد على الحشد والتجميع والتوحيد، لكي تشعر الجماعة بوحدتها وقوتها. وليتحقق هذا الفعل، لا بد من فكرة جامعة، أو إيديولوجيا تهدف بالدرجة الأولى إلى التجميع والتبرير. 

تقديس الزعامات: لأن صورة الزعيم المنقذ ضرورة حيوية للجماعة، أية جماعة، فهي تتغذى على مخزون ثقافي يجعل الكاريزما هبة دينية بالأساس. فمن خلال التماهي مع الزعيم، يتم التماهي مع أعضاء الجماعة، وينشأ الشعور بالانتماء. وظاهرة التماهي ليست بالأساس وليدة جمهور يحتاج لقائد يلتحم بكيانه، أو زعيم يقود مسيرته بقدر ما هي نتيجة حتمية لخواء وانكفاء العناصر التي يتشكل منها ذلك الجمهور على خلفية إحساسهم التام بشلل الإرادة الذاتية، وعطل الرابطة الاجتماعية، وفشل المقدرة الإنسانية.

الولاء والانتماء: إن الحالة التي تعززها الجماعات أو الأصوليات بشكل عام، هي الشعور الغريب بالانتماء، والإحساس بنشوة القوة والتماهي مع الآخر، حيث يصير الفرد المحرك ووقود الجماعة توظفه متى شاءت وكيفما رغبت. وبالرغم من أن الانتماء حالة طبيعية لدى الكائن الإنساني، وتعتبر من الدوافع أو المحركات الأساسية للسلوك البشري كما تؤكد سوزان كويليام. غير أن الفرد داخل فكرة الانتماء يتعلق بأشياء الجماعة وثقافتها، ويحولها إلى معبودات ذهنية يصعب الانفكاك عنها وهو ما يشعره بالاغتراب دونها أو بعيدا عنها

الأصولية والعنف

على اختلاف أهدافها ومناهجها وسياقات بروز الجماعات الأصولية العنيفة، فإنها تمر بأربعة أطوار متمايزة، أولها مرحلة التبشير وتجنيد الأتباع، وثانيها اعتزال المجتمع والانفصال عنه، وثالثها التحول إلى العنف، ورابعها الانزواء والخفوت. 

وعادةً ما تنتقل الجماعات الأصولية بشكل سريع بين المراحل الأربعة نظرًا لمركزية فكرة ضرورة الإسراع في إنقاذ العالم من كارثة محققة إذا ما استمر البشر في سلوكياتهم (المناهضة للإرادة الإلهية أو للفطرة الإنسانية). فبمجرد أن تشعر الجماعة الأصولية بأن قدرتها على زيادة الأتباع آخذة في التضاؤل تُبادر بالانتقال إلى مرحلة اعتزال المجتمع والانفصال عنه، ليس فقط ثقافيًّا، بل وجغرافيًّا في بعض الأحيان. 

قد تؤدي مجتمعات العزلة تلك إلى نشوب نزاعات داخل الجماعة الأصولية، كأن تنشقّ على نفسها، أو يؤسس بعض المنتمين لها جماعة أخرى أكثر تطرفًا، أو يعودون إلى المجتمعات الأصلية، الأمر الذي يهدد بقاءها ذاته. وقد ينتج عن ذلك الانتقال إلى مرحلة ممارسة العنف ضد جميع المغايرين، بمن في ذلك من كانوا داخل الجماعة وانشقوا عنها أو تخلوا عن أفكارها كلية.

شكلت فكرة العودة إلى الأصول مسوغًا ومبررًا للعنف ضد أي مختلف، يُعد العنف المُسلح لدى العديد من الحركات المُتسمة بالتشدد من أهم الوسائل لتحقيق الأهداف والغايات التي تنشدها، إذ قامت هذه الحركات بالتأصيل الشرعي والأخلاقي لهذه المُمارسات العنيفة وبناء أيديولوجيات تبريرية من أجل تسويغ استخدامها للعنف. 

مثلت فكرة العودة إلى الأصول (أو النقطة التي يرى فيها الأصوليون أن البشر فيها كانوا أكثر طهارة أو تدينًا) إغراء مستمرا للكثيرين على اختلاف الثقافات والديانات التي يعتنقونها. وإذا كان من الممكن فهم ذلك في إطار العلاقة النفسية والفلسفية للفرد أو الجماعة بأسئلة لها طابع ميتافيزيقي، إلا أنه لا يرتب بالضرورة أي ارتباط مع تبني بعض الجماعات المتطرفة العنف كمنهج لاستعادة نقاء أو طهارة المجتمعات التي يعيشون فيها. لكن هذه الفكرة ظلت دومًا واحدة من المسوغات للتحول نحو العنف وتبريره، سواء من الجماعات التي تعتبر ممارسة العنف ضد الآخر المختلف جزءًا لا يتجزأ من أيديولوجيتها، أو تلك التي تبدأ ممارسة العنف في مرحلة متأخرة من تطورها التنظيمي.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا