تسعى الجماعات في كل زمان ومكان للحفاظ على تماسكها، وذلك عن طريق اجتماعها على عدد من الأفكار والمعتقدات الكافية لإبقاء جميع أفرادها تحت جناحها، وترى في أيّ خروج عن هذه الأفكار والمعتقدات، خطرًا يُحدق بتماسكها.

قد نعتقد بأن أفكارنا مِلكنا، وما من شيء يمكنه التأثير عليها، لكن إن تمعّنا قليلًا بتاريخ الاستبداد، سنجد بأن العالم لم يعرف معنى حرية الفكر أو حرية التعبير، بل ولم يكن يعتبرها قابلة للممارسة، فيمكن لمن يطلع على التاريخ، أن يعثر على العديد من نماذج الأشخاص الذين امتلكوا رؤىً وأفكار مخالفة للجموع، لكنهم لم يتحلّوا بالشجاعة الكافية للإفصاح عنها للمجتمع، إلى أن خاضت الحضارة الإنسانية أدمى الصراعات، والتي شكّل ضحاياها وقودًا للتحرر، علماء و فلاسفة و مفكرون، وقفوا في وجه المجتمع المنغلق على نفسه بمعتقداته، وامتلكوا الشجاعة لعرض أفكارهم الخارجة عن المألوف وماتوا فداءً لها، وأشعلوا منارة الفكر ليكسروا قيد العبودية والتقليد.

سنخوض في مقالنا هذا في ذكر أمثلة عن علماء وفلاسفة و مفكرين عبر تاريخ البشرية منذ عصور ما قبل الميلاد وصولًا ليومنا هذا.

محاكمة سقراط

كان سقراط من أبرز مفكّري و فلاسفة عصره وأكثرهم حكمة في الفترة التي كانت تنعم فيها أثينا بالحياة الرغيدة والسيادة والديموقراطية، لكن ما إن انهزمت في حربها مع أسبارطة، حتى تزعزع فيها مفهوم الديموقراطية، وبعد عدة سنوات بدأ اقتصادها بالانهيار وثرواتها بالتراجع. وكما هو الحال في أي حرب؛ لا بد من أن يُوجِه المُسببون فيها التُهم إلى غيرهم ليكونوا كِبش فداء، فتوجّهت الأنظار إلى فئة المُفكّرين والمعلّمين ممن يحملون أفكارًا خارجة عن أعراف ذلك المجتمع، ومنهم المُعلّم النحّات سُقراط.

كان سقراط يجوب شوارع أثينا لينشر بين الناس رسالته السامية، التي من شأنها زرع فكرة النقاش بين الناس، وحثّهم على الفضيلة والمعرفة والبحث، وكان لا بد من التشكيك في كثير من أفكار وأعراف المجتمع آنذاك لينهض بتلك الرسالة، وهذا ما أثار سخط الكثير ظنًا منهم بأن ذلك سيُفكك المجتمع، فأُنزلت عليه اتهامات بأنه مارقٌ، ومُفسد للشباب.

قُدّم سقراط للمحاكمة، حيث جُمع فيها أكثر من 500 قاضٍ، ورافع عن نفسه قائلًا: «عشت عمري شجاعًا ولم أخف الموت، ولا أرى نفسي أهبط عن هذا المقام وأتخلى عن رسالتي التي تجعل الناس يُبصرون بأنفسهم وأنا طاعن في السن، فإن كان هذا ما ترونه إفسادًا للشباب فاعلموا لو أخليتم سبيلي سأعود إلى ما كنت عليه من نشر الحكمة وتعليم الناس».

وحين سُئل عن العقوبة التي يستحق؛ ابتسم سقراط قائلًا: «أن تُنفِق الدولة على طعامي وكسائي اعترافًا منكم على ما أسديته من خير للناس».

صدر حكم الإعدام بحق سقراط، وبرغم أن فرصة للهروب قد سنحت له بمساعدة أحد تلاميذه، إلا أنه فضّل الموت فداءً لأفكاره ومبادئه.

محاكم التفتيش وعنف الكنيسة

في العصور الوسطى، استخدمت الكنيسة العنف مع كل من كانت تعتقد بأنه من المهرطقين، أو الضالّين عن طريق الصواب والذي لا بدّ من ردّهم إلى طريق الهداية، كما هو الحال مع محاكم التفتيش التي أنشأها البابا غريغوري التاسع في القرن الثالث عشر، وبرز نشاطها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، إذ كانت تُعتبر سلطة قضائية كنسيّة استثنائية، وُضعت لقمع جرائم البدع، والردّة، وأعمال السحر في جميع أنحاء العالم، حيث كان يُساق الناس إلى تلك المحاكم للاشتباه بهم فقط، أو لوشاية أحد الجيران لهم، فكان يُعرض المُشتبه به للاستجواب حتى يعترف ب «ذنبه»، فإن لم يعترف؛ يُهَدد بالتعذيب، وهنا كان ينهار الكثيرون، ويعترفون بذنبهم، ويطلبون التوبة، فكانت تُعطى للبعض، وإن شك الحكام بهذه التوبة، كانوا يعرضونهم للتعذيب الجسدي حتى ينهاروا كلّيًا.

استندت محاكم التفتيش في الحقيقة إلى الأصول التاريخية، فقد أُشير في نصوص العهد القديم إلى المارقين، إذ كان يُجرى التحقيق مع الحائر دينيًا بعد أن يُتَهم من قِبل ثلاثة من الشهود، فإن ثبتت التهمة، أُخرِج من المدينة ورُجم بالحجارة حتى الموت.

معارضة الكنيسة للـ فلاسفة وقتلهم

إن الفلسفة الحقيقية هي التساؤل عن جوهر الوجود، وعن الوضع الوجودي للإنسان، وكان هذا ما أشعل جذوة الخلاف بين الفلسفة وأيديولوجية الكنيسة، إذ تُعتبر هذه الأيديولوجية نسق مُقفل على نفسه، يتمسّك ببعض الأفكار والحقائق، أو أشباهها، ويسعى لإشهارها، وإبراز قيمتها الكونية والمطلقة، وتكتفي بتماسك تلك الأفكار، وما يترتّب عليها من نتائج برغم انتشار كل ما يثبت خلافها.

هيباثيا الإسكندرية

في عام 380 للميلاد، وأثناء الحكم الروماني لمصر، وُلِدت الفيلسوفة هيباثيا ذات الأصول اليونانية، ابنة عالم الرياضيات اليوناني ثيون، آخر أمناء مكتبة الإسكندرية الكبرى، الذي اعتنى بتعليم ابنته وأرسلها إلى أثينا وروما لتدريس الفلسفة والعلوم، وحين عادت إلى مدينة الإسكندرية، بدأت تُعلّم المصريين ما نهلته من بحور العلم، فالتف حولها الكثير من الطلّاب، وأصبحت رمزًا من رموز الحكمة والعلم، فضلًا عن جمالها الساحر.

 كانت الكنيسة المصرية وبعض الرهبان مستفيدون من الجهل والفوضى في ذلك الوقت، وكانوا يخافون من قوّة ونفوذ العلماء والفلاسفة، ويحاولون فرض إرادتهم على المجتمع القديم، ويحاربون الدين والعقيدة اليهودية. تسبب ذياع صيت هيباثيا، والتفاف الناس لا سيما المثقفين منهم حولها، واقتناعهم بأفكارها المتسامحة مع اليهود، بغضب الكنيسة المصرية، فما كان منها إلا أن أعلنتها كافرة تحمل أفكار شيطانية. مع تزايد الخلاف بين الكنيسة المصرية وحاكم الإسكندرية أورستوس الذي كان يحترم هيباثيا ويقدّرها بشدّة؛ تأجج الغضب أكثر، وأمسى الحل الوحيد بنظرهم هو التخلّص من هيباثيا نهائيًا، ليضمنوا بقاء عقول الناس تحت سطوتهم، وإضعاف الحاكم أورستوس، وتضييق نفوذه، فجنّدوا بضعة شبان من الموالين للكنيسة، وحرّضوهم على قتل هيباثيا بتهمة الإلحاد وممارسة السحر، فواجهت هيباثيا مصيرها المؤلم المتمثل بالقتل والتنكيل على يد الغوغائيين من أتباع الكنيسة.

  • معارضة العنصريين لقادة الحقوق المدنية 
  • مارتن لوثر كينج الابن

كان مارتن لوثر كينج الابن الحائز على جائزة نوبل للسلام، قائدًا بارزًا لحركة الحقوق المدنية للأمريكيين الأفارقة، التي من شأنها ضمان حقوقهم القانونية التي يمكن أن يتحفّظ عليها باقي الأمريكيين. عُرف عن مارتن بدعوته إلى اللاعنف، والعصيان المدني، وذلك للضغط على السلطات للاعتراف بحقوق المجتمع من ذوي البشرة السمراء في الولايات المتحدة، ولبروز دوره في حركة الحقوق المدنية، تلقى كينج كثيرًا من تهديدات بالقتل، وقد واجه خطر الموت مرارًا لكن ذلك لم يُثنيه عن كفاحه من أجل المساواة في الحقوق، حيث قال لزوجته بعد اغتيال الرئيس الأمريكي كينيدي عام 1963: «هذا ما سيحدث لي أيضًا، وسأستمر بقولي بأن هذا المجتمع مريض».

وكان ما توقع فعلًا، إذ اغتيل كينج في مدينة ممفيس عام 1968، بطلق ناري في الحنجرة، وهو على شرفة غرفته في أحد الفنادق، في حادث دموي اهتزّ له العالم.

  • معارضة المتعصبين دينيًا للمفكرين (يقتلون ولا يقرؤون)
  • اغتيال فرج فودة

كاتب مصريّ علماني، اكتسب حُبّ قرّائه بسبب طبيعته التي يتحلى بها بالصدام والسجال، وعاش حياةً ملؤها العطاء والنشاط العلمي والفكريّ. دأب فرج فودة طيلة سنين حياته الفكرية لإقامة حدّ فاصل بين الدين الإسلامي والسياسة في الدولة المدنية.

لعب فودة دورًا هامًا في حياة المبدعين والمفكرين العرب المعاصرين، إذ كرّس كتاباته ليدافع فيها عن حرية التعبير والمعتقد، وآمن بأن المستقبل يكمن في التنوير، والعقلانية، وليس في الجيوش التي تخوض حروب الردّة والظلام.

حاول فودة تأسيس حزب المستقبل، وكان بانتظار الموافقة من لجنة الأحزاب التابعة لمجلس الشورى المصري، وكانت ندوة علماء الأزهر تشن هجومًا عليه، مطالبة اللجنة برفض إعطائه ترخيصًا لحزبه، بل وصدر عنهم بيانًا في جريدة النور، يُكفّرونه ويحلّون قتله.

أُصدرت الفتوى بقتل فرج فودة من قِبل أستاذ العقيدة في جامعة الأزهر محمود مزروعة، وقد تمت العملية فعلًا بعد خمسة أيام من بيان جريدة النور، حيث انتظره شابّان من الجماعة الدينية على دراجتهما، أمام جمعية التنوير التي كان يترأسها فودة، وعند خروجه منها بصحبة ابنه وصديق آخر؛ تعرّض لإطلاق الرصاص وسقط أرضًا. وعند سؤال المحققين لأحد الشابين عن سبب قتله لفرج فودة أجاب: «لأنه ينشر كتبًا تدعو للكفر والإلحاد»، وعند سؤاله عمّا إذا كان قد قرأ أيًا من كتب فودة فقال: «أنا لا أقرأ ولا أكتب».

ختامًا

حاول المتعصبون على مر السنين اغتيال كل من يخالفهم أو يتعرض لمعتقداتهم، لكن الكلمة تثبت في كل مرة أنها أقوى من السلاح، ولا تتسبب محاولات قتل أو اغتيال المفكرين المخالفين للفكر السائد بمحو فكرهم، بل بتحويلهم لإيقونات تاريخية بالتضحية في سبيل الكلمة، وبنشر أفكارهم أكثر فأكثر. 

————————– 

المصادر:

  • Emmet Kennedy. The Tangled History of Secularism، Conditions And Challenges، University of Washington، D. C.، Washington 1989. P 34
  • Artigas, Mariano; Martínez, Rafael; Shea, William R. (2005). “New Light on the Galileo affair?”. In McMullin, Ernan (ed.). The Church and Galileo. University of Notre Dame Press, Notre Dame
  • Beretta, Franchesco (2005). “Galileo, Urban VIII, and the Prosecution of Natural Philosophers”. In McMullin, Ernan (ed.). The Church and Galileo. University of Notre Dame Press, Notre Dame
  • L. S. Grinstein & P. J. Campbell )1987(. Women of Mathematics: A Biobibliographic .؛Mueller، Sourcebook. New York: Greenwood Press
  • Carson, Clayborne and Lewis, David L.. “Martin Luther King, Jr.”. Encyclopedia Britannica, 25 Aug. 2022, https://www.britannica.com/biography/Martin-Luther-King-Jr. Accessed 29 August 2022.
  • Slain Egyptian anti-Islamist writer Faraj Fouda remembered- By Ramadan Al Sherbini Correspondent
  • https://www.britannica.com/biography/Socrates/The-publics-hatred-of-Socrates
  • كارين ارمسترونغ، النزعات الاصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام، ترجمة، محمد الجور
  • ج. ويتلر، الهرطقة في المسيحية
  • أ. د. خليل حسين، دراسة منشأ الحركات الاصولية وتداعياتها، منشأ الحركات الأصولية وتداعياتها، مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية.
  • عبد القادر أحمد اليوسف، العصور الوسطى الأوروبية 
  • روبرت س. سولمون، الدين من منظور فلسفي، ترجمة حسون السراي.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا