خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ظهرت حركة ومنظومة فكرية تعتمد على مبادئ الإيثار للنهوض بالمجتمعات الفقيرة والمحتاجة ومحاولة تغيير أساليب الحياة الحالية لتحسين جودة حياة أحفادنا في المستقبل، أطلق عليها في عام 2011 حركة الإيثار الفعال أو Effective altruism.
الإيثار الفعال
قد يبدو هذا المصطلح غريباً للكثيرين، فما الذي تعنيه كلمة فعال؟ وما الفرق بينه وبين الإيثار العاديّ؟
حركة الإيثار الفعال هي حركة اجتماعية تدعو لاستخدام المنطق والأدلة والحجج لإيجاد أفضل الطرق لتحقيق أكبر قدر ممكن من الفائدة، ولأن يعيش الإنسان حياته بناءَ على هذا الأساس.
يشجع الإيثار الفعال الأشخاص على التفكير في كل القضايا والأفعال للتصرف بالطريقة التي تعطي أكبر تأثير إيجابي ممكن.
يختلف الإيثار الفعال عن غيره من الممارسات الخيرية، لأنه يؤكد على القضايا التي يمكن المقارنة والمفاضلة بينها، وعلى التدخلات التي تهدف إلى تحقيق الحد الأقصى من بعض القيم الإنسانية، وبهذه الطريقة فإنه يشبه مبدأ النفعية أوالعواقبية أي ما يدعى consequentialism. ومن أهم منظري ومفكري فلسفة الإيثار الفعال: الفيلسوف بيتر سنجر ومؤسس فيسبوك الشريك داسكن موسكوفيتز.
كما يوصف الإيثار الفعال بأنه طريقة وأسلوب ثوري في ممارسة عمل الخير وإحداث أثر فعلي في العالم.
الفرق بين الإيثار والإيثار الفعال:
لفهم الإيثار الفعال بشكل أفضل لابد من دراسته بسياقٍ مقارِن، أي دراسة الفرق بينه وبين الإيثار الذي نعرفه؟ إذ يكمن الفرق في خصائص الإيثار الفعال وأهمها عدم التحيز. فالإيثار عادةً ما يكون متحيزاً ومتأثراً بعواطفنا ومدى قرب الأشخاص إلينا واحتكاكنا معهم، ولتوضيح هذا أكثر فقصة الطفل «مايلز سكوت» مناسبة للغاية: ففي عام 2013، تجمع أكثر من 200,000 شخص في سان فرانسسكو لرؤية «مايلز سكوت» الطفل ذو الخمسة أعوام، وهو يجوب المدينة في سيارة «بات مان» مرتدياً زيّه برفقة ممثل يرتدي زي الرجل الوطواط أيضاً. كان هذا الطفل مصاب بسرطان الدم وكانت تلك أمنيته الوحيدة، وقد أسهمت جمعية خيرية ما -من خلال جمع التبرعات- في تحقيق هذه الأمنية. وقد قالت الجمعية أن متوسط تكلفة تحقيق أمنية طفل هو 7500$، كمية من النقود فعلياً يمكنها أن تنقذ أطفالاً عدة حول العالم من المجاعة أو تحميهم من الملاريا. وهنا تتجلى الانحيازات في الأعمال الخيرية وفي الإيثار، تلك الانحيازات التي تمنعنا من رؤية الصورة الكبرى. أي أن الخير العام ومصلحة الجماعة التي يجب أن تكون الأولوية.
خصائص الإيثار الفعّال:
للإيثار الفعال خصائص تميزه وتجعله يصمد كبوصلة أخلاقية تقود العمل المجتمعي والإنساني، وهذه الخصائص منها:
- عدم التحيّز: يرفض أنصار الإيثار الفعال فكرة كون حياة البعض بالأساس أكثر قيمة من الآخرين إذ كتب بيتر سينغر في مقالة «المجاعة والغنى والأخلاق» عام 1972 أنه لا فرق إذا كان الشخص الذي يمكنني مساعدته ابن جار يبعد عشر ياردات عني أو بنغالي لا أعرف اسمه يبعد عني عشرة آلاف ميل؛ تتطلب منا وجهة النظر الأخلاقية النّظر أبعد من مصالح مجتمعنا، إذ كان الأمر في السابق غير ممكن، لكنه الآن ممكن جداً، ومن وجهة نظر أخلاقية، فإن منع مجاعة ملايين الناس خارج مجتمعنا يجب أن تعتبر على الأقل مُلحّة كالإقرار بقوانين الملكية ضمن مجتمعنا.
- تحديد الأولويات: وهو وضوحاً تصنيف القضايا على أساس الأهمية للصالح العام واستخدام المصادر بشكل محدد ودقيق. ومن القضايا التي يعدها المؤثرون الفعالون أساسية هي الفقر في البلدان النامية ومعاناة الحيوانات في مزارع الإنتاج والبيئة.
- الكلفة المجدية: تقول مؤسسات الإيثار الفعال أن بعض الأعمال الخيرية أكثر فعالية بكثير من غيرها، إما لأن البعض لا يحققون أهدافهم أو بسبب التنوع في كلفة تحقيق هذه الأهداف وعند الإمكانية، يسعون لتحديد الأعمال الخيرية ذات الكلفة المجدية الأمثل، أي بالتبرع بالنقود لصالح الجمعية الخيرية الذين يثقون جداً بأنها تقوم بعملها وتحقق أهدافها على أكمل وجه. ويكون ذلك بإجراء أبحاث دقيقة حول مدى تأثير كل جمعية ومصداقيتها، ودراسة كمية التبرعات المطلوبة لإحداث الأثر أو التغيير المرجوّ.
يعتقد البعض أن الإيثار الفعال يهتم فقط بمسألة القضاء على الفقر، إلا أن مبدأ الحيادية يؤكد على أن المشكلات جميعها لها أهمية ويجب أخذها بعين الاعتبار كتقليل معاناة الحيوانات، والعدالة والقضايا التي تهدد وجودنا، بالإضافة إلى ذلك، يركز المؤثرون الفاعلون على اختيار مهنهم المستقبلية بما يتناسب مع النفع العام، إذ ينظرون إلى وظيفة تؤمّن دخلاً مرتفعاً على أنها وسيلة للتبرع أكثر وليست وسيلة للإنفاق أكثر.
الإيثار الفعال والنفعية:
يذهب الكثيرون للاعتقاد أن الإيثار الفعال لا يختلف عن مذهب النفعية أو utilitarianism، والتي ترى أن الأفعال تقيّم حسب نتائجها وأن على الشخص دومًا أن يؤثِر مصلحة الجماعة على مصالحه الخاصة، إلّا أن الإيثار الفعال لا ينص على أن الغايات والأهداف السامية تبرر الوسائل الملتوية والسيئة، فالإيثار الفعال وبالرغم من كونه يعتمد على المنطق والأفعال المحسوبة، ليس طريقة جامدة وذات رؤية أفقية لا تقبل النقاش في عمل الخير بل إنها تتمتع بالمرونة وتحتمل النقاش والتحليل.
واجبات البشرية اليوم
كتب اللورد مارتن ريس، الرئيس السابق للجمعية الملكية (Royal Society) أن احتمالات نجاة البشرية في هذا القرن «لا تتخطى نسبة 50 في المئة» وهو رقم مخيف ومقلق ويستدعي أن تقوم الحكومات بإجراءات وخطوات لإنقاذ كوكبنا من احتمالية فناءِه، لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً كأفراد.
في كتابه «فعل الخير بشكل أفضل» يقول ويل ماكاسكيل مؤسس جمعيةGiving what we can أنه لكي نتبنى الإيثار الفعال في حياتنا، يجب أن نبدأ بالإجابة على خمسة أسئلة قبل أن نقوم بعمل خير ما كالتبرع لجهة معينة بالنقود أو حتى قبل أن نختار مهنتنا المستقبلية.
وهذه الأسئلة هي:
- ما عدد الأشخاص المستفيدين مما سأفعل؟ وعلى هذه الأساس يبدأ الشخص التفكير بخياراته وقراراته.
- هل الذي سأفعله هو أفضل ما بإمكاني فعله؟ فحتى لو بدا خيارٌ ما أنه جيدٌ جداً، ليس بالضرورة أن يكون الخيار الأفضل.
- هل المنطقة أو الشريحة التي أستهدفها، أو تطالها مساعدتي مهملة ومهمشة فإذا ما كانت كذلك، فإن جهود الشخص وتأثيره سيكون ذو قيمة وفعالية أكبر.
- ما الذي قد يحدث إن لم أتصرف وأساعد؟ النظر بهذه الطريقة إلى أفعالك سيحرضك على التصرف ويزيد حماسك تجاه ما تفعل.
- ما هي فرص نجاح ما ستفعل وما حجم النفع الذي سيجلبه نجاح ما تفعله؟
بازدياد المشكلات المجتمعية والعالمية اليوم تزداد المسؤوليات التي على عاتقنا، فالتغير المناخي والمجاعة والفقر الشديد والأوبئة كلها قضايا ملحة تهدد عالمنا اليوم، وهدف المنظومات الفكرية أو الحركات المجتمعية كالإيثار الفعال أن تحدث تغييرًا إيجابيًا في المجتمع، فعلينا اليوم وتبعًا لاستطاعتنا أن نتبرع لجمعيات خيرية بطريقة مدروسة بعد إجراء دراسات حول هذه الجمعيات وعملها، كما علينا أن نساعد الآخرين على اختيار مهن تفيد العالم وتجعل منه مكانًا أفضل، كما علينا على أقل تقدير أن ننشر الوعي حول القضايا التي تهدد عالمنا حاليًا، للحد منها والسعي إلى إحداث تغييرات سياسية وجذرية في المجتمع.
ومن الأمثلة على تطبيق الإيثار الفعال، دعم الجمعيات التي توفر ناموسيات للنوم للأطفال في المناطق التي تنتشر فيها الملاريا، وبالأخص الجهات التي توفر ناموسيات معالجة بمبيدات حشرية، وذلك لتعظيم الاستفادة والنفع وحماية الأطفال من الفيروس.
علينا جميعاً أن نكون أكثر تعاطفًا ورحمة، ونهتم بالآخرين حتى لو لم تكن تربطنا بهم صلة أو قرابة دم أو وطن، كما يجب الاهتمام بتحسين الصحة العامة ومكافحة الأوبئة والأمراض المتفشية.
على الأفراد أيضا أن يكونوا أكثر مسؤولية ووعيًا بما يجري حولهم واعتماد المنطق وسيلة لاتخاذ القرارات والصالح العام هدفاً يُسعى له.
المصادر:
- https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A5%D9%8A%D8%AB%D8%A7%D8%B1_%D9%81%D8%B9%D8%A7%D9%84
- https://80000hours.org/2020/08/misconceptions-effective-altruism/
- https://www.givingwhatwecan.org/what-is-effective-altruism
- https://www.independentarabia.com/node/363221/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE