لقي مصطلح العقوبات الاقتصادية انتشارًا واسعًا في العقد الأخير، وأصبحَ إجراءً تخشاه البلدان والأفراد على حد سواء، إجراءٌ يهدد بقلب موازين القوى وزعزعة اقتصادات دول وقوى عظمى، فضلًا عن تأثيراته على اقتصادات الدول النامية وسكانها من المدنيين. العقوبات الاقتصادية ليست سياسة حديثة العهد، إذ يمكن إرجاع أول شكل من أشكالها إلى العالم القديم وتحديدًا إلى عام 432 قبل الميلاد، عندما منعت الإمبراطورية في أثينا الحركة التجارية بينها وبين تجار مدينة ميغارا، وخنقت بذلك اقتصاد تلك المدينة المنافسة. أما العقوبات الاقتصادية بمفهومها المعاصر فقد بدأت في فترة الحرب العالمية الأولى وتحديدًا في فترة نشاط عصبة الأمم، ونوقِشت إمكانية استخدام العقوبات الاقتصادية بالاستعانة بمنظمات دولية عادلة كعصبة الأمم سابقًا والأمم المتحدة. 

تبنت عصبة الأمم في ميثاقها استخدام العقوبات الاقتصادية في خمس حالات هي: 

  1. في حال انتهاك المادة العاشرة من ميثاق العصبة.
  2. في حالة الحرب أو خطر وقوع حرب.
  3. في حال عدم انصياع دول العصبة للمادة 12.
  4. في حال شنّ إحدى الدول الأعضاء حربًا دون عرض مشكلتها على مجلس عصبة الأمم أوّلاً.
  5. في حال شن دولة غير عضو حربًا على دولة عضو في العصبة.

وقد طبقت عصبة الأمم عقوبات اقتصادية على حكومة موسوليني في إيطاليا في عام 1935، دون قطع إمدادهم بالنفط. 

ماذا تشمل العقوبات الاقتصادية؟

تشمل العقوبات الاقتصادية عقوبات مالية وتجارية مطبقة من قبل دولة أو أكثر أو منظمة دولية ما بحق دولة أخرى أو فرد بعينه. وليس بالضرورة أن تكون هذه العقوبات وليده أسباب اقتصادية، بل يمكن أن تكون مدفوعة بعوامل سياسية، عسكرية، واجتماعية. ويعد هذا النوع من العقوبات أحد وسائل السياسات الخارجية التي تطبقها عادة دولة أكبر وأقوى على دولة أصغر. تعد العقوبات الاقتصادية بديلًا عن الحرب لتحقيق غايات سياسية متعلقة بالتجارة أو بحقوق الإنسان.

 إن فعالية وكفاءة هذا النوع من الحلول محل جدال حتى وقتنا الحالي، فلتطبيقها الكثير من النتائج السلبية واللاإنسانية، وقد يؤدي إلى عواقب غير محسوبة، فأكثر المتضررين من هذه العقوبات هم المدنيون في الدول المعاقبة، والذين لا ذنب لهم في المشاكل السياسية بين الدول. وانطلاقًا من هذا، فقد برز مفهوم العقوبات الاقتصادية الهادفة أو الذكية، والتي تهدف لتخفيض الأضرار الجانبية والعواقب غير المحسوبة للعقوبات الاقتصادية من خلال استهداف أفراد بعينهم أو منظمات مسؤولة وذات صلة بالمشكلة أو الخلاف، بدلًا من الدولة بأكملها. 

وقد نادى أحد قادة مسؤولي حقوق الإنسان في القمة  48 لمجلس حقوق الإنسان بأن تعيد حكومات العالم تقييم ومراجعة مفهوم العقوبات الاقتصادية، لتجنب الوقوع في انتهاكات لحقوق الإنسان. 

في الواقع، وبالرغم من كون العقوبات الاقتصادية بديلًا للحروب، فهي شكل آخر لها، شكل قد يكون له آثار أكثر خطورة من الحرب العسكرية، إذ وصفها الرئيس الأميركي السابق، وودرو ويلسون، بأنها «شكل مروّع أكثر من الحرب»، شكل قد يؤدي بالمواطنين الأبرياء للموت جوعًا، خاصّة في الدول ذات الاقتصاد الضعيف. وعلى الجانب الآخر، قد تؤثر العقوبات الاقتصادية إيجابًا على اقتصادات بعض الدول، دافعةً إيّاها للاكتفاء الذاتي. 

بعض من أشهر العقوبات الاقتصادية وتأثيراتها: 

عقوبات الولايات المتحدة على كوبا: 

الحصار الاقتصادي الأطول في التاريخ الحديث، بدأ في عام 1958 بحظر الولايات المتحدة بيع الأسلحة لكوبا، وبعد عامين، فرضت الولايات المتحدة حظرًا على الصادرات إلى كوبا باستثناء الغذاء والدواء وبعدها بعامين امتد ليصبح حظرًا على جميع الصادرات تقريبًا. ولا يزال الحصار قائمًا حتى اليوم بعد تعرّضه للكثير من التعديلات والتغيرات. أما السبب وراء الحصار، فقد كان نتيجة مخالفة كوبا لقوانين الولايات المتحدة التي منعت بيع الأسلحة لدول أميركا اللاتينية، وتفاقم الخلاف بسبب خلافات إيديولوجية في أعقاب انتصار الثورة الكوبية بقيادة فيديل كاسترو، والتي أدت إلى تأميم جميع ممتلكات الشركات الأمريكية في الجزيرة. 

أمّا تبعات الحصار، فقد اشتملت على عواقب إنسانية وصحّية، تضمنت نقص في الغذاء، والماء النظيف والأدوية، وبالرغم من تعديل بنود الحظر للسماح بتصدير الغذاء والدواء لكوبا، مازالت هناك قيود على تنفيذ هذه التعديلات. انعكست العقوبات بشكل مباشر على الاقتصاد الكوبي، فقد شهد البلد في عام 1989، أعتى أزمة اقتصادية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وكلف الحصار كوبا مليارات الدولارات. 

عقوبات الولايات المتحدة ضد كوريا الشمالية: 

فرضت الولايات المتحدة عقوبات على كوريا الشمالية في عام 1950، وشددتها عقب قصف كوريا الشمالية لكوريا الجنوبية بالصواريخ، واشتملت العقوبات حظرًا لتجارة الأسلحة مع كوريا الشمالية، ومن ثم توسع ليشمل البضائع أيضاً.

العقوبات الاقتصادية على سوريا:

جزء من الحرب الاقتصادية التي تشنها الولايات المتحدة على معظم خصومها، وهي مجموعة من القوانين الاقتصادية التي تهدف لتضييق الخناق على الحكومة السورية والتي بلغت أوجها بعد بداية الحرب الأهلية السورية وصولاً إلى قانون قيصر الذي يعتبر أكثرها تأثيراً. في الواقع، العقوبات الاقتصادية على سوريا ليست جديدة، فيمكن إرجاعها إلى عام 1979، عندما فرضت الولايت المتحدة أولى العقوبات الاقتصادية على سوريا بحجّة دعم الأخيرة للإرهاب. شملت هذه العقوبات عقوبات التصدير وعدم الأهلية لتلقي معظم أشكال المساعدة الأمريكية أو شراء المعدات العسكرية الأمريكية، بالإضافة إلى منع البنوك والشركات الأمريكية من الاحتفاظ بحسابات مراسلة مع المصرف التجاري السوري، الأمر الذي أثر بشكل كارثي على الاقتصاد السوري. وسعت الحكومة الأميركية في آب عام  2011العقوبات لتشمل شركة تسويق النفط السورية والشركة السورية للنفط، وتجميد كل الأصول السورية الموجودة في الولايات المتحدة أو التي تقع تحت طائلة الاختصاص القضائي للولايات المتحدة. حظرت تلك العقوبات على الأميركيين القيام باستثمارات جديدة أو تقديم خدمات لسوريا، كما حظرت استيراد المنتجات النفطية السورية. وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد جمّدت ممتلكات ثلاثة معاهد ومختبرات سورية هي: المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا، والمختبر الوطني للمعايير والمقاييس، ومعهد الهندسة الإلكترونية، وأدرجتها ضمن القائمة الأميركية للمراكز المستخدمة لنشر أسلحة الدمار الشامل.  

كما تجلى هذا الحصار الاقتصادي مؤخرًا بقانون قيصر لعام 2019 والذي اشتمل جميع العقوبات السابقة بالإضافة لعقوبات لشخصيات سياسية بعينها.

أما نتائج هذه العقوبات على سوريا، فهي نتائج خانقة، تبدأ بارتفاع أسعار المشتقات النفطية وقلة تواجدها، مرورًا إلى انخفاض سريع جدًا بسعر الليرة السورية مقابل الدولار، ووصولًا إلى تحول جزء من الطلب على العملة الأجنبية من السوق النظامية إلى السوق السوداء، وقد انعكست تلك الآثار على أسعار السلع والخدمات الأساسية حتى الكهرباء والماء. هذا كله بصرف النظر عن الآثار على السياحة والثقافة ومستوى رفاهية الشعب وسعادته، والتي لاقت انخفاضًا وتدهورًا شديدين. 

في الختام، تعد العقوبات الاقتصادية أداة قوية يمكن استخدامها للتأثير على سلوك الدول والمنظمات، وغالبًا ما تستخدم كبديل للقوة العسكرية، لكنها غالبًا ما تنضوي على آثار كارثية على اقتصاد وشعب البلد المستهدف. لذلك من المهم لواضعي السياسات أن ينظروا بعناية في العواقب المحتملة للعقوبات قبل تنفيذها، وأن يعملوا مع البلدان والمنظمات الأخرى لتنسيق جهودهم والسعي لابتكار طرق أكثر إنسانية وعدلًا لحل النزاعات.

المصادر: 

  1. https://en.wikipedia.org/wiki/Economic_sanctions
  2. https://www.carter-ruck.com/insight/a-brief-history-of-economic-sanctions/
  3. https://yalebooks.yale.edu/2022/02/24/the-history-of-economic-sanctions-as-a-tool-of-war/

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا