لنفترض معًا بأنني استيقظت صباحًا، على رنين منبّهي المعتاد، وأسمع أصوات السيارات أسفل شُرفتي، أنقّل نظري في محيط غرفتي شبه المظلمة، وأتجه نحو الحمّام لأغسل وجهي، بينما تزداد الإضاءة سطوعًا كلّما تقدّمت أكثر، وعندما يقع نظري إلى المرآة تبدأ الأمور بالغرابة؛ لا أرى شيئًا فيها سوى انعكاس بقية الحمام، كيف يمكن لهذا أن يحدث؟ عادة ما يكون هذا الجزء غير مرئي عندما أقف أمامه.

أشعر بالذعر من هذا الموقف وأحاول لمس رأسي وبقية جسدي، لكن دون جدوى؛ أنظر نحو الأسفل لأتفقد ذراعيّ، لا أراهما أيضًا، وازداد ذعرًا …

ما فعلناه في هذا الافتراض، هو أننا تمكننا من تخيّل وجود وانعدام العقل والجسد على حد سواء، لقد امتلكنا القدرة على طرح الأسئلة -لماذا لا أرى جسدي في المرآة، لماذا لا أستطيع الإحساس برأسي-، بالإضافة للشعور بالهلع، لقد استطعنا في هذه القصة ممارسة الوعي أو التفكير.

 لكن ماذا يعني هذا؟

 انبثقت العلاقة بين العقل والجسد من فكر الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي رينيه ديكارت (René Descartes) في القرن السابع عشر، في واحدةً من أشهر أطروحاته التي ترتكز على أن العالم ينقسم في جوهره إلى نوعين اثنين:

 –  الأول هو الجوهر الذهني، الذي يمثّل الوعي أو التفكير:

فقد طور ديكارت نظرية العقل ليميّز الجوهر الذهني بكونه غير مادي، وغير مُمتد، يشارك في أنشطة مختلفة أو يخضع لحالات مختلفة مثل التفكير العقلاني، والتخيل، والشعور (الإحساس)، والرغبة. 

–  الثاني هو الجوهر الفيزيائي أو المادي، ويتمثّل بامتداده المكاني في الأبعاد الثلاث:

إذ اقترح ديكارت بأن المادة، أو المادة الممتدة، تتوافق مع القوانين الفيزيائية بطريقة ميكانيكية، مع وجود استثناء مهم لجسم الإنسان، والذي يعتقد ديكارت بأنه يتأثر سببيًا بالعقل البشري، لكونه يُنتج بعض الأحداث العقلية بشكل سببيّ.

 أي أننا لو استطعنا تخيّل وجود شيء، دون وجود الآخر (كـ العقل والجسد)، فهذا يعني حتمًا أنهما شيئان مختلفان، وبالتالي -حسب ديكارت- فإن العقل والجسد كيانان مستقلان، متمايزان، ومنفكان عن بعضهما البعض، ولا يمكنهما أن يكونا كيانًا واحدًا. فالعقل هو أداة للتفكير، ليس بإمكانه التمتع بالخواص المادية للأشياء من حجم وشكل وصلابة، على عكس الدماغ، الذي يتمتع بالخواص الفيزيائية كونه يشغل حيّزًا من الفراغ.

يفسّر بعض أنصار هذا المذهب بأنه وبرغم هذا التمايز بين الجوهرين، لكن هناك علاقة متبادلة تربط بينهما، -أو تفاعل إن صح التعبير-؛ إذ يمكن للعقل والجسد أن يؤثرا ببعضهما، فعلى سبيل المثال، لو وصلت النار إلى يدك، سينقل جسمك المعلومات الحسّية من يدك إلى عقلك، لينتج عنها تجربة الألم، والعكس صحيح، أي أن الظواهر الذهنية تؤثر في الظواهر الجسمانية ويتأثر بها الجسد. أي بعد أن تشعر بالألم يمكنك إطاعة عضلاتك، وتحريك يدك بعيدًا عن النار. 

كل ذلك من وجهة النظر الديكارتية، لكن ماذا عن المنتقدين؟

مرّ ديكارت، بتحديات ومواجهات نقدية ضد أفكاره منذ نشر تأملاته بنسختيها عام 1641 و 1642، كثيرًا ما تعلّقت تلك المواجهات بآرائه حول خلود النفس البشرية، وتمايز النفس عن الجسد، وغيرها من القضايا القابعة في صفحات الكتب، ولكثرة خوضه وتفكيره في طبيعة الإله، تدخلّت السلطة الدينية آنذاك ونُفي من فرنسا.

 ولعل أبرز التحديات التي واجهها ديكارت كانت مع «إليزابيث» أميرة بوهيميا، التي لو كانت في عالم مختلف بقليل عن عالمنا، ستكون فيلسوفة عظيمة، إذ كانت تتقن اللغات الأجنبية، والهندسة، وعلم الفلك. لكنها في النهاية امرأة في القرن السابع عشر، ولم تملك تلك الفرصة لتصبح فيلسوفة. جمعت بين ديكارت وإليزابيث صداقة تنافسية بعض الشيء، حيث كانت منفّيّة بدورها بعد خسارة أبيها ملك بوهيميا لحرب دامت 30 عامًا.

 صاغت إليزابيث آراءها في رسائل كانت تبعثها لديكارت عام 1643، بعد أن أعادت قراءة كتابه، متسائلة فيه عن جدوى الطريقة الجديدة التي سنّها في الحديث عن العقل والجسد، لأنها لم تفهم جزءً أساسيًا من فلسفته، أو لم تقتنع به. لقد اعتقدت اليزابيث بأن فلسفته كانت خاطئة، فخاطبته بإحدى الرسائل بطريقة تبدو فيها تتلاعب بفكرة أن الروح يمكن أن تكون متميّزة عن الجسد فيما يتعلّق بفعل التفكير قائلة:

«قل لي من فضلك، كيف يمكن لروح الإنسان، (التي لا تزيد عن كونها كيانًا مفكرًا)، أن تحدد حركة الأرواح الجسدية، وتؤدي بذلك إلى حصول حركات إرادية، لأنه كما يبدو لي أن كل تحديد للحركة ما هو إلا نتاج ظروف ثلاث؛ الأول عن طريق اندفاع الشيء المتحرك بذاته، والثاني أن يتم دفعه من قِبل عامل مُحرّك، والثالث من خلال الصفات الخاصة لشكل وسطح هذا العامل المُحرك. يستلزم العاملان الأول والثاني اتصالًا جسديًا، أما العامل الثالث يستلزم الامتداد في الأبعاد المكانية. إنك استثنيت الامتداد تمامًا عن تصورك للنفس، ويُخيّل لي أن الاتصال الجسدي هنا لا يتلاءم مع كونها شيئًا غير مادي. وهذا هو الذي يزيد إلحاحي، ويحثّني على أن أطلب تفسيرًا أكثر دقة للنفس مما أتيت على ذكره في الماورائيات الخاصة بك، وهو تفسير لجوهر النفس عندما يكون متوقفًا عن فعل التفكير».

 فصاغ ديكارت جوابًا مدافعًا به عن ثنائية العقل والجسد، استند فيه إلى رأي مفاده، بأن كل ما نملكه، ما هو إلا عدد محصور من المفاهيم التي يمكن اللجوء إليها والنجاح في تفسير الظواهر التي تكشف عنها. واقترح في رسالة كتبها أن هناك خاصيتين مختلفتين تتميز بهما النفس تتطلبان التفسير: إحداهما أن النفس تفكر، والثانية أن اتحادها بالجسد يجعلها تؤثر فيه وتتأثر به.

لم تقتنع إليزابيث بجواب ديكارت؛ لذلك نجدها تعيد صوغ شكوكها بأنك تعتنق مذهب ثنائية العقل والجسد، وتعتقد بوجود الجسد، وبوجود العقل غير الماديّ المنفصل عن الجسد وهو الروح (أو النفس)، لكن الجسد يخضع لقوانين، -التي نُسميها في يومنا هذا قوانين الفيزياء-، إذًا كيف يقوم هذا العقل أو الروح غير الماديّة، بالتأثير على الجسد، كيف للعقل أن يُخاطب أو يؤثر سببيًا على الجسد؟

تقول له في رسالة خطتها في (20 يونيو 1643) قائلة: «من السهل عليّ أن أنسب المادة والامتداد إلى النفس، على أن أنسب القدرة على تحريك الجسد والتحرك بسببه إلى موجود غير مادي».

لم يجد ديكارت إجابة شافية لهذا السؤال، رغم محاولته لذلك لكونه أخذ انتقاداتها على محمل الجد، وتصوّر وجود غدد معيّنة في الجهاز العصبي، كالغدة الصنوبرية –التي كانت مثاله المفضّل-، قد تأتي بواسطتها الإشارات من الروح غير المادية، وتعطيك الأوامر.  

 خلاصة القول

من الواضح بأن تغييرات مهمة قد طرأت في توجهنا الفكري خلال منتصف القرن السابع عشر، إذ أصبح النظام السائد آنذاك منحصر بالتفسيرات الميكانيكية، لكن هذه التفسيرات تركت سؤالًا دون جواب: بمَ نفسر العقل البشري والوعي البشري من وجهة النظر المادية والميكانيكية؟

في فلسفة العقل، تعتبر الثنائية بين العقل والجسد التي توافقت مع فلسفة رينيه ديكارت بأن الظواهر العقلية، في بعض النواحي غير مادية، أو أن العقل لا يمكنه أن يواءم الجسد، وبالتالي، فإنها تشمل مجموعة من وجهات النظر حول العلاقة بين العقل والجسد (أو المادة)، وتتناقض مع مواقف أخرى، مثل المادية في مسألة العقل والجسد. وقد عرّف ديكارت العقل بأنه الإدراك والوعي الذاتي، وميّزه عن الدماغ بأنه موضع الذكاء. لذا، فقد كان أول من صاغ مسألة العقل والجسد في صيغتها المعروفة اليوم، لقد احتاج إلى طريقة تمكّن العقل من التخاطب مع الجسد، لكن لم تنجح طريقته، ورأينا كيف أتت اعتراضات الأميرة إليزابيث لتكون أساسًا متينًا نستوحي منه اعتراضاتنا في أيامنا هذه، أي تلك الفرضيات التي تضع العقل أو الوعي في فئة أو صندوق منفصل عن العالم المادي.

كل ما فعلناه في العلم في القرون الثلاثة الماضية، أعطانا أسبابًا لنعتقد بأن العقل أو الوعي، ليس منفصلًا عن المواد التي تكونّا منها، والعقل ظاهرة منبثقة إن جاز التعبير، كونه نتيجة لتفاعل جميع تلك المواد، وأعتقد بأننا لم نقترب من فهم كل هذا، فهناك الكثير من الأبحاث الواجب إجراؤها.

قبل الختام يراودني سؤال فيما لو كان ديكارت في عالمنا المعاصر:

هل كان سيعارض فكرة الذكاء الاصطناعي؟، هل كان ليعتقد أن الآلات بإمكانها أن تفكّر؟

لا أعتقد ذلك.. أو لنقل لا أدري…

المصادر: 

  •  1- A Brief Introduction-John R. Searle-OXFORD-UNIVERSITY PRESS-2004-Oxford New York
  • 2- Mehta, Neeta. “Mind-body Dualism: A critique from a Health Perspective.” Mens sana monographs vol. 9,1 (2011): 202-9. doi:10.4103/0973-1229.77436
  • 3- https://iep.utm.edu/substanc/#H2
  • 4- Shapiro, L. (2008). Princess Elizabeth and Descartes: The union of soul and body and the practice of philosophy. British Journal for the History of Psychology, 7(3), 503-520.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا