لأكثر من قرنين من الزمن، ارتبط العلم ارتباطًا وثيقًا بتقدم الدول. تمكن المنهج العلمي من إحداث تطورات فكرية هائلة غيرت من أسلوب حياتنا وطورته، وغيرت نظرتنا لأنفسنا وللكون المحيط بنا. ومما لا شك فيه أن التفكير النقدي ، الذي يمثل قدرة العقل على تحليل صحة أي ادّعاء بشكل موضوعي، يمثل أحد أهم الركائز التي يقوم عليها المنهج العلمي.
يمكن للتفكير النقدي أن يتمثل بسؤال طفل في السابعة من عمره عن حقيقة وجود بابانويل أو عن حقيقة سفر جدته العجوز إلى مكان بعيد جدًا لا يمكن السفر إليه، ويمكن له أيضًا أن يكون بمنتهى التعقيد، كتشكيك أهم عقول الفيزياء في القرن الحادي والعشرين بصحة تشويه الجاذبية للزمكان. التفكير النقدي هو النقطة التي يتخذ فيها العقل موقفًا معارضًا للحقائق التي اعتاد تقبلها دون بذل أدنى جهد، ويبدأ بتحليلها، معلنًا الاستعداد للرضا بأي نتيجة يمكن أن يتوصل إليها.
استخدم العالم والفيلسوف الأمريكي جون ديوي مصطلح التفكير النقدي لأول مرة في عام 1910 في كتابه «كيف نفكر»، ووصفه بأنه التأني في إصدار الأحكام لحين إتمام عملية التحقق. يدعونا ديوي في كتابه لإعادة النظر في أصل معتقداتنا وكيفية تأثيرها بأفعالنا وتصرفاتنا، إذ أنّ ميلنا الدائم لبناء معتقداتنا على أسس غير علمية والتمسك بها بدون تفكير، وإراحة العين عن تتبع الأدلة المعارضة لها يحول دون السماح لنا بفهم الكون من حولنا بشكل صحيح.
التفكير النقدي في كتاب عالم تسكنه الشياطين
من المعروف عن العالم الفلكي الأمريكي كارل ساغان أنه دائمًا ما يدعو الناس إلى اعتماد أسس التفكير النقدي وتبني المنهج العلمي للتفكير، والتشكيك في صحة جميع الأفكار والمطالبة بالحجج القائمة على الأدلة.
يركز ساغان في كتاب «عالم تسكنه الشياطين – الفكر العلمي في مواجهة الدجل والخرافة» على وسائل التفكير النقدي المستقل ويتحدث عن غياب هذه الوسائل عن مناهج التدريس الغربية الحالية، ما يهدد بخلق مجتمع فاشل وتابع يرفض التفكير.
بالاعتماد على أسس التفكير النقدي، يضع ساغان الخرافات موضع الدراسة، ويدرسها دراسة عقلانية تقارع الحجة بالحجة وتدحض الأكاذيب بالحقائق والأدلة الدامغة في محاولة منه لتعزيز الشك عند القارئ وإكسابه مناعة ضد العلم الزائف.
يستشهد ساغان في كتابه بإحصائيات صادمة عن الأمريكيين الأميين، والذين يؤمنون بالعلوم الزائفة وبوجود كائنات فضائية تزور الأرض باستمرار ولها اتصالات مع بعض البشر وبوجود حضارة أطلانتس التي توصلت لاكتشاف الكهرباء، وغيرها من الخرافات التي لا يوجد أي دليل ملموس يثبت صحتها أو حقيقة حدوثها. لا يتطرق الكتاب إلى نسب المؤمنين بالخرافات والعلوم الزائفة في بقاع أخرى من العالم لأن الإحصائيات المماثلة في غاية الندرة، ولا شك بأن الإيمان بأمور كعين الحسود وقراءة الطالع والتنجيم والبرمجة اللغوية العصبية وغيرها من الخرافات والعلوم الزائفة هو أمر شائع جدًا عند مختلف الشعوب العربية، وحتى في الطبقات المثقفة منها.
يرى ساغان أن الأنصار المعاصرين للخرافة ليسوا جهلة بالضرورة، بل هم قارئون نهمون ويبرر ميل الكثير من الناس لتصديق العلوم الزائفة بارتباطها غالبًا بأحد فروع العلوم الحقيقية، فالتنويم المغناطيسي، على سبيل المثال، مرتبط بشكل أو بآخر بعلم النفس، والتنجيم مرتبط بعلم الفلك. يضفي هذا الارتباط نوعًا من الرصانة العلمية على الدجل المعاصر.
ينظر العوام إلى المنتمين الأوساط الأكاديمية، حسب ساغان، باعتبارهم شخصيات نخبوية وبعيدة عن الواقع، مع ذلك، لا يعتبر ساغان العوام ذوي ذكاء منخفض، بل يعتبرهم ضحايا للمجتمع والبيئة المحيطة التي غرست فيهم عقلية تقبل الشائع ورفض تحكيم العقل والمنطق.
في محاولة منه لمساعدة الناس على كشف المعلومات الزائفة، خصص ساغان فصلًا من كتابه ليوضح أنواع الخداع التي يقع الناس عادة ضحية لها سواءً من قبل المتعصبين دينيًا أو العلماء أو الإعلانات، وطرح «مجموعة كشف الهراء» المكونة من تسع أدوات وتقنيات معرفية قائمة على التفكير النقدي لتحصين العقل وحمايته من الخرافات والأكاذيب، وهي:
- المصادقة على «الحقائق» من مصادر مستقلة.
- مناقشة الأدلة بموضوعية مع اطّلاع أصحاب وجهات النظر على جميع وجهات النظر الأخرى.
- الامتناع عن إعطاء الحجج المتبناة من قبل السلطات أهمية كبيرة، فقد ارتكبت السلطات أخطاءً في الماضي، ولا شك بأنها ستستمر بارتكاب الأخطاء مستقبلًا. «لا سلطات في العلم، وإنما خبراء».
- وضعُ أكثر من فرضية واحدة ودراسة كل منها على حدا لتفسير أي حدث. والتفكير في جميع الاختبارات المنهجية التي يمكن استخدامها لدحض الفرضيات. من المرجح أن تكون الفرضية الأخيرة التي تنجو من هذه الاختبارات هي الفرضية الصحيحة.
- الامتناع عن التعلق العاطفي بالفرضية من قبل الشخص الذي وضعها، بدلًا من ذلك، اعتبارها محطة من محطات طريق السعي وراء المعرفة. وتكرار التساؤل عن سبب الإعجاب الشخصي بفرضية ما، ومقارنتها بشكل موضوعي مع البدائل، ومحاولة البحث عن الأسباب التي تستوجب دحض الفرضيات الشخصية.
- هناك دومًا العديد من الفرضيات المتنافسة، من الضروري أن يكون الباحث قادرًا على التمييز بينها من خلال إثبات أي منها تدعمه الحقائق، وأي منها تدعمه الآراء الشخصية غير الموضوعية.
- إذا كانت هناك سلسلة من الحجج المترابطة، يجب إثبات صحة جميع الحجج بعد دراستها منهجيًا وبشكل مستقل، ولا يكفي إثبات أغلبها فقط.
- اختيار الفرضية الأكثر بساطة بين فرضيتين تفسران البيانات الموجودة بنفس الجودة.
- التساؤل الدائم عن إمكانية تزوير الفرضية، فالافتراضات غير القابلة للاختبار والتي لا يمكن دحضها، لا قيمة لها.
لم يعطنا ساغان تعليمات موجزة فقط عن التفكير النقدي، بل وضع لنا قائمة شاملة للطرق التي يخدعنا بها عادة العقل من خلال المغالطات المنطقية الأكثر شيوعًا وخطورة. يمثل فصل «فن كشف الهراء» في كتاب «عالم تسكنه الشياطين» إعادة صياغة غير رسمية للمنطق والبلاغة الكلاسيكيين لأرسطو ولفلسفة فرانسيس بيكون الطبيعية.
هل لتصديق الهراء علاقة بمستويات الذكاء؟
أظهرت دراسة نشرتها مجلة Judgment and Decision Making أن الأفراد الميالين لتصديق «الهراء» غالبًا ما يتصفون بقلة الذكاء مقارنة مع أقرانهم.
أدرج القائمون على البحث العبارات المنمقة بإحكام والادعاءات شديدة الغموض والجمل الملفقة المكتوبة بصيغة علمية تحت بند «الهراء»، واعتمدوا استخدام عبارات خالية من أي معنى وإعادة صياغتها لتبدو كأنها مقالات أكاديمية.
استعمل العالم غوردن بينيكوك موقعًا إلكترونيًا يقوم بتركيب العبارات المقنعة و المنمقة تلقائيا (New Age Bullshit Generator) لإظهار مدى سهولة إنشاء الهراء. تظهر في الصفحة الرئيسية للموقع العبارة الترحيبية التالية: «الشفاء هو نمو الأمل، و فينا نحن، نحن نرجف، نحن نوجد، نحن نولد من جديد».
اختبر العالم بينيكون مع فريق من الباحثين العبارات المولدة عن طريق الموقع آنف الذكر على مجموعة مكونة من 300 متطوع لمعرفة مدى تقبل المجتمعات لهذا النوع من الهراء.
أظهرت الدراسة أن ما يزيد عن 25% من المشاركين اعتبروا العبارات التي قرؤوها مقنعة، أو مقنعة جدًا.
بمقارنة النتائج الفردية لكل شخص مع مهاراته الحسابية وذكائه اللغوي ومعتقداته الدينية ومقدرته على التمييز بين المعنى المجازي والحرفي لكل عبارة، خلصت الدراسة إلى ما يلي:
«الأشخاص الذين يميلون لتصديق نظريات المؤامرة اللامنطقية، الذين يؤمنون بفعالية الطب البديل، وبالقوى الخارقة للطبيعة، والذين يخلطون بين المعنى المجازي والحرفي للمعلومات كانوا الأقل ذكاء والأقل قدرة على تحليل البيانات بشكل منطقي».
ختم الباحثون ورقتهم البحثية بعبارة للعالم كارل ساغان: «إحدى فوائد امتلاك المعرفة الكافية لكشف هراء الآخرين ورفضه هي أنها تفتح عيوننا على هرائنا».
المصادر:
- كتاب عالم تسكنه الشياطين – الفكر العلمي في مواجهة الدجل والخرافة، تأليف: كارل ساغان.
- Judgment and Decision Making, Vol. 10, No. 6, November 2015, pp. 549-563.